الدكتور عادل رفوش: على الطاعنين في الوحي قرآناً وسنة أن يغيروا استراتيجيتهم، ويضبطوا بوصلة أقيستهم
حاوره: نبيل غزال
هوية بريس – الإثنين 16 يونيو 2014
1- لماذا تلقى المسلمون صحيحي البخاري ومسلم بالقبول؟
(… ليس من السهل عقلاً وواقعاً أن يحظى أي مشروعٍ بشريٍ سواءً كان فكرةً أو منهجاً أو عملاً بإطباق الناس على معرفته ثم يطبقون على سلامته ثم يطبقون على مدحه واستحسانه… هذه مقومات في العلوم الإنسانية بل وفي العلوم التطبيقية قلما اجتمعت لمشروعٍ ما؛ لأن تفاوت الناس في معايير القبول متفاوتةٌ جداًّ يعسر معها أن يتفقوا على كلمةٍ واحدةٍ…
فإذا رجعنا إلى سؤالكم عن الصحيحين هذين الكتابين المباركين الذين مَنَّ الله على الأمة ببقائهما فيها مكرمةً للهداية وأَمَنَةً من الغواية، لأن اللهَ كتب على نفسه رحمة منه سبحانه أن لا يعذب هذه الأمة ما دامت السنة المشرفة قائمة فيهم رواية ودراية ورعاية قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}. فرسول الله فجع الكون بموته؛ ولكن لم يغب عن أمته لدوام سنته.. ورحم الله أبا داود سليمان بن الأشعث صاحب السنن الذي شبه كتابه بأن من كان في بيته فكأن عنده نبيا يتكلم…
فذانِك الكتابان آيتان من دلائل نبوة المصطفى، حيث اجتمعت فيهما تلك الخصائص الثلاث التي يندر أن يحظى بها أي مشروع إنساني:- المصداقية – الشهرة – المدح…. على وجه الإجماع المعتبر… مما يؤكد العناية الإلهية في تسخير الأسباب لحفظ السنة بل لحفظ الوحي وحماية الرسالة الخاتمة المهيمنة…
وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” معاني ثلاثاً لحقيقة الذكر المحفوظ تنتظم أسس الحجة البالغة؛ -حفظ القرآن وهو كلام الله… -حفظ ذات محمد وهو رسول الله…-حفظ وحي السنة التي هي مع القرآن ومثله…. فكان من لوازم ذلك هؤلاء العظماء المبدعون من أئمة الحديث وأساطين الرواية ممن لا يشك المثافن لأخبارهم بأنهم خوارق عادات كانت كراماتٍ لهذه الأمة، ودلائل على نبوة إمامهم صلوات ربي وسلامه عليه حتى بعد موته…
وإلا فأي عقل هذا وأي طاقة تلك التي تجعل آلافاً منهم يرحلون من الحجاز إلى أقاصي الدنيا سيراً على الأقدام وركوباً للأهوال والأخطار من أجل التأكد من لفظ حديثٍ واحدٍ… وتجعل الواحد منهم يعانُ على حفظِ مليونِ (ألف ألف) إسنادٍ لآلاف الأحاديث والأخبار…
لن أطيل في خوارقهم المبهرة فهي مشهورة مبثوثة ولكن أجتزئ منها التنبيه على وجوب الحذر من طَبَّالٍ بَطّالٍ يتكلم عن خبراء “النازا”.. فالمسألة ساقطة من أساسها…. وأن أولئك الأقوام حواريو رسول الله وآيات بينات تمشي على الأرض شهادةً بأن الله أكبرُ شيء شهادةً…
فالأمة لم تتلق هذين الكتابين بالقبول عبثاً؛ والقبول ليس شهادةَ “آيزوا” يمكن أن يلعب بها وفيها؛ وليس لجنة رباعية أو خماسية يمكن أن تجامل… بل إن القبول هنا تمحيصٌ لآلاف العقول على مر الدهور منذ المائة الأولى ومتابعات دقيقة من أجل الرد وتحريرات صارمة ليس فيها محاباة لأحد؛ وكيف يكون ذلك وقد ألف قبلهما وبعدهما الجم الغفير…
بدأ بإمامنا مالك في موطئه الذي لا يخفى أنه أصل البخاري وأن صحيحه كالمستخرح عليه على ما هو معروف بسطه في محله…
فالقبول بكل وضوح لأن الأمة لم تجد فيهما مطعناً ينزل بهما عن رتبة الصحة المعتبرة في الاحتجاج بالمتون والأسانيد وأن مسالك المحدثين كالدارقطني وعمار ابن الشهيد وأبي علي الغساني وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم في الملاحظة عليهما إنما هي فَنِّيات تخص علم العلل، وتدقيقات في الرسوم الحديثية والصناعة المصطلحية؛ وأما محل النزاع وهو إسقاط مروي من مروياتهما عن درجة القبول المفيد القطعية بأنه قول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين… فهذا لم ينازع فيه أحد من الأمة وقد تحقق الإجماع عليه الذي صار حجة على مخالفه مقطوعاً عليه بالوَهم أو الشذوذ أو الزندقة…
وإلا فقل لي بربك أي مؤاخذةٍ ذاتُ بالٍ حينما ينتقد الحافظ الدارقطني حديث أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال: “كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فَرسٌ يقال لها اللحيف” بأن أُبَيَّ بن عباس: ضعيفٌ؛
نعم هو ضعيف ولكن؛ هناك معطياتٌ أخرى:
1- تابعه أخوه عبد المهيمن،
2- وليسا متهمين،
3- هومن رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد فالحديث خارج من بيتِ الأسرةِ..
4- لمتن قصيرٌ جداًّ وليس من غرائب الطوال
5- لا يتضمن حكماً أصلياًّ ولا مستقلاًّ به…
على ما ذكر الحافظ في الفتح؛ فيكون تخريج البخاري لمعاني أخرى تفيد المحدث في باحةِ الرواية ومعرفة الرواياتِ وما يحتمل وما لا يحتملُ؛ وأما حياضُ القبول المفيدِ لقطعية النسبة لرسول الله وإثبات السنية؛ فهذا لا مطعن فيه بحالٍ ولا سبيل إليه إلا عند من لا خبرةَ لديه أو أزَّه الهوى فتحامل… مع أن الطاعن الصادق لا يعدو أن يكون قوله في مقابل قول الإمامين ولا شك أن قوله مرجوح أمام قولهما لثبوت أرجحية وتظاهر العلماء عليه.. ولا حاجة للتذكير في هذا السياق بأرجحية جامع البخاري على جامع مسلمٍ…
لأن الكلام هنا في بيان علوهما على ما عداهما وأن التلقي لهما بالقبول ناتج عن تحري دهور وتمحيص فحولٍ…
ولذا قال الحافظ 1/3 الهدي: (فأجمعت الأمة على كتابيهما وتلقتهما بالقبول والتسليم… ثم قال12: وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز…).
وقبله الإمام ابن الصلاح والباجي وابن تيمية وغيرهم من أعلام الأمة شرقاً وغرباً..
ومن خصائص الصحيحين:
1- أنهما أول من اشترط الصحة..
ولذا قال النووي في شرح مسلم1/4: (وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقاً الصحيحان للإمامين القدوتين… فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات)…
2- تشددهما في الشيوخ انتقاءً:
حتى جعل تخريجهما للراوي تعديلاً ولو جزئياً حتى قال الحافظ في الهدي403: (..فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما..) ويحضرني هنا كلام الذهبي عن حديث الولي الذي تفرد بإخراجه البخاري في الرقاق قال: لولا هيبة الصحيح لعدوه في منكرات خالد…
3- قوة شرطهما في روايتهما.
4- الدقة في الانتقاء والتبويب والمراجعة..
قال البخاري: صنفت جميع كتبي ثلاث مراتٍ..
وما أدخلت في الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله وتيقنت صحته.. (الهدي512).
وصنف مسلم صحيحه كما قال: (مِنْ ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنةً وجعلته حجة فيما بيني وبين الله) (وفي بلده نيسابور وبحضور أصوله -أي مراجعه وكتبه-).
وكلاهما خرج كتابه بعد مراجعة شيوخهم كالإمام أحمد وابن معين وابن المديني وأبي زرعة رحم الله الجميع…
5- كثرة الرواة واتصال السماع بهما إلى زمننا هذا والحمد لله رب العالمين وقد من الله علينا بقرائتهما من أول حرف إلى آخر الكتاب -وليست إجازاتٍ جوفاءَ..- سردا مجودا على جمع من الشيوخ في مناسبات متعددة بفضل الله وكرمه، آخرها عن شيخنا المسند الهندي محمد أكبر فاروقي.. (مما يطول الحديث عنه…).. هذا في زمن الارتداد العلمي فما بالكم بأزمنة السلف المباركة حيث رواه عن البخاري نحوا من تسعين ألف نفسٍ…
6- ناهيك عن شدة الاعتناء بهما بمختلف الوجوه شرحاً وتخريجاً واستخراجاً وإعرابا وتنكيتا واختصاراً ونسخاً وروايةً… وغير ذلك.
مما يظهر العناية الإلهية وأنها كتب نبي وليست مؤلفات أشخاص؛ وأن حض هذين الإمامين إنما هو الظفر بشرف النقل والحظوة بالدعوة النبوية لهم بالنضرة والنصرة في قوله: (نضر الله أمرأً سمع منا مقالةً فأداها كما سمعها…) الحديث.
ويحسن في هذا السياق الرجوع إلى كتاب العلامة الحجوي “الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام” ومجموعة بحوثٍ للشيخ الفاضل الدكتور بلافريج عن الجامع الصحيح جمعت مؤخراً في مجلدةٍ… ففيهما من الفوائد والاستقصاء مع النفس المغربي الأثير الذي لا تخفى بصمته على معتن مهتم..
رحم الله الحجوي ونفع الله بالشيخ زين العابدين وألحقنا وإياهم بالصالحين…
وأظن هذا القدرَ كافياً في الإلمام المجزئ وهو ما حضرني عن السؤال الأول.. وإلا فالحديث عن الصحيحين ذو شجون.. وقد توسع الناس فيه نظماً ونثراً… والله الموفق..
2- هل يعد الطعن في الصحيحين طعنا مباشرا في السنة النبوية؟
.. لم يكن الطعن لمجرد الطعن يوماً ما فكراً ولا منهجا عند عقلاء المنصفين حتى ولو كان عدوًّا أو مناوئاً؛ فإنَّ الطعن الذي يلبس لبوس اللمز والتحقير والتسفيه والتصغير؛ هو بضاعة المفاليس حتى ولو كانوا محقين فما بالك إذا كان التحامل والسباب من مبطلين ليس معهم من الحق شيء.
ولكن الواجب على من دخل رياض الفكر هو أن يمتع العقول بدقيق النظر وسديد القول الذي تقوده طوية سليمة ونوايا حسنة؛ تشدو أن تقوي أسباب النهضة في الأمة ووسائل عزتها ولا شك أن مبدأ ذلك هو استقامة فكرها الذي لا ينفصل عن دينها ولا عن تاريخها ولا عن مصادر ثقافتها…
فإذا كان الطاعن من صنف الغوغاء اللامزين فسلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.. وإن كان المناقش من أهل الفكر المتحررين فيبعد جدا أن يجمد على شبهة تشككه في رفعة الصحيحين كما ألمحنا لبعض ذلك في السؤال الأول… وأنه يتكلم في المقام النبوي مباشرةً وهو لا يشعر وإن ابتغى لذلك طريقاً ملتويا يدفع عنه التهمة ظاهراً ويجعل الناس يتورعون عن نسبته لأعداء رسول الله… وهذا يذكرني بالطاعنين في أخلاق العرب والمتهمين للشعر الجاهلي.
فإنهم لم يقصدوا قوميةً ولا نقداً أدبياً وإنما استدرجوا للاستخفاف ببيئة التنزيل وحجية الإعجاز وسذاجة الجيل القرآني الذي ليس إلا حفيدا للعصر الجاهلي، فتتم لهم المعادلة في إسقاط الأركان وإن جاؤوا إليها من حَدْبٍ بعيدٍ ونَقَّبوا في البلاد من طرف خفي… على ما هو معروف في الدراسات البلاغية والكتابات الاستشراقية وما عربه منها طه حسين وأضرابه…
3- يعتمد معظم منظري التيار العلماني آليات غربية للطعن في التراث، فما تعليقكم على استعمال مثل هاته الآليات؟
إن الطاعنين في الصحيحين: فضلا عن تهافت ما يوردون فإنهم لا شك خصوم للسنة وليس لمؤلف الصحيح وهم يريدون أن يجرحوا شهودنا عند الله والجرح بهم أولى كما قال أبو زرعة فيمن طعن على الصحابة رضوان الله عليهم…
ثم هم بذلك يخالفون الإجماع الذي صح انعقاده وحكاه غير واحد من الحفاظ كالسجزي وابن الصلاح وابن القيسراني والإسفراييني والنووي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم من الأئمة الأعلام رحم الله الجميع…
وأنه لا حجة لهم في النقدات اليسيرات التي يتداولها المحدثون حولهما فهي لا تنقض الإجماع وليست داخلة في محل النزاع وبعيدة أشد البعد عن أصول متون الصحيحين التي هي المقصودة أصلا، وليس ما يرد فيهما من الشواهد والمتابعات والاعتبارات والتنبيهات والموقوفات والتبويبات… فالأصول ولله الحمد مصونة مقطوع بنسبتها للمصطفى، قد استنطقت حروفها وحررت متونها وحرست إشاراتها واستقوت أسانيدها…
فلا فتيل شبهة يولج به إليها ولا نقير ولا قطمير… وعلى هؤلاء الطاعنين ممن ورثوا الحداثة الغربية فنقلوا الخصومة الدينية هناك مع الكنيسة إلى مصادر الإسلام ووحي رب العالمين قرآناً وسنة أن يغيروا استراتيجيتهم، ويضبطوا بوصلة أقيستهم ..
فهذا الدين الفصلُ ليس قابلاً لمولداتهم العقيمة كـ”الأنسنة” و”العقلنة” و”الأرخنة”.. فيراجعون الوحي ضمن ثقافات لادينية كالمستقبلية والوجودية والسريالية أو نظريات لغوية غربية غريبة كالبينونة والتفكيكية والسيميائية ونظرية موت المؤلف أو عزل النص ونحو ذلك من المناهج البعيدة عن منظومة الفكر الإسلامي الرصينة ولغة فهمه المستقيمة…. وقد ظهر ذلك في التحليل الضعيف والنتائج المختلة التي نطق بها أمثال الجابري وشحرور وحنفي وأركون… والله أعلم.