في الحاجة إلى الأدب الإسلامي

24 فبراير 2016 02:41
الانقلاب الفاشل... نحو حل لغز مفتعل!!

ذ. مصطفى بن عمور

هوية بريس – الأربعاء 24 فبراير 2016

الاختلافُ سرٌّ من أسرار الحياة، ولا يُمكِن تَصوُّرُ المأساة التي قد تَنجُم عن محو هذه الظاهرة الحيويَّة، التي تَشمَل كلَّ الكائنات الحية من أدناها إلى أعلاها، فوجوده دليلٌّ على “الفرادة” والذاتيَّة، وعلى التدافُع والمواجهة والتناظُر، الذي عن طريقِه تَتفجَّر الحياة ألوانًا من المذاهب، وتَتفتَّق عن أشكال من المشارب والمناهج، وتَتفرَّع عن أنواع من الرؤى والمواقف، وذلك سرٌّ من أسرار الحياة غَرستْه العنايةُ الإلهية؛ لِتنْمو وتَستمرَّ وتَتطوَّر.

والتاريخ الإنساني منذ آدمَ -عليه السلام- إلى الآن وليدُ هذا الاختلاف بخيره وشرِّه، وبدون هذه الحركيَّة لا يكون هناك تاريخ ولا مَعنًى للحياة، وهو يُخبِرنا عن تَضارُب الأمم والأفراد والحضارات؛ تَضارُب بالأجساد والسِّلاح، أو الأفكار والأقلام، فكلَّما حَدَث جُمودٌ في العقول أو النُّفوس، إلا وكان الاختلاف دافِعًا من دوافع الحركة والتَّجدُّد والتَّطوُّر؛ ذلك أنَّ الحقائق ما كانت لِتتمخَّضَ من تِلقاء نفسِها، وما كان الخير ليُسفِرَ بوجْهه على الناس، إلا بعد لَأْيٍ من التَّدافُع والتَّضارب كنتيجة ظاهرة لما هو عميق مَكنون في بِنية الحياة، ألا وهو سرُّ الاختلاف.

وفي حضارتنا الإسلامية -وبرؤية مَوضوعيَّة عادِلة-  دلائلُ لا تُحصى على احترام هذا المبدأ الحيوي، الذي آمَن به المسلمون وهم في أَوْج قوَّتِهم وعزِّ سُلطانِهم، كان يَجول في أعماق نفوسهم أنَّ التدافُعَ سبيلٌ من أهمِّ سُبل الحياة في تَدفُّقِها واستمرارِها، وأُسٌّ من أُسس تطوُّرِها وتنوُّعِها، وكانوا على يَقينٍ بأنَّه لا إكراه في الدين؛ ولذلك لم يَسعَوا إلى الهيمنة على الآخر بقوة السلاح والغصْب؛ ممَّا فتَحَ أمام غير المسلمين أبوابًا فسيحة للتَّعبير عن كَينونتِهم، وما يَجيشُ في نفوسهم من إيمانٍ، أو عقيدة، أو رأي، دون قمْع أو كَبْت، وكلُّ هذا يُعبِّر عن تَطوُّر نفْسي وفِكْري لم يَتكرَّر في أمَّة من الأمم؛ لأنَّه وَليدُ عقيدة كانت قاعدتها: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة:256]، وهو المبدأ الذي كفَل لكثير من غير المسلمين أن يَتبوَّؤوا مَناصبَ عُليا في جميع المؤسسات العسكرية والسياسية والعلميَّة في الدول الإسلامية، وهو نفسه المبدأ الذي فتَح للأوربيِّين مجالَ النَّهل من المعارف الإسلامية، والعبِّ من مناهلِها، والتَّزوُّد من كُنوزها، فتطوَّرتْ أوربا في ظلِّه؛ حيث لَمْ يَتدخَّل المسلمون في شؤونِها الداخليَّة بالتجسُّس المقيت ووضْع العراقيل في طريقها؛ احترامًا للعهود والمواثيق؛ ممَّا ساهَمَ في تَطوُّرها داخليًّا، في الوقت الذي بدتْ فيه معالم التدهور ومظاهر التَّرهل تَحلُّ بالأمة الإسلامية؛ نتيجة لإلغاء الاختلاف، وسدِّ أبواب الاجتهاد وإعمال الفِكر، إلا ما كان يقوم به بعض العلماء الأفراد دون اعتماد على مؤسَّسات الدولة أو مَن يَقومُ مَقامَها، ونحن إذا وضَعْنا هذا الإيمانَ العميق بمبدأ الاختلاف ووظيفتِه في الحياة عند المسلمين بالأمس، بِجانب المبادئ التي يُؤمِن بها الغرب في عصورنا الحالية، لَرَاعنا هذا التغيُّر الجِذري الذي طَرأ عبْر الزمان على مفهوم الاختلاف وقيمتِه وتفعيله في حيواتِ الناس، فمنَ المفروض إنسانيًّا وحضاريًّا أنْ يَنهجَ الغرب اليوم تُجاه المسلمين والأمم الأخرى – ما نَهجوه معه بالأمس، لكن الذي حدَث هو العكس.

حدَث أنَّ هذا الغربَ الديمقراطيَّ والإنساني “جدًّا” قد خطَّط، ولا يَزال يُخطِّط لمحو كلِّ ما يُخالِفه في مبادئه وقِيمه وأفكاره بشتَّى السُّبل المرذولة، فعمِل على غزو كلِّ بلد آمن؛ لنهْب خيراته، وتذليل أصحابه، منذ غزو القَّارة الجديدة إلى غزو العالم بأسْره، وما صاحَبَ ذلك من سفْك لدماء الأبرياء بوحشيَّة لم يَعرفها البشر حتى في جاهليَّتِهم الأُولى، ومَحو الحضارات بكل ما تَختزنُه من ثروات الروح والفكْر والشعور، وعلى هامِش ذلك نِجد تَزويرًا للتاريخ كنتيجة حتميَّة لكلِّ ذلك.

وما يُدعى اليوم بالنظام العالَمي الجديد -ودون حاجة إلى نظريَّة المؤامرة- ما هو إلا خطوة جديدة في سبيل احتواء شرعيَّة وتاريخيَّة وحيوية الاختلاف، وخنْق براعمه في المَهد، بشتَّى الوسائل المُمكِنة، وأكثرِها وبالاً وفتْكًا، وهذا النظام الجديد “البدائي” ما هو إلا الوجْه الآخر للاستعمار البشِع، الذي لن تَنساه الإنسانيَّة مهما طال الزمنُ؛ لأنَّه تَسرَّب إلى أعماق وعْيها ولا وعْيها، والإنسانية اليومَ – خاصَّة الأمة الإسلامية – مُهدَّدةٌ بِهذا الطاعونِ الروحي الخَبيث، المُتقنِّع تحت بريق الشعارات وبَهرج المذاهب، والذي قد يأتي على أهمِّ مبادئ الحياة وقِيمها إذا لم يُوعَّ بخطورة مُنطلقاتِه وأهدافه وروحه السوداء، وإذا لم يتحصَّن ضدَّه بِموانع الموت والذَّوبان.

وإنَّها لخَسارةٌ كبيرة، ومأساة لا حدود لبشاعتِها، حين تُصبِح الأمم جميعها نسخة واحدة مشوَّهة لوجه واحد بشِع، يَحمِل في جذورِه رواسبَ الشرِّ والطغيان والموت.

ومن أجل التَّنبيه والتذكير، فإنَّ هذا النظام لا يكتفي بقوة الغزو العسكري الشرس لِنهْب خيرات الأمم عامة، والإسلامية بالدرجة الأولى؛ بل يَمدُّ قوتَه للنخر في مستويات المعرفة والثقافة التي تَنبَني عليها حضارة وقِيم الأمم الأخرى، بعد ما فَهِم الغربيُّون من خلال دراسات عديدة (الاستشراق) أنَّ استخدام المعرفة الغربيَّة كسلاح هو أنفذ وأشد لهدْم الآخرين وإضعافهم والاستحواذ عليهم؛ ليُصبِحوا لُقمة رخوة يَسهُل بلعها، ويُستساغ هضمُها، ولكي نُبرِز هذه الحقيقةَ رُغم جلائها؛ سنتسلَّل من عمومية الكلام السابق، لِنشرَع في الحديث عمَّا هو خاص ومحدَّد، وحديثُنا سيكون عن الأدب؛ بِما هو مادة لُغويَّة تتجسَّد فيها ثَقافة الأمة التي أنْتجتْه، كما تَتجسَّد فيها رؤيتُها لذاتِها ولتاريخها، ووعْيها بنفْسها وما حولها، وأيضًا بِما هو خلاصة تجرِبتها عبر قرونٍ مضتْ، خُلاصة لا تَرضى لنفْسها إلا التجلِّي بأسلوب خاصٍّ، يَضمَن لها التأثير المُستمرَّ، والديمومة الفاعِلة عبْر الزمن ودوراتِه، والقُدرة على الجَذْب القوي والموجَّه لأفراد الحضارة، التي اسْتُخلِصتْ منها، وصُفِّيت من بين فرْثها ودمِها.

هذا المعنى العميق للأدب، والمُمثِّل لحقيقة الاختلاف بين بني الإنسان وثقافاتهم وحضاراتهم – يَكاد يَتلاشى في ظلِّ الخطة العقيمة والمميتة الساعية إلى تأميم العمل الإبداعي، وخصوصًا جانبه الأكبر والأخطر، وهو الأدب (شعرًا ونثرًا ونقدًا)؛ باسم العالميَّة والانفتاح، وطمْس كلِّ ما يَتعارَض مع ذلك من خصوصيَّات ومُفارَقات، هي المُؤشِّر الأعمق على الإبداع والتميُّز، كما أنَّها دليلٌ على التدافُع الذي يَحفظُ للذَّات الحضاريَّة وعْيَها بكينونتِها وأصالتها في التاريخ ماضيه وحاضره ومُستقبله.

فالدعوة إلى عالمية الأدب أو عَولَمته، هي دعوة في ظاهرها الانفتاح والتكامُل والاستفادة المُتبادَلة، وفي باطنها من قِبَلها الاحتواء والتذويب والهضم المُمنهَج؛ لأنَّها تَسعى إلى تَسويد ونشْر أدب المركز المُسيطر بسلطاته المُتعدِّدة؛ أي: نشْر أدب له خصوصيَّات المركز الغربي حضاريًّا وثقافيًّا، ومِن ثَمَّ طمْس الآداب الأخرى التي تَختلِف عنه، بأسلوب ماكِر لا يَشي بالعنف المباشر، ولا يُوحي بالتهميش الفِعلي أو السلوك العُدواني الذي يَسكُنه ويُوجِّهه.

وقدِّر لنفسك أيّ مُصيبة مَعرفيَّة، وأيّ خسارة نفسيَّة وحضارية ستَحلُّ بالأمم المُخالِفة للمركز جِذريًّا، حين تتحوًّل بمشاعرها ورؤاها وإرثها الحضاري إلى لسانٍ يُردِّد خصوصيَّات ذلك المركز وثَقافتِه المُسيطِرة بحدِّ السلاح والمال والإغراء؟ إنَّه الموت المعنوي بكلِّ أبعاده، إنَّه الذَّوبان الذي يُغيِّر الملامح، ويُشوِّه المعالم، والطغيان الذي لا يَرعَى لسنَّة الاختلاف والتميُّز قِيمة، ولا يَترك لها مُتنفَّسًا، بل إنَّه المَسخُ الذي يحوِّل كلَّ شيء إلى صور مُتناسِخة مُتطابِقة (لنتذكَّر عملية الاستنساخ البيولوجي)، عديمة الكيف، مُتكاثِرة الكمِّ، مُتحجِّرة المعنى.

ولم تَجدْ هذه الدعوة فرصةً للإعلان عن نفْسِها وتَطبيق مُخطَّطها، إلا في هذا الزمن الذي تَفكَّكت فيه الُعرى -أو تكاد- بين الجماعات وإرثها الحضاري والثقافي، وضَعُف فيه الوعي أو انْعدم بالتميُّز والاختلاف الذي تُؤسِّسه قرونٌ من الفعل التاريخي مُتجذِّرة في الزمان والمكان؛ كل ذلك بفعْل الاستعمار الماديِّ والمعنويِّ، الذي أكلتْ نارُه أخضرَ الأمم ويابسَها، وانْفجرتْ تلك الدعوةُ بأفكارِها ومفاهيمها، يُعزِّزها طابورٌ طويل عريض من وسائل الإعلام وتِقنيَّاته كالسيل الذي لا يُردُّ، أو القَدَر الذي لا مَفرَّ منه إلا تَسليمًا وخضوعًا، وصَنعتْ لنفسها أُطرًا ومُؤسَّساتٍ في باقي الأمم تَمتلِك من الوسائل ما يَجعلها حاضرةً في الواقع بقوَّة، وخاصَّة في الواقع الثقافي، كما يُخوِّل لها سلطةَ التقرير والفعل، واحتواء العقول والقلوب والأقلام؛ لتفسح لنفسها وأطروحاتها أكبرَ مدى من الامتداد والتوسُّع والتغلْغل؛ (راجع كتاب فرانسيس سوندرز: من الذي دفع للدمار؟ الحرب الباردة الثقافية).

ولعلَّ وعْي هذه الدعوة بِخطورة الأدب ومَا يَحظى به كمعرفة ذات شعبيَّة عالية: تَمتزِج فيها القِيم بالجمال، وتَتضافر فيها المبادئ بالإبداع – لعلَّ ذلك ما دفَع أقطابَها من المُنظِّرين والأدباء -في الغرب خاصَّة، وفي الشرق تَبعيَّةً- إلى إنشاء نظريَّة للأدب ليس هدفَها – كما هو مُعلَن – تحقيقُ معرفة أدبيَّة تَمتاز بالعلميَّة والدِّقة، بل الأعمق من ذلك هو التحكُّم في إنتاج الإبداع الأدبي عالميًّا، وإخضاع حركته لقوالب أُنتجِت في بيئة لُغوية وثقافية خاصة، ومناخ معرفي آخر، له خصوصيَّاته التي تَكبَحه عن دعوى العالمية، وتَحدُّ من غُلواء دعاواه وشعاراته، التي تَسعى إلى تأميم الإبداع الأدبي بنظريات مُخالِفة لخصائص النشاط الأدبي في كثير من الأمم ذات الأُطُر الثقافية والحضارية والمعرفية المُختلِفة -وأحيانًا بشدَّة- مع المركز الغربيِّ.

بَيْدَ أنَّ من حِيلَ بينه وبين هذه الحقائق البينة، التي لا تَزال صُروف الدَّهر تَكشفُها وتُعرِّيها – يظن أنَّ الإبداع الأدبي كتابة ونقدًا يَظلُّ دائمًا مُستقِلاًّ عن مُؤثِّرات الحضارة التي نَجَم في أرضها، وتَنَفس في جوِّها، وتغذَّى من مشيمتِها، ومَقولة الاستقلالية هذه خُدعة أخرى يُراد بها إضفاء صفة الإطلاقيَّة على العمل الأدبي؛ حتى يَغترَّ الآخرون بعالميَّتِه وكونيَّته، وحتى تَنطلي على ذوي الانفصام المعرفي[1] تلك الخُدعةُ، ويَسهُل حشرُهم في دائرتِها، واستغلال عقولهم ونشاط إبداعهم؛ لِيكونوا نافذة يُطِلُّ منها المركز الغربي على أممٍ وحضارات أخرى، ويَنفُث فيها توجيهاتِه وقِيمَه وثقافته؛ من أجل الطمْس والتذويب، ثم الاحتواء في آخر المطاف.

فمقولة الاستقلاليَّة هذه هي التي جعلت الطريقَ مُمهَّدًا لبعض المعارف ذات الرؤية الغربيَّة مِن مِثلِ علْم النفس، وعلم الاجتماع؛ لِتشقَّ المسافةَ من مركزها الغربي “المُنتِج” نحو الأمم الأخرى “المُتلقِّية“، كما أنَّها أغرتْ كَثيرين من مَرضى الانْفصام المعرفي بتَلقُّف تلك المعارف من دون وعْي بخصوصيَّتها وإخلاصها الشديد للمركز الذي انبثقتْ منه، دون فلْي لعناصرها، أو تَفكيك لبِنيتِها؛ من أجل اصطفاء ما يُناسِب هذه الأمة أو تلك؛ حتى تكون الاستفادة واعية بذات المستفيد وكينونته، لا أنْ تكون عمياء تَحطِب الجيدَ والرديء، النافع والضار دون تَمييز، كأنَّ هناك تَماهيًا وتَوحُّدًا بين المركز الغربي وباقي الأمم والحضارات الأخرى، وهو أمْر تَمجُّه الحقيقة، ويَدمغُه الواقع بكلِّ مُكوِّناته.

ولمَّا كُتِب النجاح لهذه الخطة، شرَع في تسريب باقي المعارف الغربية إلى أمَمِ الأرض، ومن ضمنِها المعارف الأدبية إبداعًا ونقدًا وتنظيرًا، ولاقتْ استقبالاً رحيبًا من قِبل ذوي الانفصام المعرفي، مُضافًا إليهم المُرتزِقة من المُثقَّفين وطَالبي الشهرة والربح السريع، فخرُّوا عليها صُمًّا وعميانًا، ولم يَألُوا جهدًا في التبشير بكلِّ المذاهب الأدبية والنقديَّة الغربية، ونشْر تنظيرها ومفاهيمها وآليَّاتها، وتَطبيق كل ذلك على الأدب العربي قديمه وحديثه، رُغم أنَّهم لم يُحيطوا بها علمًا أو هضمًا، بل جاؤوا بِها مُشوَّهة، مقطوعة الرأس أو الذيل، أو مُركَّبة من رؤوس عِدة، تُحيِّر الباحثين، وتُبلبِل عقول المُتلقِّين.

ولعلَّ المُحزِن والدَّاعي إلى السخريَّة في نفس الحين: أنَّهم ابتلعوها جُملة من غير فهْم ولا استيعابٍ كليٍّ يَجعلُهم في موقع وموقف الناقِد البصير الواعي، الذي يسبر مادتَه مُستخرِجًا المفيد، ومُنحِّيًا لما دونه، وكان الضحيَّة هو الأدبَ العربي جَميعه، حيث شُرِّح بَمباضِع لا تُناسب بنيتَه، وفُكِّك بآليَّات منها المُصيب، وهو قليل، ومنها المُخطِئ، وهو الأكثر، وصنِّف ضمن قوالب مُحدَّدة، أَهدرتْ واحتقرتِ الكثير من أنواعه وأجناسه، كما وجِّه مصبه إلى غير وجْهته الأصيلة، ليَصبَّ في المجهول، الذي امْتطى صهوة حَداثةٍ مجنونة، لم يُحسم بعدُ في ماهيَّتها وآليَّاتِها، ولا معرفة غاياتها ومساقاتها؛ بل الأخطر من ذلك كلِّه هو أنَّ الضحية الأساس والمقصود الأول: هو المُثقَّف العربي المسلم، الذي شُتِّت عقله وإبداعه واهتمامه؛ بقطْع علاقته مع إرثِه الحضاري والثقافي؛ لِيهيمَ في كلِّ وادٍ، ويَسرَح في كلِّ فلاة، بغير قصْد معرفيٍّ، ولا هُدى ثَقافيٍّ، ولا وعْي بالذات وخصائص كينونتِها؛ فكان الفِصام النَّكِد الذي جعَل كثيرًا من المُثقَّفين مُهجَّنين مُتذبذِبين، لا هُم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وظلُّوا يَتأرجَحون بغير قرارٍ مُريحٍ، ولا ضمير مُستريح، وأثَّر هذا الفِصامُ والتأرجح على إنتاجهم اللُّغوي، فجاء تعبيرًا عن ذلك الهيمان المدفوع نحو المجهول، والمجرور بغير هدَف ولا غاية، كما أسَّس ذلك التشتُّتُ لقاعدة الضَّعف الأدبي الذي ظَهرتْ عِلاَّته في تجفيف اللُّغة من نضارتِها وجماليَّاتها، وفي رخاوة المضامين والمقولات، التي قَطعتِ الصِّلة بالأدب العربي الإسلامي وقِيمه وأساليبه وجماليَّة بلاغتِه، فبزَغ جيلٌ من الأدباء والقُراء تَميَّز بالضَّعف اللُّغوي، والقصور المعرفي، والجهل الثقافي، وخُبو الروح الحضارية التي تنبني الذات على قواعدها، ولكي تَتمُّ اللعبة المُميتة؛ فقد ظهَر إلى جانبِهم نُقادٌ مُتهافِتون، لا قيمةَ لنقْدهم سوى أنَّه يَجد سبيلاً إلى النَّشر في جرائد ومجلات مدفوع لها الثمن مُسبقًا؛ حيث يَقف وراءها مُرتزِقة مُهجَّنون أو مُغفَّلون، يَفتحون الباب لكلِّ غثٍّ ضعيف، يُساهِم في استنبات الضعف، ورعاية الجهل والقصور.

هكذا أُصيبَ الشعرُ العربي في مقاتِله حين سيطرتْ عليه مقولات الحَداثة، وتَغلغَلتْ مباضعُها المجنونة إلى صلْب نواتِه؛ لِتحطِّم كالطاعون شفرتَه الوراثيَّة العريقة، وتُصيبها بالخلل والدمار، بحُجَّة التجديد، فسارت القصيدة العربية المُعاصِرة إلا القليل نحو التصنيع والزخرفة اللغوية الفارغة، والعبث الذي يَضِلُّ فيه المعنى، ويَغيب في لُجَّته القصد في المضمون، وامحتْ عن اللُّغة جماليَّاتُها البلاغية والفنيَّة، وانطمست الذاتيَّة العربيَّة الإسلامية في ضَباب كثيفٍ من الجهل بتاريخها وقِيمها الأصيلة؛ بل “وتَخبَّا الجهل بالميراث الشعري داخل خَيمة الرَّداءة” كما يقول الشاعر المُنصِف المزغني (جهاد فاضل: كتاب أسئلة الشعر)، كما أنَّه تقوقع في شرنَقة الغموض المُطلَق، المشحون بالهلوسة والهَذَيان اللُّغوي، وأصبحتِ الدعوة إلى اللامَعنى المَلفوف بُلغة مُشقَّقة مُتفكِّكة دليلاً على فقدان الذات وإرثِها الحضاري، وهذا هو القصْد الأساس الذي راهَن عليه المركز الغربي، ونَجَح عبر قنواتِه المُتعدِّدة الأشكالِ والصور في الوصول إليه؛ ممَّا يُسهِّل عليه الاحتواء والسيطرة التَّامة، وكانت النتيجة ضمور الأدب العربي وتَأزُّمه ومُنتهاه إلى الباب المسدود على مستوى الشكْل والمضمون، يَتحرَّك دون أنْ يُراوِح مَكانه، فهل معنى ذلك سقوط جزء عظيم من بناء المعرفة العربيَّة الإسلاميَّة، والتسليم بِهذا السقوط؟ أمْ ذلك دليل على بداية الوعي بتلك الأزمة وأسبابها، هذا الوعي الذي سيَشقُّ الطريق للبحثِ عن مَسارب أُخرى تَضمنُ الاستمرار، كما تَضمنُ الأصالة والخصوصيَّة المُضيَّعة؟

من هذه الأسئلة نُؤسِّس للحديث عن الأدب الإسلامي، بما هو بديلٌ يَمتلِك من القوة الروحية والتعبيريَّة ما يجعله مشحونًا بالقِيم النبيلة، والأهداف الإنسانية السامية، التي تُحيي في الإنسان ما انْدرس من إنسانيَّته، وتَنمِيتها إلى أقصى مراتب الكمال والنُّضج من خلال رؤية مُتكامِلة البناء، راسخة القواعد، كما أنَّه يَمتلِك رصيدًا إبداعيَّا ضارِبًا في عُمْق الكثير من اللغات، وعلى رأسها اللغة العربية، ثم الفارسية والهندية والأمازيغية، كما أنَّه يَستمد من النَّبع الخالد الذي تَفيض أمواجُه، ولا تَغيضُ روافدُه: كتاب الله وقرآنه المجيد.

الأدب الإسلامي كأحد المعارف الكُبرى التي تَمُدُّ ذاتَ المُبدِع والمُتلقِّي بكثير من القِيم واللوحات الروحية والإنسانية الرائعة، والتي تَشفُّ معها اللغة، وتَتفجَّر ألوانًا من البلاغة الجماليَّة والبيان الهادف، لِتشكِّل مساحة إبداعيَّة لها نَضارتُها وفتْنتها، وسحرها الأخَّاذ، وأُفُقها المُتألِّق، الأدب الإسلامي كأحد الدعائم التي تقوم عليها الذات الإسلامية، وتُساهِم في بناء وعيها بنفْسها وكَينُونتها عن طريق اللُّغة كأعلى تَجلٍّ لذلك الوعي، وأجمل تعبير عن تاريخه وطموحه وتَطلُّعاته.

لقد تَحدَّثنا قبلاً عن الباب المسدود الذي بلَغه الأدباء والنُّقاد بفعْل انغماسهم المجنون في يَمٍّ من النَّظريات والمفاهيم الغربيَّة الأصلِ والمَنشأ، التي أصابتْ إنتاجَهم الأدبي بالتآكُل والضعف إلا قليلاً ممَّا يَنشرون، وخاصة تَيار الحَداثة الغامِض، الذي أصابَهم بالخَبَل المعرفيِّ والعَمَى الثقافي، وطوَّح بِهم في تِيه الغموض الفارِغ من المعنى والقصد، مع غرور زائد زاد في ضلالهم، ومكَّن للعَمَى في بصائرهم.

لذلك ولغيره؛ يَجدُ الأدب الإسلامي نفْسه مدفوعًا إلى الظهور من جديد، وبعُنفوان وقوة، مُحمَّلاً بقِيم ثقافية وروحيَّة، يُراد لها الاندثار، أو التشويه، أو المُحاصرة، بل يَجد نفسه مُلزَمًا بخوض معركة ثقيلة الوزن والمسؤولية في ساحة الحياة والتاريخ والحضارة، جنْبًا إلى جنب مع باقي عناصر المعرفة والوَعي الأخرى التي تتأسَّس عليها الذاتُ الإسلامية (سياسة واقتصاد وعلوم وتربية)، هذا الظهور لا يُمكن تحقيقه بقوة وحضور مُترسِّخ إلا إذا امْتلك الأدبُ الإسلامي وسائلَه الخاصة المُستمدَّة من التُّراث الإسلامي الأصيل، إضافة إلى ما هو مُفيد ونَافع من تُراث الإنسانية، وكذا رؤيته التي تَجعلُه مُنفرِدًا عن الرؤى التي تَضجُّ بها حلبَة الفكْر والإبداع؛ من أجل تَثبيتِ وجوده، وترسيخ سلطتِه في الواقع عمومًا، والواقع الثقافي خاصة، ولن يتمَّ ذلك كله إلا بتأسيس نظريَّة أدبية إسلاميَّة شاملة، لها مفاهيمها وأرضيَّتُها، ومواقفها ومُساجلاتها، وآليّات اشتغالها، ومواردها المادية كذلك، نظرية تَكشِف عن حقيقة هذا الأدب وأصوله الطيبة، وبنيته ومُكوِّناته الداخليَّة مضمونًا، والخارجيَّة شكلاً، كما تُبيِّن حدودَه ومضامينَه ومساحاتِ حركته وانْفصاله عن باقي التيارات والمذاهب والنظريَّات الأخرى، وكذا حدود اتِّصاله بِها وتَفاعله الإيجابي معها، وتَكشِف عن مواطن الضعف، فتدعو إلى اجتنابِها، ومواطن القوة، فتَدل عليها وتأخذ بأسبابها، وتبنيها عن وعْي وبصيرة، وتَسعى جاهَدة لاسترجاع موقِع الأدب الإسلامي إلى حاضِرة المعارف الإنسانية في الماضي والحاضر، هذا الموقع الذي طالما طُمِست ملامِحه وجغرافيَّته بنشاطاتٍ مَشبوهة لا تُحقِّق سوى ذاتية أصحابِها، وهي ذاتيَّة مُغرِقة في البُعد عن القِيم الإسلامية والذات الإسلامية بِما هي وجود راسخ، ووعي شاهد، وحركة فاعِلة، وطموح مؤسس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] يُمكِن تعريف الانفصام المعرفيِّ كما يَلي: حين يكون المُثقَّف جاهلاً بالعلاقات القائمة بين عناصِر الحضارة الواحدة، إما عن قصْد أو غير قصْد، أو عن تَجاهُل أو “ديماغوجية”، فإنَّه يَقعُ في الانفصام المعرفي.

– باحث في الدراسات الإسلامية ونظرية الأدب.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M