«الحق في المعلومة».. الوجه الآخر لحرية التعبير
عبد الله النملي
هوية بريس – الجمعة 20 يونيو 2014
(كان الحاكمون، أيام ادريس البصري وقبله، يعتبرون امتلاك المعلومة جزء من السلطة وممارستها، ويرون أن لصاحب السلطة، وحده، حق الوصول إليها، وامتلاكها، والاحتفاظ بها، وأن اقتسامها مع المواطن يفتح للشعب سبل المشاركة في امتلاك السلطة، ويضعف سلطة الحاكم. إن احتكار المعلومة نابع من احتكار السلطة، لذلك تتفق كل الأنظمة غير الديمقراطية على نهج نفس السلوك في مراقبة المعلومة ومنعها من الوصول إلى المواطن، وكمثال على ذلك ما يحدث عند الانقلابات العسكرية، إن أول ما يقدم عليه الانقلابيون هو السيطرة على وسائل الإعلام والتحكم في الأخبار. أما الأنظمة الديمقراطية فإنها تعتبر حق المواطن في الإعلام والمعرفة مقدسا، ومن هذا الحق تستمد الصحافة حريتها). “احتكار المعلومة احتكار للسلطة” محمد البريني.
في دراسة دولية ضخمة، شملت مُسوح ميدانية للقيم، في عدد كبير من الدول، ومنها الدول العربية، جاءت المنطقة العربية من أعلى الدول رفضا للحكم التسلطي، والأكثر تَفْضيلا للنظام الديمقراطي، وتقديرا لأهمية المعرفة في تحقيق التنمية الإنسانية، كإحدى أهم الحاجات الماسة للمجتمعات العربية في الوقت الراهن، وذلك ما جاء مؤكدا لتعليق التنمية الإنسانية العربية لسنة 2002، الذي خَلُص إلى أن السمة الغالبة على المشهد العربي هي تغلغل نواقص محددة في البنية الإنسانية، وهي الحرية، وتمكين المرأة، والقدرات الإنسانية الخاصة بالمعرفة.
ونستخلص من ذلك الارتباط الوثيق بين الحق في المعرفة وتداول المعلومات، وحالة الديمقراطية والحكم الرشيد، فدرجة الحق في المعرفة مؤشر هام لحالة الحقوق المدنية والسياسية بشكل عام في المجتمع، ومؤشر لمدى تمتع الدولة بمعايير الحكم الرشيد، والتزامها بالشفافية ومحاربة الفساد، وهذا ما يؤكده التقرير الصادر عن منظمة الولايات المتحدة الأمريكية لحرية التعبير في سنة 1999، عندما أكد على أن “الحق في الحصول على المعلومات الرسمية هو أحد أسس الديمقراطية التمثيلية، ففي نظام الحكم الذي يعتمد على التمثيل، يجب أن يستجيب من يمثل الشعب لمن ائتمنوه على تمثيلهم وأعطوه سلطة اتخاذ القرارات العامة، ويصبح للفرد الذي فوض ممثله بالقيام بإدارة الأمور العامة في تداول المعلومات، وهي المعلومات التي تستخدمها الحكومة وتتيحها باستخدام أموال دافعي الضرائب”.
إن الحق في المعلومة، الذي اعترفت به حتى الآن حوالي 90 دولة، من أهم الحقوق المُغَيّبة والمُهَمّشة في الكثير من دول العالم، حيث تُفَضل الحكومات القيام بأعمالها في السر، وتعتبر أن المعلومات الرسمية ملكا لها، بدلا من أن تعدها وسيلة تملكها وتحفظها نيابة عن الشعب، فَتَحْجُبَ عن المواطن حقه في الوصول إلى تلك المعلومات. الأمر الذي ينعكس سلبا على معرفته وقدرته على المشاركة السياسية، ويجعله بمَنْأى عما يحدث في مجتمعه. من هنا، فإن الكشف عن المعلومة، يُعد أمرا أساسيا ومفيدا، ويمكن تلخيص فوائده بما يأتي:
1- يعتبر الحق في الوصول إلى المعلومات، من حقوق الإنسان التي برزت حديثا، وهو الوجه الآخر لحرية التعبير، حيث أدى التطور الذي حصل على مفهوم الحكم الصالح، إلى اتجاه العديد من دول العالم نحو اعتماد قيم الشفافية، وفتح الأبواب المُغْلَقة، وتبني حرية تدفق المعلومة وتداولها. ولا يشكل الحق في الحصول على المعلومات حاجة للمواطن فحسب، بل هو حاجة أساسية لأية حكومة ترغب في إثبات صلاحها، فإصلاح مؤسسات الدولة، وجعلها أكثر كفاءة وشفافية، يعتبر ركنا أساسيا من أركان الحكم الصالح. ولا يَتَأتى هذا إلا من خلال جَعْل كافة الأعمال والمعلومات التي تتعلق بها متوفرة لكل مواطن يرغب بالإطلاع عليها. وقد بُني هذا الحق، على أساس أن المؤسسات العامة تحتفظ بمعلومات لا تخصها، بل بالنيابة عن العامة، وأن ” الشأن العام هو شأن العامة “، ويشير هذا المبدأ إلى ضرورة إدخال آليات فاعلة، يستطيع الجمهور من خلالها الحصول على المعلومات، ومعرفة ما تعمله الحكومات بالنيابة عنه، وتداول هذه المعلومات.
2- إن أهمية حق الحصول على المعلومات، يعني أن الدولة أصبحت تَنْصاع لمنطق الاتصال. ففي النموذج التقليدي المبني على السرية، تُبْنى دوائر الاتصال بين الإدارة والجمهور على نموذج مفرد الجانب، وبطريقة تكفل سيطرة الإدارة على المجتمع. أما في النموذج الإداري الشفاف المبني على إتاحة المعلومات، فإن لغة الحوار المبنية على التفاعل والتبادل تصبح القاعدة الأساسية في العلاقة بين الإدارة والجمهور، وبالتالي يكون لكل طرف أثره على الآخر، ويكون له الحق في أن يحصل من شريكه على المعلومات، مما يجعل من المواطن عنصرا فاعلا في الإدارة العامة وليس مجرد خاضع لها.
3- إن الحق في الحصول على المعلومات، مرتبط ارتباطا وثيقا بالمحاسبة التي تشكل هَدَفا مركزيا لأي نظام ديمقراطي، تُصبح أية محاولة للتطوير بدونه صعبة، مادامت أنشطة الحكومة وصنع القرار تجري بعيدا عن أعين الجمهور الفاحصة. فضلا عن أن ممارسة المواطن لهذا الحق، تُعَزز العلاقة المتبادلة بين الدولة والمواطن، لكونها تجعل الإداري يقوم بوظيفته في أجواء شفافة، تكشف عن مواطن الخلل والتجاوز، وتَحُد منها لمجرد شعور من يقوم بمسؤولية الشأن العام، بأن المواطنين على علم بما يقوم به، الأمر الذي يُقلل من فُرص الفساد وسوء استخدام السلطة. كما يؤدي الإقرار بحق الحصول على المعلومات إلى إخضاع الإدارة لمبدأ العلانية، وبالتالي الخروج من منطقة الظل التي تُحيط بأعمالها، فتصبح إدارة تمارس أعمالها تحت أنظار الجمهور وفي وَضَح النهار، لا تُخْفي أسرارها أو تحتفظ بخصوصيتها، مما يُحولها تدريجيا إلى بيت من زجاج. فالشفافية الإدارية تعني اختفاء السرية، بمد العلانية إلى أعمال الإدارة، وخضوعها للمناقشة العامة. فتصبح بذلك مُلتزمة بتبرير اختياراتها وتصويب أخطائها.
4- يؤدي الإقرار بحق الحصول على المعلومات إلى جعل الإدارة قريبة من المجتمع، بحيث يصبح الخط الفاصل بينهما ضئيلا جدا. فالشفافية الإدارية تعني نهاية الإدارة المُنفصلة والمُنعزلة عن بقية المجتمع، وإزالة كافة الحدود بين الإدارة والمجتمع، وجَعْل الإدارة مُلاصقة لبيئتها الاجتماعية. كما تعني أيضا سحب الخصوصية التنظيمية والمؤسساتية من الإدارة، ودمجها في المجتمع، بحيث لا تعود كيانا متميزا ومنعزلا عنه، بل جزءا منه.
وقد نَصّ دستور 2011 للمرة الأولى بالمغرب على الحق في الحصول على المعلومات. ويُعْطي الفصل 27 من الدستور للمواطنين والمواطنات حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارات العمومية والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام. و”لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي، والحماية الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق السياسية المنصوص عليها في الدستور، وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة”.
وهناك فصول دستورية أخرى تحتوي بشكل غير مباشر على جوانب من حق الحصول على المعلومات، حيث يضمن الفصل 25 حرية الفكر والرأي، وحرية الإبداع والنشر، كما يكفل الفصل 28 حرية الصحافة، وحق التعبير للجميع، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية ومن غير قيود، عدا ما ينص عليه القانون صراحة، ويطالب الفصل 148 المجلس الأعلى للحسابات بنشر جميع أعماله، بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية، كما يفرض الفصل 158 على الشخص الذي يمارس مسؤولية عمومية، مُنْتَخبا كان أو مُعينا، أن يقدم طبقا للكيفيات المحددة للقانون، تصريحا كتابيا بالممتلكات والأصول التي في حيازته، ناهيك عن أن الفصل 167 يلزم بإنشاء هيئة وطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، وتتولى تلقي ونشر المعلومات في مجال الوقاية من الرشوة .
وبالرغم من كل ذلك، ما زال الحصول على المعلومات في المغرب محدودا، رغم التصديقات الكثيرة على المعايير الدولية التي تُلزمه بتنفيذ كل من الحق في المعلومات، ومعايير مكافحة الفساد في القوانين والسياسات الداخلية.
ولَمّا كان حق الحصول على المعلومات حقا من الحقوق والحريات الأساسية الذي كرسه الدستور المغربي، استجابة للحاجيات التي عَبّر عنها التطور الكمي والنوعي للإدارة والمجتمع، والتزاما بالمواثيق والمعاهدات الدولية، ولاسيما المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وكذا المادة 10 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، فقد بات من اللازم إخراج الإطار القانوني إلى حيز التنفيذ، والذي صدر بشأنه مشروع قانون رقم 31,13، كانت قد أعَدّته وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، في لجنة مشتركة بين الوزارات، يتضمن ديباجة وثمانية أبواب، منذ ما يزيد عن السنة، دون أن يجد بَعْدُ طريقه للمصادقة والتنفيذ، كترجمة لتنزيل مقتضيات الدستور، وضبط الحق في المعلومة، وضمان ممارسته، تعزيزا لانفتاح الإدارة على محيطها، وللشفافية ومحاربة الفساد، وترسيخا لثقافة الحكامة الجيدة، والديمقراطية التشاركية، من خلال تحفيز المواطنين على المشاركة في مراقبة عمل الإدارة، وفي اتخاذ القرار، وجذب الاستثمار الأجنبي، كما سيسهم هذا القانون في حال تنفيذه بحظ وافر في تقوية الصرح التشريعي، وتعزيز اللبنات الأخرى التي وضعها المغرب على هذا المسار، بإصدار قانون إلزام الإدارات العمومية والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية بتعليل قراراتها الإدارية، وقانون حماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، وكذا إحداث مؤسسة الأرشيف، ومؤسسة الوسيط، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والهيئة المركزية للوقاية من الرشوة. وغني عن البيان أن عدم التوفر على المعلومات على المستويين الدستوري والتشريعي ينعكس على مستوى السياسات في مؤشر حرية الصحافة.