غزة بين تجدد المأساة وتجديد العهد..
ذ. حمّاد القباج
هوية بريس – الأربعاء 09 يوليوز 2014
لا ينبغي أن نختلف في أن واجبنا تجاه ما جرى -ويجري- في غزة من حصار ودمار؛ أكبر بكثير من كتابات تنديدية ومسيرات شعبية..، نعبر من خلالها عن تضامننا مع إخواننا، واستنكارنا للجرائم الوحشية التي يقترفها الغول الصهيوني على مرأى ومسمع من العالم، بمباركة وقحة من سدنة كيانه، وحماة وجوده.
وإذا كنا نقر بأن هذه الوسائل التعبيرية رمزية أكثر من كونها مؤثرة على أرض الواقع؛ فإنه يجب علينا أن نجدد التزامنا بلزوم السبيل الكفيل برفع المأساة ونزع الذل والهوان..
وهو ما يحتم على كل واحد منا أن يسأل نفسه عن موقفه من الوجه الثاني لعملة العدوان الصهيوني على الأمة..
أجل؛ هذا العدوان عملة لها وجهان:
الأول: اغتصاب الأرض وإزهاق الروح وتخريب الديار (وهو ما يحدث في غزّة).
أما الوجه الثاني: فهو اغتصاب الفكر وقتل القيم وتخريب القلوب.
وإذا كان الفلسطيني معرضا للقذائف (الإسرائيلية) المتلفة للجسد والمال، فإن المغربي معرض للقذائف الصهيونية المتلفة للروح والقيم؛ قذائف تطلقها طائرات الإعلام، ودبابات مناهج التعليم الفاسدة، وغيرها من الآليات الفتاكة..
وإذا كان العدو الصهيوني قد تغلغل في أراضي غزة بطائراته وقذائفه وأحيانا باكتساح بري؛ فإنه قد تغلغل في حياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر غزو فكري يسلبنا مقومات شخصيتنا، ويجعل منا أعداء لهويتنا الحضارية بشتى التأويلات ومختلف التسويغات!
إن ما يتعرض له المجتمع المغربي منذ عقود من سعي حثيث لعلمنة أهله وصبغ حياتهم بمبادئ الفكر العلماني، لهو أشد -في حقيقة الأمر- من اغتصاب الأرض وإزهاق الروح وإتلاف المال.
وقد وضع دعاة النحلة العلمانية لمشروعهم خطة مدروسة محبوكة، تنفذ عبر آليات متنوعة، توظِّف السياسة وتسخر الإعلام وتستخدم الثقافة والفن والرياضة..الخ.
وهذا يشكل نوعا خطيرا من أنواع الحرب غير المباشرة التي شنها الكيان الصهيوني –بالوكالة- على الأمة الإسلامية..
والذي يقرأ كتابات الأستاذ عبد الوهاب المسيري رحمه الله يقف على البراهين القطعية على كون العلمانية في الأصل مادة (خام) أنتجها الفكر الصهيوني الماكر، وصدرها إلى دول العالم ليتم تكريرها وتوزيعها على الناس على أنها منتوج اقتصادي وفعال لغسيل التخلف والظلامية..!
وإذا كنا نتفهم أسباب نَفاق هذه السلعة في السوق الأوربية لما هو معروف من معاناة أهلها بسبب (الدين المحرف)، فإن الترويج لها في البلاد الإسلامية بلادة وجهل، يُخضع رقابنا لسيف العدو الذي لا يرحم، ويفقدنا عنصر قوتنا الأهم (الدين الحق)..
والعجيب أنه في الوقت الذي تبني فيه الدولة العبرية وجودها على الأساس الديني، وتقيم سياساتها على ذلك الأساس؛ نرى أكثر الدول العربية والإسلامية قد اتجهت نحو بناء كيانها على أساس العلمانية وفصل الدين عن الحياة، واعتبار هذا هو المخرج من التخلف والاستبداد..
ومع أن هذه الدعوى كذبها الواقع الذي أظهر بأن تبني العلمانية لم يحقق لنا تقدما فعالا ولا عدالة اجتماعية ولا عدلا في تداول السلطة واقتسام الثروة..
ولم يخرجنا من أوحال الذل الذي يمعن العدو في سقينا جرعاته المرة؛ فإننا لا زلنا نرى من يؤمن بها ويدعي أنها طوق النجاة ومنفذ الإغاثة!
إن العلمانية ليست مجرد فكر يدرس في الجامعات أو مذهب يناقش في المنتديات، بقدر ما أضحت في مجتمعنا ممارسة يصطبغ بها سلوك كثير من الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ وإلا فكيف نفسر موقف وسلوك مسلمين يرون أن الدين لا يتجاوز أحكام العبادة وطقوس الشعائر، وأنه لا حكم له على سلوك الإنسان في كافة مناحي الحياة..؛ فلا دخل له في لباسه ولا في لغته ولا في بيعه وشرائه ولا في تعاملاته وعلاقاته..
ويصل هذا ببعض المسلمين إلى حد أنهم تشمئز قلوبهم إذا سمعوا أمثال هذه العبارات: الحجاب واجب، التبرج حرام، زكاة المال واجبة، الربا حرام، العفة مطلوبة، الزنا حرام؛ وقس على ذلك.
إن تغلغل الفكر العلماني في حياتنا؛ مسخ بعضنا لدرجة أنهم ضاقوا ذرعا بشريعة دينهم الذي أكرمهم به ربهم، وودوا لو تمحى بالكلية من حياتهم الشخصية والاجتماعية والسياسية؛ لتحل محلها شريعة الأمم المتحدة التي ترسخ الظلم وتقر أبشع صوره وأشكاله…
إلى غير ذلك من مظاهر الاستلاب الفكري والمسخ السلوكي الذي امتد إلى ضحاياه عبر أطراف الأخطبوط (الصهيوعلماني) الخانقة.
فهل هناك عدوان أشد من ذاك الذي يؤدي بالإنسان إلى التبرؤ من مبادئه وقيمه وعناصر القوة في تاريخه؟!
إننا ما لم نكسب المعركة ضد هذا التغلغل المعنوي الفكري؛ فإننا لن نتمكن من إيقاف أي عدوان على الأرض والروح..
ومن هنا؛ فإن كل من فرط في شيء من أحكام دينه فإنه يعد مكسبا مطلوبا للعدو الصهيوني بقدر ما فرط فيه.
ومن عَظُمَ تفريطه إلى درجة صيرورته علماني الفكر أو السلوك؛ فهو الأولى بأن تنظم الوقفات باكية على حاله، شاجبة لفعل الصهاينة به؛ وإلا فقل لي بربك: ما قيمة خروجي أربع ساعات في مظاهرة وأنا زاهد في تخصيص ساعة لأداء فرائض الصلاة؟! وما قيمة حمل المرأة أثواب اللافتات وقد فرطت في لباس القانتات؟! وما وزن قطع المسافات بالنهار والارتماء في أحضان المومسات بالليل؟!..
وكيف يعقل أن نرفع الأصوات نهارا بسب الصهاينة وتخشع أبصارنا ليلا أمام إنتاجات (هوليود) وغيرها من مراكز التأثير الإعلامي الصهيوني؟!.. إلـخ، إلـخ.
وبعد؛ فإن النصح الجاد ثقيل على النفس، لا سيما حين يطالبها بنوع من المواجهة للعدو تتجاوز جوب الشوارع ورفع الأصوات بالهتاف، إلى مواقف أشد نكاية به وإبطالا لكيده، مواقف تجسد تمسكا كاملا بالدين، والتزاما جادا بمقتضيات التدين، يصونه من فيروس العلمانية الفتاك الذي سلطه عليه الكيد الصهيوني ليجعله حبيس الضمائر والمساجد، عديم الأثر والعائد..
إنها المواقف التي أرشدنا إليها نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال عن الذل الذي لحق الأمة: “لا ينزعه الله عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم” (حديث صحيح رواه أبو داود).
إنها حقيقة منهجية تتأكد يوما بعد يوم، وهي حقيقة تاريخية اجتماعية لخصها أستاذ العدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: “نحن العرب قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”.
لا بد -إذن- من تجديد العهد بالرجوع الى الدين، ولا بد من التبرؤ من العلمانية التي تهمش الدين وتحارب التدين، وهو ما يجعلها أخطر أشكال العدوان الصهيوني على الأمة الإسلامية..
ويوم يتحرر المسلمون ونخبهم السياسية والمثقفة من آثار هذا العدوان الآسر؛ يومئذ يمكن أن يؤدوا واجبهم الفعال والمؤثر في كف النوع الآخر من العدوان..
اللهم فرج هم إخواننا المستضعفين في غزة، اللهم ارفع حصارهم واجبر كسرهم وعظم أجرهم وتقبل موتاهم شهداء..