العلمانية والشؤون الإسلامية.. ماذا يريد السيد توفيق؟
ذ. إبراهيم الطالب (مدير أسبوعية السبيل)
هوية بريس – الأربعاء 16 يوليوز 2014
لم تَرْسُ سفينةُ الحكم في كل البلدان الإسلامية على مرفأ الشريعة، بعد خروج الاحتلال الغربي العسكري لبلداننا، إذ لم يخرج دهاقنة تلك الحملات إلا بعدما ألغوا العمل بالشريعة، وأبطلوا الحكم بما أنزل الله، وثبَّتوا مكانهما القوانين الوضعية العلمانية ليصبح الإنسان المسلم محكوما بغير شريعة دينه التي عاش أجداده في ظلها طيلة 14 قرنا.
أكيد أن ما ذكرته في علم أغلب القراء، لكن المغزى من إيراده هنا، هو استصحابه كمقدمة لمناقشة السيد وزير الشؤون الإسلامية، ولفهم مجموعة من التصريحات والتدابير التي فاجأ بها الرأي العام المغربي.
كما علينا أن نستصحب أيضا، ونحن نناقش السيد الوزير، أن المغرب على طول تاريخه، كان:
– منظما وفق الشريعة الإسلامية.
– العلماء فيه حكام على السلاطين.
– القضاء يجري فيه وفق المذهب المالكي.
وعندما نقول القضاء، ينسحب الحكم على:
– الاقتصاد.
– الأحوال الشخصية.
– المعاملات بين «المواطنين»، سواء التجارية أو المدنية.
– العقوبات الزجرية الجنائية.
حتى الدفاع عن أمن البلاد ورد الصائل (الجهاد مع السلطان) كان يتم وفق الشريعة الإسلامية، وكذا علاقات المغرب الخارجية مع باقي الدول، وكل هذا موثق في كتب الوثائق الملكية وغيرها.
الخلاصة أن كل أمور الحياة كانت منظمة وفق أحكام الشريعة.
ثم في عقود الضعف تغلب الغازي الأوربي العلماني، واستبدل الحكم بما أنزل الله، بقوانينه العلمانية، وحارب القضاء الإسلامي، واستبدله بالقضاء الفرنسي، حيث ألغى رواتب القضاة وعزل منهم من شاء، وفرض ثقافته ونظمه، على المغرب والمغاربة الذين عاشوا منذ الفتح الإسلامي في ظل حكم الشريعة، وأرسى منظومة قوانين مستمدة من تشريعاته العلمانية، فلم يخرج خروجه العسكري حتى جعل كل بنيات المجتمع الاقتصادية والسياسية والثقافية خاضعة لثقافته وقوانينه.
وبعد خروجه رفعت مطالب لاستئناف العمل بالشريعة وإبطال ما أحدثه الغزاة، فأُسِّسَت لذلك لجنة لم تستطع -بفعل المكر السياسي- استكمال عملها، في ملاءمة كل القوانين لأحكام الإسلام، فاقتصر جهدها على وضع مدونة الأحوال الشخصية، ثم جَمّد عملها من يهمه أمرُ استمرار العلمانية نظاما في المغرب.
لكن المنعطف الخطير، كان بعد الأحداث الإرهابية، التي يطالب لحد الساعة مَن أدين بسببها الدولةَ ببيان الحقيقة للرأي العام، والإجابة على كثير من نقط الاستفهام التي ظلت عالقة، ولأن المتهم كان هو التدين والمتدينون، فقد انصب عمل وزارة الأوقاف على «تنظيم وهيكلة الحقل الديني» فعملت على إقالة كل خطيب غلب على ظنها أنه لن يـُروَّد، وأصدرت الوزارة دليل الخطيب والإمام لضبط عمل القيمين الدينيين، وبدأت عملية تكوينهم وتخريجهم، كما تم هدم كل المساجد التي لم تكن تحت رقابة الوزارة وأغلقت المساجد الأهلية «الكراجات» التي اتخذها الناس لصلاتهم عندما كانت الوزارة لا تلقي لبناء المساجد بالا، وعوضتها بعدد كبير من المساجد الفخمة، ثم تلاها صدور ترسانة من القوانين تضبط الشأن الديني، وتنظمه بشكل مثير للجدل، ثم أغلقت دور القرآن حتى يتم تجفيف منابع إنتاج خطاب ديني خارج إطار الوزارة، وصادرت السلطات حق الجمعيات المنظمة لتلك الدُّور في تأطير الناس وتعليمهم.
ثم تم الحجر على الفتوى وتضييق مجالها.
كل هذا مفهوم وإن كان بعضه غير مقبول، لكن ما يقلق حقيقة هو ما تلا هذا التنظيم والتقنين والهيكلة من تصريحات ومواقف للسيد الوزير.
فقد دعا وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بمناسبة صدور الظهير الملكي المنظم لمهام ووظائف القيمين الدينيين داخل مساجد المملكة، خلال ندوة صحفية عقدها بمقر وزارته الأربعاء الأخير (9 يوليوز 2014)،
دعا إلى إبعاد السياسة عن الدين، معتبرا أنه «لكي لا تفسد السياسة لا يجب أن يدخل فيها الدين».
كما شدد على أنه «من غير المنطقي أن يكون الأئمة في خلاف سياسي مع المأمومين»، مستطردا «لا نخاف على الدين من السياسة لأنه مستمر، ولكن نخاف على السياسة من الدين، لأنها بذلك ستفسد، ولا نريد لسياستنا أن تفسد».
السيد الوزير لم يعط مفهوما للسياسة ولم يذكر حدودها، بل جعلها مطاطة تستوعب كل مناحي الحياة، ونتفق معه في ذلك لأنها كذلك، إلا أنه عندما تحدث عن الدين حصره في العبادات والرقائق، حيث نبه إلى المخالفات التي تقع فيها قلة قليلة من الخطباء والوعاظ الذين ينتمون للأحزاب والنقابات اليوم في المغرب وذلك «عند قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أن البعض يخرج على السنة»، موضحا أن من مهام السياسة كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشددا على أن «من يحصرون النهي عن المنكر بالعصي، فهذا أمر غير ممكن، لأن كل هيئات الدولة وأجهزتها تشتغل في هذا الباب، ويبقى للإمام دوره في كلام القلوب والرقائق بعيدا عن الأوامر».
إذًا، فالسياسة وهيئات الدولة وأجهزتها هي من لها حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتترك للقيمين الدينيين مجال الرقائق والعبادات.
لقد اتضح بكل يقين أن السيد الوزير، يقوم بأخطر عملية جراحية على جسم الدين والشريعة والمذهب المالكي والعقيدة سواء الأشعرية أم السلفية، بحيث عمد خلال هذه العملية إلى بتر كل أعضاء الحركة من جسم الدين، ليبقى مقعدا مشلولا حبيس جدران المساجد، بل أجرى على «عقل الإسلام المغربي» أخطر عملية تجميد وتحنيط، جعلته أشبه ما يكون بدين النصرانية، حتى يستجيب للعلمانية التي ورثها المغاربة عن المحتل.
الوزير وهو أستاذ التاريخ يعلم يقينا أنه يعبث بالدين ويُحكِّم فيه السياسة، فلطالما ردد على مسامعنا أن مشروعه في هيكلة الحقل الديني هو مشروع يتساوق فيه الديني والسياسي، وقد تبين اليوم أنه يسوق الدين والشريعة ليذبحا على نُصب العلمانية قربانا للعلمانيين، الذين لا ينبسون بكلمة تعارض خطة الوزير، بل يعطونه الغطاء السياسي والتأييد الإعلامي، لأنه خدمهم ويخدمهم خدمة ما استطاعوا أن يحصلوا عليها ولو في ظل الاحتلال الفرنسي والإسباني.
نسائل السيد الوزير هل كلام الخطباء في تنبيه المغاربة المسلمين إلى حرمة أخذ القروض الربوية، هل يعتبره سيادته حديثاً في السياسة، أم في الدين؟
وهل تناول الخطباء للمنكرات التي يجاهر بها بعض المغاربة في الشواطئ، والعلب الليلية المرخصة هل يعتبر كلاما في الدين أم في السياسة؟
وهل الحديث عن غزة ومحنة إخواننا في فلسطين على أيدي الصهاينة هل يعتبر حديثاً في الدين وقياما بواجب النصرة الذي أوجبه الله في القرآن أم هو حديث في السياسة؟
وهل إذا شجب خطيب إعلانات القمار في القنوات الوطنية هل يعد هذا من السياسة أم من الدين؟
ناهيك عن العري الفاحش، وبيع الخمور للمسلمين، وكازينوهات القمار؟
إن السيد الوزير بالتدابير التي يتخذها والقوانين التي يسنها، يمهد لزوال الملكية، أو على الأقل لتحويلها إلى ملكية برلمانية، يسود فيها الملك ولا يحكم، ويشارك في جريمة نظر إليها الغرب وفرضها على حكام المسلمين، تقضي أن يتخذوا من الحركات الإسلامية والتيارات الدعوية عدوا، لا يمكنه أن يكون في يوم من الأيام شريكا.
فعندما يقول الوزير: «لكي لا تفسد السياسة لا يجب أن يدخل فيها الدين».
الدين الذي جعله الله مصلحا للسياسة والناس، وجعله نورا وأمرنا أن نتحاكم إلى شريعته، يعتبره السيد الوزير مفسدا للسياسة.
الوزير بهذه التصريحات يكون قد أجهز على مفهوم إمارة المؤمنين كما تعارف عليها المغاربة، فالبيعة تاريخيا وشرعا لم تكن إلا بمثابة عقد يلتزم به الأمير بحماية الدين وإقامة الشريعة والجهاد، مقابل أن يلتزم الشعب بالسمع والطاعة في غير معصية.
ربما نتفق مع السيد الوزير على أن الدين قد يكون مفسدا للسياسة، لكن للسياسة العلمانية فقط، التي ألغت حكم الله سبحانه لعباده من خلال شريعته.
الدين يكون مفسدا للسياسة إذا كانت هذه السياسة تفصل بين الله وخلقه، وتجعل الكون خارجا عن هيمنة الله، وتعطل أفعال الله وصفاته، وإفساد الدين في هذه الحالة يكون بمثابة الإصلاح الذي أمر الله به.
لقد صدق العلمانيون المغاربة عندما خلعوا على سعادة الوزير لقب مارتن لوثر المغرب، فهو رغم أنه لم يتوفق في تثبيت التلفزة في المساجد على غرار إدخال مارتن لوثر للموسيقى إلى الكنائس، إلا أنه خلال هذه العشرية التي قضاها بالوزارة استطاع أن ينزِّل القراءة الجديدة لنصوص الدين كما وضعها العلمانيون، بحيث أصبحت كل القوانين العلمانية الوضعية التي ورثناها عن المحتل الفرنسي، لا تعارض الشريعة، إذ يكفي في نظر الوزير أن «يبقى للإمام دوره في كلام القلوب والرقائق بعيدا عن الأوامر» على حد تعبيره.
فإذا لم يأمر الخطيب والإمام والواعظ بما أمر الله به، هل يبقى هناك معنى للخطبة والإمامة والوعظ؟
ماذا يفعل القسيسون والرهبان في الكنائس في كل الدول العلمانية، سوى الكلام في القلوب والرقائق بعيدا عن الأوامر.
السيد الوزير فرض على القيمين الدينيين «الالتزام بأصول المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وثوابت الأمة وما جرى به العمل بالمغرب» الندوة نفسها.
فلماذا اقتصر السيد الوزير على أصول المذهب دون فروعه؟
الجواب واضح لأن فروع المذهب كلها تندرج ضمن أبواب السياسة والاقتصاد والجبايات والجهاد، وكلها ميادين تنظمها اليوم القوانين الوضعية المخالفة للمذهب المالكي، لهذا أكد على الأصول حتى لا يحرج نفسه والقيميين معه.
يبدو جليا أن السيد الوزير يتمثل جيدا النموذج الغربي، ويُحكم خطته في تنظيم «الحقل الديني» بالمغرب، ليبقى حقلا مفصولا عن حقل السياسة في زاوية الفرد المنقطع عن الشأن العام، الفرد الذي تلعب السياسة في كل أموره، بينما يبقى الدين ينتظره في المسجد لا يرى له أثرا في حياته العامة، الفرد المنشغل فقط، بأحوال إيمانه الذي لا يترتب عنه عمل، الفرد الذي يفصل بين قلبه وبين جوارحه، فرد يؤمن إيمانا قولا باللسان منفصلا عن العمل بالجوارح.
وهل النصرانية المحرفة غير هذا؟
فهل نصدق بعد هذا كله، أن القانون موضوع الندوة الصحفية هو فعلا كما قال الوزير: «يعتبر من جملة أمور كثيرة تصب في اتجاه حماية الدين»؟
فما مفهوم هذه الحماية للدين؟
ذكرني مفهوم هذه الحماية بذلك القانون الأبله الذي يبيح لنواب وكلاء الملك أن يسجنوا السائق الذي قام بقتل أحد المارة بسيارته، ولو لم يكن مخطئا، وذلك لحمايته من ذوي المقتول حفاظا على حياته.
بهذا المعنى ربما نفهم حماية السيد الوزير للدين،
فهو يريد أن يحميه من السياسة، لهذا قرر أن يعطي للدين 50.000 سجن هي عدد المساجد مزخرفة على طراز الكنائس الفرنسية، بينما يطلق يد السياسة في المجتمع والوطن والاقتصاد والكليات والمعامل والإدارة والداخلية والخارجية والبر والبحر والجو على غرار السياسة الفرنسية.
إنها حماية بكل معاني السجن والحبس والصبر، إنها حماية بمعنى الموت.
إننا ننتظر أن يصعد أحد البرلمانيين العلمانيين وما أكثرهم ليعلن من كرسيه في البرلمان «موت الإله»، على غرار «نيتشه».
والإله هنا ليس رب المغاربة سبحانه، بل هو إله بمفهوم علماني، إله كما عند النصارى واليهود إله قاتَل البشر وقاتل الشيطان بيده، إله تعب في اليوم السادس من خلق السماوات والأرض ثم استراح يومه السابع، إله أشبه ما يكون بالبشر لهذا جاز في عقولهم الصدئة أن يجري عليه الموت، أما الإله في ديننا، فحي لا يموت بل هو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
إن المغاربة يدركون جيدا أن العلماء ورثة الأنبياء كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، لذا لا يرون أنه يسع العلماء أن يبتعدوا عن الشأن العام، وهذه مؤتمرات «رابطة علماء المغرب» -التي غُيِّر اسمها بعد وضع «خطة إعادة هيكلة وتنظيم الحقل الديني» فأصبحت «الرابطة المحمدية لعلماء المغرب»- لا زال العلماء من خلالها يطالبون بإقامة الشريعة والتحاكم إلى نصوصها، مع تنبيه الدولة إلى ما يخالفها في الواقع من منكرات وموبقات في توصياتهم وخطبهم ومحاضراتهم ودروسهم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.