مكانة الصحيحين عند علماء المسلمين
ذ. رضوان شكداني
هوية بريس – السبت 31 ماي 2014
لقد كثرت السهام التي توجه للإسلام وللقضايا المسلَّمة عند جماهير علماء الأمة في هذا الزمان وهذه الهجمات ليست بالشيء الجديد بل هي قديمة في تاريخ هذه الأمة لكنه تتجدد في كل عصر ويحييها اللئام والطغام الحاقدين على الإسلام.
ومن هذه الهجمات ما نراه بين الفينة والأخرى من الكيد للسنة ورجالها مستمراً، في مخطط يستهدف دين الإسلام واجتثاث أصوله، وتقويض بنيانه، وحملات مسعورة تتعرض لها السنة ورجالها بدءاً من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتشكيك في عدالتهم وديانتهم، والطعن فيمن عرف بكثرة الرواية منهم، ومروراً بكبار أئمة التابعين الذين كان لهم دور مشهود في تدوين الحديث ونشر السنة.
وما أن فرغ خصوم السنة من ذلك حتى بدأوا جولة جديدة، كان الهدف فيها هذه المرة أعظم أصول الإسلام بعد القرآن، فصوبوا سهامهم نحو الصحيحين ومؤلفيهما، واتخذوهما غرضاً لحملاتهم وشبهاتهم وتهكماتهم، لأن في النيل منهما نيلاً من الإسلام، ولأن إسقاط الثقة بهما هو في الحقيقة إسقاط للثقة بجملة كبيرة من أحكام الشريعة ولذلك جعلوا من أهم أهدافهم وأولى أولياتهم إسقاط الثقة بأحاديث الصحيحين ورواتهما بشتى الوسائل، لتنهار بعد ذلك صروح السنة في غيرهما من الكتب والمصنفات الأخرى.
وأنى أن يضر السحاب نباح الكلاب ولا عويل الذئاب وما أرى المتكلم فيهم إلا كما قيل:
وجُفونهُ ما تستقرُّ كأنها *** مطروفةٌ أو فُتَّ فيها حصرمُ
وإذا أشار محدثاً فكأنه *** قردٌ يقهقه أو عجوزٌ تلطِم
وتراهُ أصغرَ ما تراهُ، ناطقاً *** ويكون، أكذب ما يكونُ، ويُقِسمُ
وإليه أهدي فأقول:
أيا كاتبـا طاب فيك الرجاء *** وطابت مساعيك والطاء خاء
كتبت الرواية والراء غين *** وكان الثنا منك والثاء خاء
بليغ كما قيل والغين دال *** خبير نعم أنت والراء ثاء
جميل بلا شك والجيم عين *** كريم بفعلك والميم هاء
كتبت سطورك واللام قاف *** بفهم سليم بغير انتـــهاء
عظيم المبادئ والظاء قاف *** سـليم العبارة والميم طاء
أمير الصحافة والحـاء لام *** سـفير الثقافة والراء هاء
فلابد أن يعلم العموم أن من المسلَّمات عند المسلمين؛ أن للصحيحين منزلة سامية عظيمة، وأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-، وقد تكاثرت وتضافرت نصوص العلماء في بيان هذا المعنى وتقريره قال ابن الصلاح -رحمه الله-: “جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يُعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع، والذي نختاره أن تلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري بصدقه، خلافًا لبعض محققي الأصوليين حيث نفى ذلك؛ بِناء على أنه لا يفيد في حق كل واحد منهم إلا الظن، وإنما قَبِله لأنه يجب عليه العمل بالظن، والظن قد يخطىء. وهذا مندفع؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ” “صيانة صحيح مسلم” (ص:85-86).
وقال النووي -رحمه الله-: “اتفق العلماء -رحمهم الله- على أنّ أصح الكتب بعد القرآن “الصحيحان” البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول”، مقدمة “شرح مسلم” (1/14).
وقال الحافظ ابن حجر في شرح «نخبة الفِكَرِ» له: “الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم، خلافًا لمن أبى ذلك”، قال: “وهو أنواع، منها:
أ- ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر، فإنه احتفت به قرائن، منها:
1. جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
2. تلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين, وبما لا يقع التخالف بين مدلوليه، حيث لا ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصلٌ على تسليم صحته”. «نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر»: ص(59- 61).
وقال عبد الحق الإشبيلي في شأن الصحيحين: “قد اشتهرا في الصحة شهرة لا مطعن عليها، وتضمنا من الأخبار ما لجأ الناس في الأكثر إليها، وحسبك من هذين الكتابين أنهما إنما يعرفان بالصحيحين”. «الجمع بين الصحيحين» للإشبيلي: (1/6).
وقال الشوكاني -رحمه الله-: “واعلم أن ما كان من الأحاديث في الصحيحين أو أحدهما جاز الاحتجاج به من دون بحث لأنهما التزما الصحة وتلقت ما فيهما الأمة بالقبول”. “نيل الأوطار” (1/22).
وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-:
“الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمور: أن أحاديث “الصحيحين” صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف. وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منهما في كتابه.وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها، فلا يهولنك إرجاف المرجفين، وزعم الزاعمين أن في “الصحيحين” أحاديث غير صحيحة، وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها، وانتقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم،واحكم عن بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل”. “الباعث الحثيث” (ص:37).
وقال ولي الله الدهلوي:
“أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين”. (حجة الله البالغة 1/249).
يقول ابن عامر الجرجاني في قصيدة له مادحا صحيح البخاري:
صحيح البخـاري لـــو أنصفــوه *** لما خـــط إلا بمـــاء الذهــــب
هو الفـرق بيــن الهدى والعمى *** هو السـر دون العنــا والعطـب
أسانيد مثــــل نجــــوم السمـــاء *** أمـــام متــون كمثــل الشهــب
بــه قــام مـيـزان ديـن الـنــبـي *** ودان لـه العـجـم بـعـد الـعـرب
وقال الإمام أبو الفتوح العجلي في مدح صحيح مسلم:
صحيح القشيــــري ذا رتبــــة *** تفوق الثريّا إذا مـــا اعتلــــت
فألفاظه مثــل نـــور الريـاض *** سقيهــا السواري إذا ما سرت
وأمّــا المعاني فكالشمس تحت *** السحاب الخريفيّ عنه انجلت
فللــه دولــــة هـــــذا الإمــــام *** ولله همّتــــــــه إن علــــــــت
عليـــــه مــــن الله رضوانـــه *** فـقـد تـم مـسـعـاتـه وانـتـهــت