«العدالة» الدولية في الميزان
ذ. الحسن العسال
هوية بريس – السبت 24 ماي 2014
مثل الغرب في حديثه عن العدالة الدولية، كحديث الجرذ عن النظافة:
رأيت جرذاً.. يخطب اليوم عن النظافة.. وينذر الأوساخ بالعقاب.. وحوله.. يصفق الذباب(1)!
«فالعدالة» الغربية عدالتان، «عدالة» داخلية لا يستفيد منها المقيمون أو المجنسون في الغرب، كما يحدث مع الغربيين الأصليين، إلا بشروط، و«عدالة» خارجية مستبدة ظالمة وحشية، تتجلى في أوضح مظاهرها في حق النقض في مجلس العدوان الدولي، إذ تتمتع به خمس دول، دون سواها، من سائر دول العالم، خصوصا من كان خارج سرب الثقافة الغربية.
إن ما يسمى «العدالة» الدولية له ارتباط «بكيفية تطبيقها في سياق دولي يتسم، في واقع الأمر، بطغيان موازين القوة، وتغليب المصلحة السياسية والاقتصادية على تعايش الشعوب والاحترام المتبادل بينها»، كما يقول «هانس كوكلر»، في كتابه: «العدالة الجنائية الدولية في مفترق الطرق: عدالة عالمية أم انتقام شامل».
فهل يتوقع عاقل أن ينصاع الغرب إلى الحجة القانونية إذا عارضت مصلحته السياسية والاقتصادية؟
الجواب يكمن في المثال الجزئي الذي أورده «هانس كوكلر»، والمتمثل في أن الحكم النهائي في قضية لوكربي 1988، اعتمد على حجة ضعيفة وغير منسجمة، مع ما شاب المحاكمة من غرائب، إذ أديرت مثلما تدار عملية استخباراتية، لأن جلساتها حضرتها أطراف من الحكومات المتنازعة، إما إلى جانب الادعاء العام، أو إلى جانب هيأة الدفاع، ثم «توجت» بكبش فداء تمت التضحية به في جريمة لم تتضح معالمها خلال المحاكمة نفسها.
فكيف بالمحكمة الجنائية الدولية، أن تكون عادلة، وهي تخضع لوصاية مجلس العدوان، الذي يفرض عليها الرقابة السياسية المنضوية تحت لواء المصلحة الخاصة للأعضاء الدائمين في المجلس؟
وإذا كان هانس كوكلر يورد هذا المثال لتوضيح التنافر بين المقتضيات القانونية وسياسات الهيمنة الدولية وانعكاساتها الوخيمة، التي ذهب ضحيتها فرد، فإن النتائج تكون أفظع من ذلك عندما يتعلق الأمر بحياة شعوب بأكملها.
فعلى إثر «نجاح» الولايات المتحدة وحليفاتها في استصدار القرار رقم 678، الذي أجاز استخدام القوة، أصدر مجلس العدوان الدولي إنذاراً للعراق بسحب قواته من الكويت قبل 15 يناير 1991. ولمَّا لم يحدث ذلك، شنت قوات «تحالف الشر» عدوانها الجوي على العراق بعد مرور 24 ساعة فقط على انتهاء مدة الإنذار، وقد شاركت 31 دولة في هذا العدوان، كان نتيجته تدمير ما سمي «بمراكز الجاذبية» العراقية، التي شملت البنى التحتية العسكرية، والصناعية، والمواصلاتية في البلاد.
كما استهدفت تدمير المواقع الاقتصادية الأساسية مثل محطات توليد الطاقة، والمنشآت النفطية، والطرق، والجسور، وقد أوصلت بعض التقديرات الأميركية ضحايا العدوان إلى 300.000 قتيل، بدعوى الدفاع عن الكويت.
وقد سبق هذا العدوان حصار دولي ظالم غاشم على الشعب العراقي الذي كان تنفيذا لقرار الأمم المتحدة رقم 661 الصادر في 6 غشت 1990، ونص على إقرار عقوبات اقتصادية خانقة على الشعب العراقي، بدعوى إجبار قيادتة آنذاك على الانسحاب الفوري من الكويت.
وقد عانى العراقيون الأمرّين من هذا الحصار الذي حرمهم من الغذاء والدواء، فضلاً عن كل وسائل التقدم والتكنولوجيا التي وصل إليها العالم في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، مما أدى إلى وفاة مليون ونصف مليون طفل، نتيجة الجوع ونقص الدواء الحاد وافتقادهم إلى أبسط وسائل الحياة، وقد استمر هذا الحصار قرابة 13 عاما.
وبعد هذا الحصار الوحشي، قادت أمريكا في عهد «بوش» الصغير عدوانا آخر على العراق بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل، وعلاقة صدام حسين بتنظيم القاعدة، ونشر الديمقراطية في الشرق العربي، ولو بالقوة.
وقد تبين أن هذه الدعاوى الثلاث كانت مجرد ذرائع لتدمير العراق، وإخراجه من المعادلة الإقليمية، وكانت النتيجة قتل مئات الآلاف من الأبرياء، وتسميم هواء وتربة العراق بالأسلحة «المحرمة» دوليا، مما نتج عنه مواليد مشوهي الخلقة، خصوصا في الفلوجة.
فأين العدالة الدولية؟
وقد شنت أمريكا وحلفاؤها في الشر هذا العدوان، على الرغم من أنه مخالف «لدستور» الأمم المتحدة، كما صرح بذلك الكاتب العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان، بعد سقوط بغداد.
وعلى الرغم من كل جرائم عسكر أمريكا في العراق، والتي نشرت بالصوت والصورة عبر القنوات العالمية، لم يقدم أي جندي أمريكي على إثرها للمحكمة الجنائية الدولية، لأن «العدالة» الأمريكية تقضي بحماية الجنود الأمريكيين، بموجب قانون صدر في 2002م، من أي متابعة قضائية، سواء خلال إدارة العمليات العسكرية خارج الحدود الأمريكية، أو حتى بعد انتهاء الحرب.
كما يمنع «قانون حماية الجنود الأمريكيين» المحاكم الأمريكية من كافة أشكال التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. ويمنع تسليم أي أمريكي للمحكمة الجنائية الدولية، مثلما يمنع إجراء جميع أصناف التحقيقات لصالح هذه المحكمة فوق الأراضي الأمريكية، ويتيح هذا القانون للرئيس الأمريكي صلاحية استعمال كل الوسائل الضرورية والمناسبة لإطلاق سراح الجنود الأمريكيين، أو الأفراد المعتقلين من عناصر حلفاء الشر المسجونين بطلب من المحكمة الجنائية، أو نيابة عنها.
بل تمادت أمريكا في تسلطها بسعيها إلى إجبار مجموعة من الدول على إبرام مجموعة من الاتفاقيات الثنائية تروم عدم تسليم الجنود الأمريكيين المتورطين في جرائم جنائية دولية إلى المحكمة الجنائية الدولية.
والمفارقة الغربية أن أظهر الذرائع لشن العدوان على بلاد الرافدين، والمتمثلة في امتلاك أسلحة الدمار الشامل، تم استثناؤها من «أركان الجرائم»، في القانون الجنائي الدولي.
وهناك من بني الجلدة من لازال يتغنى بالحقوق الكونية.
أما تاريخ اللقيطة الصهيونية فتاريخ مجازر: مذبحة قرية سعسع في 14-15 فبراير 1948، ومذبحة رحوفوت في 27 فبراير 1948 في مدينة حيفا، ومذبحة كفر حسينية في 13 مارس 1948، ومذبحة دير ياسين في التاسع من أبريل 1948، مذبحة ناصر الدين في 14 أبريل 1948، مذبحة قلقيلية في 10 أكتوبر عام 1953، مذبحة قطاع غزة في الثاني من فبراير 1955، وقعت ومذبحة قانا في 28 من أبريل من عام 1996، ومجزرة في أواخر ديسمبر من 2008 في غزة، هذا فضلا عن الاغتيالات داخل فلسطين وخارجها، لكن «العدالة الدولية» لم تر ولم تسمع كل هذه الجرائم.
ولأن «العدالة» الغربية أكثر «عدلا»، فقد «اضطرت» إسبانيا للانصياع لغضب أميركي صهيوني، لتعديل قوانين، أو على الأقل لتغيير إجراءات اعتقال صهاينة. بسبب محاولتها اعتقال عدد من القادة الصهاينة من بينهم وزراء دفاع سابقين مثل بنيامين بن أليعزر وشاؤول موفاز.
وبعد مجزرة جنين لم تقبل اللقيطة الصهيونية بدخول لجنة تقصي الحقائق إلى المخيم إلا بعد موافقة اللجنة على الشروط الصهيونية، والتي كان أهمها ألا تنشر شيئًا عما حدث إلا بعد إطلاع الاحتلال عليه وموافقته على النشر!!
ويتدفق شلال الدم أمام أعين «العدالة» الغربية في ميانمار، فيحرق المسلمون ويوؤدون، بما فيهم الأطفال أحياء. ويتعرض 800.000 من الروهينغا للإبادة في ولاية «أراكان»، دون أن يطرف «للعدالة» الدولية جفن، بل ولم يتآمر المتآمرون باستغلال قضية هذه الأقلية المضطهدة للدعوة إلى التقسيم، حق تقرير المصير، لا لشيء إلا لأن الأقلية مسلمة، والأكثرية ليست مسلمة، ولو كان العكس، لكان الموقف مغايرا 180 درجة.
ونفس التقتيل تقوم به عصابات «آنتي-بلاكا» النصرانية، تحت إشراف جلالة «العدالة» الفرنسية، التي تظل عاجزة أمام بطش النصارى، لكنها لم تكن كذلك في مالي وساحل العاج.
كما أن جلالة «العدالة الفرنسية» لا تبقى مكتوفة الأيدي إذا مُسَّت شعرة من الشعب اليهودي المدلل دوليا، باسم معاداة السامية(2)، إذ أكد مجلس الدولة -أعلى سلطة في القضاء الإداري الفرنسي- حظر عرض مسرحية «الجدار» للممثل الساخر «ديودونيه مبالا»، العرض الذي كان متوقعا في مدينة نانت بغربي فرنسا.
وكان وزير الداخلية «مانويل فالس» قال: إنه سيمنع عرض «الجدار» التي لاقت إقبالا منقطع النظير في باريس مؤخرا في مسرح ديودونيه الخاص «لامان دور» (اليد الذهبية)، باعتبار أن إشارة اليد التي يقوم بها ديودونيه «نازية»، واتهم الفكاهي الشهير تبعا لذلك بنشر أفكار معادية للسامية.
لا حرج على جلالة «العدالة» الفرنسية أن تحاكم شخصا على أفكاره، من أجل عيون اليهود، أما أن يباد المسلمون فعلا، فمسألة فيها نظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أحمد مطر: خطاب تاريخي.
2- ولو أن العرب يندرجون تحت هذا المسمى إلا أنهم لا يحظون بالدلال الذي يحظى به الشعب اليهودي في مشارق الأرض ومغاربها.