روعة رمضان في «محاميد الغزلان»
الحبيب عكي
هوية بريس – الثلاثاء 08 يوليوز 2014
كان بودي أيها السادة والسيدات، أن أطير بكم ولو بخاطري وقراءتي وبحثي وتجوالي، إلى أبعد وأغرب منطقة في العالم الإسلامي ونحن على مشارف شهر الوحدة والتوحيد سيدنا رمضان، وأنقل إليكم من هناك خبر ما عندهم خبرا خبرا تربية وثقافة وعادة ورياضة، وعبادة صلاة زكاة حجا وصياما وغير ذلك مما يعتز به مسلمو تلك البقاع والأصقاع بكل بساطة وقناعة فجعلوه محور حياتهم وجوهر تنشئتهم وممارستهم؛
أناس يكتفون من كل دنياهم بالتمر والحليب و”النوم على جنب الراحة”، وأناس حسبهم من سعادتهم بدينهم عادات القران والختان وأضحية العيد ولبس الجديد، وأناس ملئوا مساجدهم تلاوة قرآن وأداء صلاة أناء الليل وأطراف النهار وهم الذين حرموا منها جورا وطغيانا 70 سنة مضت انتصرت بعدها العقيدة والايمان، وأناس كانوا وما يزالون يحجون على الأقدام عاما وينشغلون بمعاشهم عاما ويكابدون من أجل ذلك بكل فرح وسرور ما يكابدون، وأناس لا يزالون يتعاطون “بوكو حرف” وقراءة رصينة ومبدعة في زمن “بوكو صورة” وإعلام شفوي مغرض ومبلد، وأناس.. وأناس.. وأناس، ولكن مع الأسف نسري وخطافي رسا بي فقط في محاميد الغزلان، ومن يدري فلعلكم تستمتعون وتستفيدون ولعلي بهذا أفرح ولا أندم، فمحاميد الغزلان، منطقة نائية في واد درعة من الجنوب الشرقي، والجنوب الشرقي أو كما قال أحدهم هو الجهة الوهمية الواقعية، واقعية لأن لها مقومات الجهة الجغرافية والتاريخية والإثنية والاجتماعية والثقافية، ووهمية فقط لأنها رغم كل هذا لا توجد على أرض الواقع؟
من هنا نتساءل: ما هي معايير التقطيع الجهوي الرسمي، بل ما هي أهداف هذه الجهوية الموسعة ككل، إذا لم تكن تراعي خصوصيات المناطق، ولم تلبي حاجياتها التنموية، ولم تعد النظر في هذا النموذج التنموي المشوه الذي طالما اهتم بإطالة البنيان على حساب الإنسان، وطالما نهج سياسة إغناء الغني وإفقار الفقير، وتماما على عكس كل شعارات المناظرات الوطنية للجماعات المحلية عبر عقود مضت، من “التعايش” و”التمازج” و”اللامركزية واللاتمركز” و”التشارك” و”التضامن” و”التطابق”..؟؟؟
محاميد الغزلان يا سادة، ما هي إلا نموذج لكل مناطق الجنوب الشرقي الممتدة من ورزازات.. زاكورة.. مرزوكة.. تنغير.. غريس.. الرشيدية.. تافيلالت.. ميدلت في أعالي ملوية.. بوعنان بوعرفة وفكيك..، مع بعض التفاوت غير المخطط له طبعا!
وعبثا حاولت الدولة تنمية هذه المناطق وعلى مدار نصف قرن مضى، دون جدوى، بل لم يكن حظها من التنمية عشر معشار ما نالته الحواضر الكبرى التي تمثل امتدادا لها وهي الراكدة في تخومها ولا زالت نائمة أو تنمو إن صح التعبير على فتاتها(الرشيدية//مكناس) و(ميدلت//بني ملال) و(فكيك//وجدة) و(ورزازات//مراكش وأكادير)!
صحيح أن الجهة تعاني من عدة إكراهات بالغة الخطورة: كقساوة الطبيعة، وجفاف المناخ، وشساعة المساحة، وتباعد المدن والبوادي، والكوارث الطبيعية كالتصحر والفيضانات، وتراجع الفلاحة والرعي والتجارة…، ولكن رغم كل شيء لا يجوز أن يظل كل نصيب هذه الجهة من التنمية هو التهميش والإقصاء والتراجع الشامل!
فالمحاميد مثلا ورغم كل الشعارات والوكالات والبرلمانات والحكومات..، تراجعت من محاميد نهر درعة (النيل المغربي أيام زمان)، إلى مجرد كثبان رملية دائمة الزوابع والهيجان شمالية غربية إلى جنوبية شرقية لا يستطيع التحصن ضدها إنس ولا جان ولو كان في أعلى تل أو أعماق مرجان!
كما تراجعت “المحاميد” أيضا من مرعى الغزلان (المها المغربي أيام زمان) التي كانت بالأمس ترتوي وترعوي على ضفاف النهر الخالد إلى مجرد جماعات من الجمال التائهة على سفوح الجبال أو مروضات فلكلورية في محطات سياحية، عبثا تحاول المساهمة في محاربة البطالة المقنعة للشباب؟؟؟
تنمية اليوم طالما مست كيان إنسان المنطقة وهددت استقراره ولم تبقي أمامه في حياته إلا خيارات أحلاها أمر من المراراة:”عزلة قاتلة أو هجرة غير شرعية، أو استغلال بشري مهين أو عولمة غازية والعولمة أدهى وأمر”؟. ومن أبسط تجلياتها أن بيعتنا قصورنا المهجورة للسياح الأجانب، وحولت جوهر حياتنا من الفلاحة وخيراتها إلى السينما والسياحة وإكراهاتها، كما حولت تجارتنا من المنتوج المحلي البيولوجي إلى سلعة وافدة جاهزة داخلية وخارجية، فإذا فخار “تامكروت” كما قال أحدهم صار فخار “آسفي”، وإذا ب”الملحفة” الصحراوية صارت موريطانية و”البلغة” الدراوية صارت صينية أو إيطالية؟؟
تنمية الجنوب الشرقي والعالم القروي عامة، لا بد لها من منطلقات أساسية وإلا فملهاة وخطأ يخطط المخططون وعبثا وانتظارا ينتظر المنتظرون:
1- التخلي عمليا عن سياسة المغرب النافع والمغرب غير النافع، أو مغرب “المخزن” الذي ينبغي أن ينعم عليه إلى درجة عمارات استشفائية متخصصة لمجرد حي أو شارع من السكان في العالم الحضري، ومغرب “السيبة” الذي ينبغي أن يترك لحاله وحظه العاثر إلى درجة ولا مستشفى واحد في الإقليم القروي ككل(تنغير والريصاني)؟.
2- الاجتهاد الحقيقي في إنتاج الثروة، والعدل والإنصاف في توزيعها بشكل تكافلي تضامني، حسب الأولويات وحسب المناطق وبما يغني الفقير ولا يفقر الغني، ولنتذكر جميعا أن الجنوب عامة والعالم القروي خاصة هو الرئة الطبيعية والرافد الثري للشمال عامة والعالم الحضري خاصة؟.
3- تذكر المكانة التاريخية والأهمية السياسية والخصوصية الحضارية للجنوب الشرقي، مهد الدولة السعدية والعلوية، ومنطقة حدودية شديدة الوطنية، وموطن الأولياء الصالحين ومدرسة الأبطال المقاومين والملاحم الوطنية الخالدة، (إسلي 1844 ومسكي 1916 وبوكافر 1933)، وينبغي أن يكافأ كغيره من الجهات؟
4- استمرار سكان المنطقة في بدل جهدهم التنموي الذاتي المعروف، حتى قيل عنهم أن ما بينهم وبين المركز السلطوي غير الضرائب والدعاء للسلطان على المنابر والدفاع التلقائي والبطولي عن حوزة الوطن، جهد يستحضر على الدوام تراث المنطقة المادي واللامادي: التنوع ألاثني والاجتماعي، والتعايش التاريخي الفريد في ظل القيم الحضارية والأخلاقية السمحة لأبناء المنطقة، رجال الطيبوبة والكلمة والبساطة والقناعة والعلم والمعرفة والكد والاجتهاد وغير ذلك مما وسع حتى الجالية اليهودية في المنطقة قبل حركة رحيلها أو على الأصح مخطط ترحيلها إلى “تل الربيع”، نعم لابد أن ترتكز تنميتنا على البشر والأفكار لا على مجرد الطين والأحجار، ولعل الفكرة الأس والأساس في هذا الاتجاه هي الدين الإسلامي السني المالكي الوسطي المعتدل الذي ينطق به كل شيء في المنطقة قبل غيره مما استحدث اليوم للناس من”العرقيات” و”اللسانيات” و”الجغرافيات” المغلفة مع الأسف بكثير من “الحداثيات” و”الحقوقيات” و”الدوليات” وغير ذلك مما قد يكون في انحرافه من الجاهليات المعاصرة؟
5- التركيز على المواضيع التنموية المحلية قبل هموم العولمة الفاحشة والاستهلاك الشهواني المدمر: ك”فك العزلة، الصحة والتمدرس وخاصة الفتاة القروية، النخل والزيتون واللوز والجوز والورد والرمان…، الماء ومحاربة الفقر والهشاشة والتصحر والفيضانات، الثروة الحيوانية وتطوير إنتاجها كما وكيفا وتسويقا، ولعل دعم سياسة المغرب الأخضر في هذا الصدد يكون خير حامل ومسلك، ولا شك أن تراث المنطقة كذلك جد مسعف في هذا الاتجاه:ك”قوانين توزيع الماء/الرعي والفلاحة/الهندسة المعمارية لبناء القصور/مواد البناء والقصبات والأسواق والمساجد/باب القصر وعجل القبيلة وساحة الأعراس والطقوس الاحتفالية والمأتمية/اللباس وساحات اللعب والترفيه والسياحة/”السواقي”و”النوادر” و”التويزة” وعادات التضامن والعمل الجماعي/قواعد ورموز التنشئة الاجتماعية/ الجماعات السلالية أدوارها وممتلكاتها وتحالفاتها عند التوترات والصراعات..، وغير ذلك كثير مما يستوجب المزيد من البحوث والدراسات الميدانية والمتخصصة؟
6- مجتمع مدني قوي وفاعل مؤهل ومنظم في شبكات واسعة متخصصة ومستقلة، قريبة من المواطنين ومرافعة عن قضاياهم دون انغلاق قبلي ولا استغلال سياسوي ولا ريع مدني ولا انحياز فئوي وغير ذلك مما يشتت الجهد التنموي اللازم، والأهم أن تعي هذه الشبكات دورها التنموي الحقيقي والمتمثل في تعبئة الموارد البشرية والإمكانيات المادية والعدل والإنصاف والنجاعة في استثمارها وتوزيعها، دون النيابة عن الدولة والأحزاب أو مهادنتها عندما تتخلى أو تتهاون في مسؤولياتها اتجاه الناس والمنطقة فتساهم بذلك في “أهوال التعتيم” على حد قول “أيت الفقيه”، لذا فأحيي العديد من الكتاب والباحثين والمبدعين وأحيي موقع شبكة “جنوب شرق” الإخبارية وبعض شبكات الجنوب الشرقي التي سبقت إلى الاشتغال في هذا الإطار وبهذا التصور مع الجمعيات والمرأة والطفل والشباب، على أن ترتبط برامجها وتدخلاتها أكثر بهموم التنمية في المنطقة كمحاربة الفقر والهشاشة والعناية بالبيئة والصحة والتمدرس وفك العزلة عبر العديد من الطرق المعبدة بين المداشر والحواضر كما حدث بإنشاء طرق (تنغير-ألنيف) و(الريصاني-زاكورة) و(بوذنيب-كرامة)، ومحاربة التهميش والإقصاء والبطالة والهجرة والعنوسة المستفحلة بين الشباب، وليس مجرد مشاريع وشراكات مغلفة أحيانا بالريع الثقافي في غفلة من أهل الشأن، ما قد يساهم في إخراج قطار التنمية المحلية عن سكته الحقيقية، تنمية القيم والإنسان أولا؟
7- وأخيرا لابد من العمل على استعادة الدور الريادي والتاريخي للجنوب الشرقي في التراث اللامادي للعالم، أيام كان جسرا تجاريا ودينيا وثقافيا بين أروبا وأفريقيا، وكان كلية علمية وجهادية واسعة الإشعاع: “المكتبة الناصرية بـ”تمكروت” ومكتبة “أبو سليم العياشي” بزاوية سيدي حمزة، ومساجد كبرى في كل قصر محاطة بعشرات غرف حفظة القرآن وطلبة العلم من “المرتبين” الذين كان صوتهم عند قراءة “الحزب القرآني” يسمع كل غروب على بعد كيلومترات؟
إشعاع بلغ الساحل وجنوب الصحراء في مالي والسينغال وتومبكتو وباماكو ودكار واليوم مع جامعات الرشيدية وورزازات أكرا وأبيدجان حيث لازال المريدون هناك يحجون اليوم إلى الموسم العالمي للبدو الرحل في محاميد الغزلان بزاكورة (سيدي ناجي)، يحجون اعترافا ووفاء حبا وشوقا، وكأنهم “المها” و”الغزلان”، يحيون الرحم والذاكرة بدفء ليالي الصحراء وصفاءها وروعة رمضان أهلها وتجربتهم الروحية الثرية التي ما فتئت تسعفهم من هول الحر والقر واضطراب الفر والكر في غياب التنمية والتغيير اللازم في الاتجاه اللازم..، ما يجعل فعلا من محاميد الغزلان.. أرض درعة والجمال.. محاميد الإنسان.. أرض القيم والرجال!!