بين مهرجانات العزة ومهرجانات المذلة
ذ. أحمد اللويزة
هوية بريس – الجمعة 30 ماي 2014
بعد أيام سيدخل المغرب في حالة استثنائية، واستنفار غريب، متعلق بقضية مصيرية إنها المهرجانات الصيفية، التي تنفق في سبيلها الملايير من أجل العبث والاستهتار، وتظهر من أجل الانحلال والانكسار، وتغيب إذا طلبت للإصلاح والمصلحة وتحقيق الخدمات والمنفعة وتوفير ظروف عيش كريم.
بطبيعة الحال فالشعب هذا ما يريد، فقد دجن ليكون كل همه كأس وغانية، ورقص ولذة فانية، شعب سكر بحب الغناء حتى الفناء نتيجة سياسة مقصودة، الغناء والرقص في الإعلام والتعليم والثقافة، وغناء في المقاهي والشواطئ والشوارع والمنتزهات، مهرجانات الغناء في كل مكان؛ في كل مدينة وبادية، في كل سفح وجبل، مهرجان لكل مواطن، وتقريب المهرجانات من المواطنين، هذه هي الشعارات التي استطاعوا تنفيذها والوفاء بها، في زمن نذر فيه الوفاء.
الغريب في الأمر هو ربط مهرجانات العبث والتبذير والانحلال بالتنمية البشرية، والرخاء والرقي، ويظنون أننا نصدق ذلك. أحيانا تنتاب المرء هستريا من الضحك نتيجة الهم الكثير، حين تقرأ عنوانا من قبيل مهرجان تحت شعار العيطة في خدمة التنمية البشرية، مع العلم أنه منذ فتحنا أعيننا على هذه الدنيا و(العيوط) لم تتوقف من طنجة إلى الكويرة، ولم نر من التنمية إلا السراب، ومن التقدم إلا الأحلام الوردية.
الذي لا يشك فيه عاقل أن سبق الإصرار والترصد ثابت في هذه الواقعة، واقعة إسهال المهرجانات لتغييب المجتمع عن دينه وقيمه وأخلاقه ونهضته الحقيقة إرضاء للاستعمار الغاشم الذي لم يخرج إلا بعد أن تبث أبناءه في مواقع المسؤولية، فهم يخدمونه بصدق وإخلاص وليذهب الوطن إلى الجحيم، فهذا المسار الذي سلكته الدولة حتى بلغ درجة السخرية والاستهزاء من عموم العقلاء وغيرهم، عاقبته لا تبشر بخير والقادم أسوء، ولا حياة لمن تنادي.
ما يزيد عن عقد من الزمن والمهرجانات لم تترك شبرا من أرض المغرب إلا وحطت رحلها فيه، ومنذ ذلك الحين لا نسمع عن التنمية إلا ما يؤلم القلب ويغلق باب الأمل ويزيد التوتر، مما يجعلنا نطرح سؤالا حول مدى مصداقية دعوى التنمية والازدهار التي يطبلون لها صباح مساء؟
لعل الجواب واضح وإلا كيف نفهم أن يتم برمجة مهرجان كبير في استهلاكه، كبير في انحرافه، في وقت الاستعداد للامتحانات النهائية؟ لقد صدق فينا قول القائل؛ إن العقول التافهة تهتم بالقضايا التافهة فتعيش تافهة على هامش الحياة.
بينما العقول الكبيرة تهتم بالقضايا الكبيرة فتعيش كبيرة الهمة عظيمة القدر ترسي معالم التنمية الحقة، فتقود قاطرة التقدم وتمسك بناصية الحضارة، وذلك شأن سلف مضى ومضت معه الأمجاد. ذلك السلف الذي كانت له مهرجاناته اليومية والشهرية والسنوية، تبين قيمته واهتماماته التي تشغل بال الأمة بأسرها وتنخرط فيه حكومة وشعبا، وكان ذلك ديدنها وإدمانها ولا يشذ عنها إلا هالك.
فلنتأمل في مهرجانات السلف التي كانت مهرجانات علم ومعرفة وتثقيف، لئن كان هؤلاء اليوم يفتخرون بالآلاف التي تحضر في ساحات مهرجاناتها، فان الآلاف المؤلفة كانت تحضر مهرجانات العلم في الساحات والأسواق والفضاءات العامة والخاصة.
ولنترك الكلمة لكتاب «أدب الإملاء والاستملاء» للسمعاني ليعرض علينا صورا من واقع السلف الذين سادوا وتشرفوا بقيادة العالم بالعلم والمعرفة، لندرك أننا لن نفرح برقي ولا ازدهار مادامت مهرجاناتنا بعيدة عن العلم والتعلم وتسوق للخنا والانحلال.
مجالس الإملاء في الشوارع
لما ورد أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي إلى بغداد استقبل بالطيارات والزبازب (سفن صغير) ووعد له الناس إلى شارع المنار بباب الكوفة ليسمعوا منه فاجتمع الناس فحزر من حضر مجلسه لسماع الحديث فقيل نحو ثلاثين ألفا، وكان المستملون ثلاثمائة وستة عشر.
وفيه أيضاً: عن القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري قال: حدثني أبي قال: كنا نحضر مجلس أبي إسحاق إبراهيم بن علي الهجيمي للحديث فكان يجلس على سطح له ويمتلئ شارع بالهجيم بالناس الذين يحضرون للسماع ويبلغ المستملون عن الهجيمي، قال:
كنت أقوم في السحر فأجد الناس قد سبقوني وأخذوا مواضعهم، وحسب الموضع الذي يجلس الناس فيه وكسر فوجد مقعد ثلاثين ألف رجل.
مجالس الإملاء في الأسواق
وطرح الخليفة المتوكل منبرا لعبد الأعلى بن حماد النرسي بسر من رأى في السوق فعلاه، وأملى.
وعقد لأبي بكر محمد بن يحيى بن إبراهيم المزكي (474هـ) مجلس الإملاء بمدينة السلام يحكى أنه كان يحزر في مجلس إملائه أكثر من خمس مائة محبرة.
مجالس الإملاء في القبات
عن مكحول (113هـ) قال: تواعد الناس ليلة من الليالي قبة من قبات معاوية رضي الله عنه فاجتمعوا فيها فقام فيهم أبو هريرة رضي الله عنه يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح المحافظ على موعد الدرس .
مجالس الإملاء في الرحبات
لما قدم أبو مسلم الكجي غسان أملى الحديث في رحبة غسان وكان في مجلسه سبعة مستملين. وكان عاصم بن علي يجلس على سطح المسقطات وينتشر الناس في الرحبة وما يليها فيعظم الجمع جدا.
مجالس الإملاء في المنازل
كان علي بن عمر بن أحمد الدارقطني (385هـ) يحدّث من حفظه إملاءً في منزله.
قال أبو الفضل الزهري: لما سمعتُ من جعفر الفريابي -رحمه الله- كان في مجلسه من أصحاب المَحابر ممَّن يَكتُب حدود عشرة آلاف إنسان.
كذلك ما حدَّث به جعفر بن درستويه قال: كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس الغد، فنقعد طول الليل؛ مخافة ألا نَلحق من الغد موضعًا نسمَعُ فيه.
أما في المغرب فقد كانت جامعة القرويين محط إقبال من طلبة العلم وملتقى العوام للتفقه في الدين وازدهرت الحياة العلمية بفاس وغيرها من مدن المغرب، فاشتغل العلماء بالتأليف في مختلف فنون العلم والمعرفة، وكثرت حلقات الدرس بالقرويين خاصة، وقد بلغ عدد الكراسي العلمية بها 15 كرسيا، وبلغ عدد الكراسي بالفروع التابعة لها 111 كرسيا، وكانت تدرس بهذه الكراسي مختلف العلوم الدينية واللغوية.
وفي هذا القدر كفاية ومن أراد أن يستزيد فليرجع إلى المصادر، وليعلم بنو علمان ممن خربوا الإنسان والعمران أن أمة الإسلام لن تقوم لها قائمة إلا بالعلم الذي يرعاه ذوا السلطان. فنحن أمة خلقنا الله لنسمو بالعلم والأخلاق، أو نذل بالجهل والانحراف.
فشتان بين مهرجانات ومهرجانات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- “جامع القرويين” للدكتور عبد الهادي التازي، و”التعاشيب” للأستاذ عبد الله كنون رحمه الله.