كفى تشويها للإسلام يا «بوكو حرام»
د. رشيد نافع
هوية بريس – الثلاثاء 20 ماي 2014
يؤسفني أن أرى اليوم بعض الذين يدافعون ويبررون أخطاء جماعة “بوكو حرام” النيجرية التي تقوم بها هذه الأيام..
فالجماعة تعترف بارتكابها هذه الجرائم باسم الإسلام ونحن نصفق لهم؟ وأن هذا رق مشروع!!
سبحانك هذا بهتان عظيم.
لقد كان الظهور الأول لهذه الحركة في عام 2004 تحت اسم “حركة الهجرة”، في إشارة إلى هجرة عناصرها للمجتمع النيجيري الذي ينظرون إليه بوصفه مجتمعاً مدنساً غارقاً في الفقر الأخلاقي والسياسي، ولذلك فإن أفضل شيء للمسلم المتدين -من وجهة نظرهم- هو هجر الخطايا والفساد إلى مكان أو مجتمع تتحقق فيه العدالة الإسلامية، والوسائل الشرعية في الحصول على الرزق.
إن تبحّر الشبكات والأماكن لاصطياد الدلائل لتأييد هذه الجماعة لشيء غير توازني، فكلنا نعرف الحكومة الحالية أنها فاشلة وغير قادرة. لكن، هل هذا يبرّر ما تقوم به هذه الجماعة من اختطاف الطالبات وسلسلة من الانفجارات مع اعترافهم بها… وصار الطلاب يخافون من الذهاب إلى المدرسة خوفا من الاختطاف.
كتب أحدهم على صفحته: “..إن أحسن ما في الحدث أن الطلبة المختطفات أسلمن“.
وأنا أقول: هل هكذا فهمنا الإسلام وأحكام دنيانا؟ ومتى صار اختطاف عدد هائل من الكفار أو المسلمين أسلوبا ومنهجا لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام؟؟ أو يقتلوا كل من كان ضد مذهبهم؛ فهذا ما لن يقبله أي مسلم واع لمفاهيم وثقافات دينه الحنيف…
..فالمسلم يتسم بالعدل والإنصاف حتى مع مخالفيه.. فلا يجوز له أن يتجاهل ولو ذرة خير يتصف بها المجتمع.. بل عليه أن يثمن الخير الموجود في مجتمعه، ويركز عليه، ويضيف إليه، ويدعمه.. ويحاول في الوقت ذاته أن يقلل من الشر، ويحجمه.. وكل ذلك بحكمة وتؤدة ورفق وأناة.. فالزمن جزء من العلاج.. وما لا يدرك كله لا يترك جله، وما زال الخير في أمة الإسلام إلى قيام الساعة.
وهنا تجدني مضطرا للرد على هذه الشبهة الفضفاضة
شبهة الرق في الإسلام كزوبعة في فنجان
بسبب هذه الحماقات التي تقوم بها “بوكو حرام” ومن هم على خط سيرها، ويضفون عليها صبغة شرعية، يدعى الحاقدون على الإسلام أنه غير صالح على امتداد الزمان والمكان وذلك لأنه أحل الرق وأقره وهذا لا يناسب سوى العقلية المنغلقة في العصور القديمة، ثم إن الرق قد بطل العمل به وانقطع فكيف لم يذكر الوحي هذا مع افتراض علمه ببطلان الرق مستقبلاً؟!
فالرق من الأمور التي كانت منتشرة قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم يكن طرفا أوحد فيها، ولكنه جفف منابعها، ودعا إلى تركها، وجعل عتق الرقاب من أفضل الأعمال المقربة إلى الله تعالى، وأبدى الإسلام رغبته في تحريمه من جميع الأطراف، فقال: “فَإِمَّا مَنًّا بعدُ وإمَّا فِداءً حتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها“، ولكنه ما كان يعقل أن لا يكون هناك أسرى حرب في الإسلام، في حين تسبى نساؤهم ويرق رجالهم.
أما تحريم الخمر أو الربا، فكان في معاملة المسلمين أنفسهم، وهم قد يكونون طرفا واحدا فيهما، فحرم عليهما.
والمنصف يرى حال البشرية وموقفها من الرق بجانب موقف الإسلام في العصر القديم، ليرى أن الديانات الأخرى كانت تدعو إلى الرق والاستعباد، في الوقت الذي كان يدعو الإسلام إلى تحرير العبيد والمساواة الإنسانية بين بني البشر.
يقول فضيلة الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-:
في مطالع البعثة المحمدية كان الرقيق واقعًا غير مُؤلِم ولا مستغرَب ولا منكور، وكانت جماهير الأرقَّاء تَزحَم المشارق والمغارب، لا يَأْبَهُ لهم أحدٌ ولا يفكر في إنقاذهم مُصْلِح.
في أرجاء الدولة الرومانية النصرانية كان العبيد يَخدمون في صمت، وربما قُدِّم بعضهم طعامًا للوحوش في بعض المناسبات، وكان اليهود -وَفْقَ تعاليم التوراة- يُنظمون أساليب الاسترقاق للعِبرانيين وغير العبرانيين.
ولم الأسَى على الرقيق وحدهم؟ إن المَنبوذين في القارة الهندية كانوا أنجاسًا لا تُعرَف لهم حُرمة، ولقد وقع ابنٌ لامرأةٍ بِرَهْمِيّةٍ في بئر، وكان أحد المنبوذين يستطيع إنقاذه لو أذنت أُمه، لكن الأم فضَّلت أن يموت ولَدُها ولا يعيش بعد ما لَمَسه مَنْبوذ!
الإسلام أول من تكلم في تحرير الرقيق في عصره
في هذا الجو القابِض الظَّلُوم كانت الإنسانية تعيش، ما أنصَفَتها فلسفة اليونان التي تُقرُّ الاسترقاق بعقلها المُفكر! ولا أنصَفَتها مَواريثُ التديُّن التي احتضنها الكهنة وأظلَمَت بها الأرض، حتى تكلَّم محمد، وأصاخ الناس إلى ما جاء به، فإذا هم يسمعون أن البشر كلهم إخوة بينهم نسَبٌ واحدٌ، وتَسري في أوصالهم نفخة مِن روح الله، وأنهم سواسيةٌ في الحقوق والواجبات، وأنهم خُلقوا ليَتعارفوا ويَتحابُّوا (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلَقْناكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعلناكم شُعوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ) (الحجرات:13)، وسمع الناس للمرة الأولى في تاريخهم أن المُسترَقِّينَ يجب أن تُفَكَّ قيودُهم وتُعتقَ رِقابُهم، وأن العانِينَ ينبغي أن يُحرَّروا من الذُّلِّ والجُوع والهوان، وأن العقبات دون هذا كله لابد مِن اقتحامها لمَن يريد رضوان الله (فلا اقْتَحَمَ العَقبةَ. ومَا أدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أو إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. أوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد:11ـ16)، وعلى المؤمنين أن يَتجرَّدوا لأداء هذا الواجب، فلا يُحرِّروا الأسرى ليَجعلوهم أتباعًا أو عبيدَ إحسانٍ بعد ما كانوا عبيدَ سطوةٍ، كلاّ، إنهم كما قال تعالى: (ويُطْعِمُونَ الطعامَ علَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا. إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكورًا) (الإنسان:8ـ9).
إلغاء الإسلام لمصادر الرق:
ولمَّا جاء دور التشريع لنقل هذه المبادئ إلى قوانينَ مُلزِمةٍ نظَر الإسلام إلى مصادر الرِّقِّ فألغاها كلها على النحو الآتي:
الرق للعجز عن سداد الدين:
كان الرُّومانيون ومِن قبلِهم العبرانيون يَحكمون بالعُبودية على مُقْترفِي بعض الجرائم، ومِن هذه الجرائم عند الرومان عجْزُ المُعْسِر عن الوفاء بالدَّيْنِ، وقد رفض الإسلام هذه النظرة رفضًا حاسِمًا، ولم يَسترِقَّ في أية مُخالَفة، بل رصَد من الزكاة المفروضة سهْمًا لازمًا لسداد دُيون المُعسرين، قال تعالى: (وإن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لكمْ إن كُنتم تَعلَمُونَ) (البقرة:280).
خطف الأحرار:
وكان الخطف إلى القرن الماضي مَصدرًا هائلًا للاستعباد، وقد ظلَّ الأوربيون يَصطادون البشر بِضْعةَ قرون مِن غرب أفريقية، في ظروف تكتنفها الوحشية المُطلقة، وتمَّ خطفُ عشرات الملايين وهلاكُ مِثْلهم في أثناء الغَارات التي كان يقوم بها قَراصِنتُهم، وأبَى الإسلام إباءً شديدًا خطْفَ الأحرار، وهدَم كل ما انبنَى على هذا الخطف من آثار، وجاء في الحديث القُدسيّ عن ربِّ العزة: “قال الله تعالى: ثلاثة أنا خَصْمُهم يوم القيامة، ومَن كنتُ خَصْمَه خصَمْتُهُ “غلَبْتُهُ” رجلٌ أعطَى بي ثم غدَر، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يُعطِهِ الأجْرَ”.
أسرى الحروب:
والمصدر الثالث للاسترقاق -وهو مصدر خطير- أسْرَى الحروب، إن أولئك المنكودِين الخزايا كانوا يُواجهون مُستقبلًا غامِضًا، وقد يكون الاسترقاق أهوَنَ ما يتوقعون. وفي الحرب العالمية الثانية لم تُعرَف مصائر الألوف المُؤلَّفة من أسرَى الروس لدَى الألمان أو أسرى الألمان لدَى الفرنسيين. فإن كان ذلك ما وقع أيام التحضُّر والارتقاء فما ظنُّك بما كان يقع قديمًا؟
على أيةِ حالٍ فإن الإسلام في أول حرب خاضها خرج على الدنيا بمبادئَ أزكَى وأرَقَّ في معاملة الأسرى، فنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأسرى بعد معركة بدر: (يا أيُّها النبيُّ قُل لِمَن في أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللهُ في قُلوبِكمْ خَيْرًا يُؤتِكُمْ خَيْرًا ممَّا أُخِذَ مِنكم ويَغفرْ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ. وإن يُريدُوا خِيانَتَكَ فقد خَانُوا اللهَ مِن قبلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُم) (الأنفال:70-71)، والخيانة التي تُشير إليها الآية موقفُ المشركين مِن قضية الحريات الدينية والإنسانية كلها، فقد كان مَوقفًا غبيًّا مُتعنتًا مَليئًا بالكبرياء والقسوة، أكان هذا موقف عَبَدَةِ الأوثان وحدهم؟
وللإجابة عن هذه الفرية نقول بحول الله وقوته:
أولا: نقول أن الرق ليس مشكلة إسلامية فيلقى باللائمة فيها على الإسلام إنما هو مشكلة إنسانية ناتجة عن الصراع والتدافع الإنساني، فلا يوجد نص في القرآن أو السنة يأمر بالرق أو يحث عليه بل نجد النقيض من هذا كما سنرى، فالرق معروف ومعمول به في كل الديانات والمذاهب السابقة للإسلام؛ فقد كان الرق عند قدماء المصريين آلة للعمل كحرث الأرض وعمارتها بالزرع وإقامة الدور وحمل الأثقال، ويعدون الرقيق بمنزلة الدواب.
والقرآن وكتب اليهود والتاريخ القديم لا تزال تذكرنا بما سامه فرعون لليهود وهم أرقاء لديه. وعند اليهود: لا يحرم سوى استرقاق اليهود لبعضهم فقط، بينما نرى الكتاب المقدس يبيح ليهود استرقاق جميع الأمم “44 وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم منهم تقتنون عبيدا وإماء* 45 وأيضا من أبناء المستوطنين النازلين عندكم منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين عندكم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكا لكم* 46 وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك تستعبدونهم إلى الدهر وأما إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلط إنسان على أخيه بعنف* 47” (سفر اللاويين:2544).
بل إن الفكر السياسي اليهودي قائم على قضية الرق وهي دعوة نوح على ابنه حام أن يكون ابنه عبدا لأعمامه سام ويافث كما في سفر التكوين (9/25-26) “ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً لهم. وفي الإصحاح نفسه 27: “ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبداً لهم”.
وفي المسيحية لا نرى الأمر يختلف فبولس مؤسس المسيحية ينصح العبيد بحسن السمع والطاعة لأسيادهم ويؤكد فيقول: “أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد، بخوف ورعدة، في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد للمسيح، عاملين بمشيئة الله من القلب، خادمين بنية صالحة كما للرب، ليس للناس” (رسالة افسس 65).
وكما يقول الدكتور “جورج بوست” في (قاموس الكتاب): “إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا المباحثة فيها، ولم تقل شيئاً ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها ولم تأمر بإطلاق العبيد حالاً، وبالإجماع لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباته”.
ولو تحدثنا عن الرق عند اليونان والرومان والفرس والعرب لطال المقام، وحسبنا أن لا أحد يكابر في شيوع الرق في هذه الأمم وسوء معاملته بينهم.
أما موقف الإسلام من الرق فينبع من تصوره لهذه المشكلة؛ فالإسلام ينظر إلى الرق باعتباره نتيجة حتمية للصراع بين البشر وهذه النتيجة رسخت في الأذهان والمعتقدات على مر آلاف السنين، ولهذا تعامل معها الإسلام بخطة لا تتجاهل الواقع ولا تقفز عليه.. وأيضا لا تعترف به على النحو الذي فعلته “المسيحية”.
وعلى ثلاثة مراحل استطاع الإسلام أن يقيم نظامه الخاص بالرق وهو أعلى نظام يمكن تحقيقه في واقع البشرية كما سنرى:
المرحلة الأولى: تحسن حال الرقيق ورفعهم للمستوى الإنساني.
الثانية: تضيق مصادره وحصرها فيما يخرج بالرقيق عن الصفة الإنسانية.
وبعد هذه تأتي الخطوة الرئيسية وهي تحرير الرقيق.
ففي الجانب الأول: تحسين معاملة الرقيق
نظر الإسلام إلى الرقيق لا على أساس دينه، أو لونه، أو عرقه، وإنما على أساس بشريته المحضة، وكل التوجهات والأوامر الإلهية في هذا الصدد ارتكزت على بشرية الرقيق لا غير، وعلى سبيل المثال فبدأ الإسلام بتغير الاسم وتصحيحه.
– عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي» [رواه مسلم].
– ثم إيجاد الوضع الاجتماعي المناسب لهم في زمرة الواقع الإنساني وقتها فقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [سورة النساء:36].
– ثم إيجاد الكرامة والحرمة الشرعية والاجتماعية له:
عن أبي هريرة قال: قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قذف مملوكه، وهو بريء مما قال، جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال» [رواه البخاري].
عن سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَمَنْ جَدَعَهُ جَدَعْنَاهُ» [مسند أحمد؛ (41/93)].
– ثم ضمان حقهم في الاحتياجات المعيشة بالمستوى الإنساني المطلوب:
عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله فقال: “يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة، وكسوته ثوباً غيره؟”، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسي، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه» [رواه البخاري، وأبو داود].
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي علاجه» [رواه البخاري].
وفي الخطوة الثانية قام الإسلام بتضيق المدخل إلى الرق، وتوسيع المخرج منه؛ فالمدخل إلى الرق قبل الإسلام كان مفتوحاً على مصراعيه؛ فهناك الرق بالبيع كأن يبع الإنسان أحد أقاربه، والمقامرة كأن يؤخذ الخاسر عبدا للفائز، والنهب والسطو على القوافل والضعفاء واسترقاقهم وبيعهم لجني المال، ووفاء الدين كان يؤخذ المدين عبدا للدائن، والحروب كالأسرى وملك اليمين، وقد حرم الإسلام جميع هذه الأوجه؛ جاء في الحديث القدسي يقول الله تعالى: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره» [أخرجه البخاري].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوماً وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً -بمعنى بعد خروج وقتها- ورجل اعتبد محرراً» [رواه أبو داود وابن ماجه وضعفه الألباني].
فلم يبقي مدخلا للرق سوى أسرى الحرب، فأتى الإسلام عليهم فوضع لهم ثلاث خيارات بإذن ولي الأمر:
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:من الآية4].
فالمن بإطلاق السراح بلا مقابل أو قبول الفداء، وإطلاق السراح أو الاسترقاق وفقا لقواعد الإسلام الإنسانية في التعامل مع الرقيق.
ثم قام الإسلام بتوسيع المخرج وأسباب العتق ومنها:
– جعل العتق من القربات العظيمة إلى الله:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أَعتَقَ رقبة مسلمةً، أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار حتى فرجَه بفرجه» [رواه البخاري ومسلم].
جعل العتق أحد مصارف الزكاة الثمانية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة:60].
قال يحيى بن سعيد: “بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فجمعتها، ثم طلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم”.
– جعل العتق كفارة للطم العبد أو ضربه:
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه» [صححه الألباني].
– جعل العتق واجبا في بعض الكفارات مثل:
* في القتل الخطأ: {مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [سورة النساء: من الآية92].
* وفي الظهار: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [سورة القصص: من الآية3].
* وفي الحنث في اليمين: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: من الآية89].
كذلك جواز الزواج من الرقيق، وهو من أهم أسباب العتق:
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ…} [سورة النساء:25].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد، والعبد المملوك إذا أدى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها، فله أجران» [رواه البخاري ومسلم].
– وأخيرا وضع الإسلام القرار في يد الرقيق أنفسهم فشرع لهم المكاتبة مع المالك للعتق {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: من الآية33].
فما على الرق إذا أراد الحرية إلا أن يأتي سيده ويخبره بما يريد ويتفق معه على قيمه مالية يسددها العبد من عمله الخاص -الذي يفسح له السيد وقتا له- ويكتبا بينهما كتابا يشهد عليه الناس، وبعد سداد الرق للقيمة المالية يكون حراً، ثم تختم الآية الكريمة بما يوضح الهدف من المكاتبة فتقول: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، فالسيد يعطي عبده مالا بعد عتقه ليستعين به على بدْء حياته الجديدة، وهذا يوضح أن المكاتبة ليس الهدف منها المال وإنما اعتماد الرقيق على نفسه في تحرير نفسه لتعظم عنده الحرية فيصونها ويحفظها لنفسه وللمجتمع.
ويمضى الإسلام فيما هو أعظم من هذا فينسج علاقة جديدة وفريدة بين المحرر وبين سيده السابق وهي “الولاء” الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب» [صححه الألباني].
ليجد المحرر له نسبا وأصلا بين الناس، ووعاءً اجتماعياً بشرياً يحتضنه ويحتويه كباقي البشر، ويتعدى هذا الوعاء مجرد الاسم المعنوي، ليجد الرقيق المحرر نفسه في قائمة الورثة الشرعيين بترتيبهم الشرعي المعتبر.
وقال محمد البشير -رحمه الله-: “الإسلام جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا وجدت قضية عامة يتجاذبها الصلاح والفساد -وهما ضدّان- فهنا تأتي حكمة الإسلام وبعد نظره ودقته في الترجيح، والإسلام لم يخترع الاسترقاق ولم ينشئه، وإنما وجده فاشيًا في العالم، درجت عليه الأمم كلها من أحقاب قديمة متطاولة، ودخل في حياتهم وتمكّن، ونزل منها منزلة الضرورات الحيوية، وتعوده الفريقان السادة والعبيد، وبنى كل واحد منهما أمره على ما قسم له من الأعمال، ورأى أن الخير فيه، وأن خروجه منه مضيعة له وقضاء على حياته، واطمأن إلى هذا كله من يوم أدرك وعقل، وقد فصلت الحياة وقوانينها والمواضعات العرفية وظائف الفريقين في عشرات القرون، فأصبح الخروج عنها كالخروج من الحياة، ولكل من السيادة والعبودية آثار متطرفة في نفوس أصحابها لا يجمعها وسط، فالسادة تعوّدوا الاعتماد على العبيد في تصريف مصالحهم الحيوية المتنوّعة شريفها وخسيسها من منزلية وفلاحية، فإذا فارقهم العبيد ضاعت تلك المصالح كلها إذ لا يستطيع القيام بها بنفسه، فضاعت المصالح فاختلّ التوازن الاجتماعي، والعبيد تعوّدوا الاعتماد على السادة في معاشهم وكسوتهم وتدبير ضرورياتهم كلها، فإذا فارقوهم وتحرّروا دفعة واحدة لم يستطيعوا الاستقلال بالحياة، واختلّ التوازن الاجتماعي أيضًا”.
وأخير نقول:
كان سهلا على الإسلام أن يحرر الرقيق بكلمة يقولها، لكن ما النتيجة دون معالجة الحالة النفسية للمجتمع تجاه الرقيق؟! وما النتيجة دون ضمان الوضع الاجتماعي لهم بعد التحرير؟! وما النتيجة دون معالجة الحالة النفسية للرقيق أنفسهم؟!
ما زلت أذكر حين قام أبراهام لنكولن بتحرير الرقيق بجرة قلم، لقد ظل السود في أمريكا إلى هذه اللحظة أرقاء أمام المجتمع وأمام الدولة، بل وحتى أمام أنفسهم، ولا نعجب إذا عرفنا أن العبيد في أمريكا قاموا بمظاهرات بعد عتقهم بشهور يطالبون بعودتهم إلى العبودية مرة أخرى لأنهم لازالوا عبيداً أمام أنفسهم وأمام المجتمع، لكن الإسلام بمنهجه المحكم وتشريعاته الحكيمة ومصدره الرباني هو وحده الذي استطاع معالجة هذه الظاهرة.
وبعد هذه الرحلة المختصرة يحق لنا أن نتسأل… هل في الدنيا العريضة أعظم من هذا الدين؟
وفي النهاية نهتف مباهين بالإسلام وتشريعه وأسلوبه في معالجة المشكلات، مؤمنين حقًّا بقول الله سبحانه: (وما أَرْسَلْناكَ إلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (سورة الأنبياء:107).
والله أعلم.