عن الثوار وعن الإرهابيين كلمة؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – الخميس 17 يوليوز 2014
إن التساؤلات المتبادرة إلى الأذهان بخصوص عنوان المقال هي الآتية: هل الثورة هي الإرهاب أو نوع من أنواعه؟ وهل الثوار هم الإرهابيون؟ أم إن هذين المفهومين غير مترادفين؟ فحيث توجد الثورة لا يوجد الإرهاب؟ وحيث يوجد الإرهاب لا توجد الثورة؟ وإن كانا غير مترادفين، فما هو الحد الفاصل بينهما من حيث الدلالة اللغوية، ومن حيث الدلالة الاصطلاحية؟ وأيهما أحق للدولة أن تمارسه، وهي التي لا تعرف غير العسف والجور والتهديد؟ وأيهما من حق معارضيها المسلحين أو المسالمين ممارسته؟ أم إن حق الدولة في الثورة والإرهاب حق مكفول بنصوص قانونية؟ إنها تمارس ثورة استباقية مستمرة ضد شعوبها كما تمارس الإرهاب سواء بسواء؟
ما لا بد من ملاحظته، هو أن الثورة مفهوم يوصف في العصر الحاضر بكونه عملا تقدميا مرتبطا بالمناضلين، خاصة على عهد الحروب الباردة. إنها اندفاع عنيف إلى تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي أنواع: مواجهة الاستعمار، كثورة المغاربة والجزائريين والتونسيين ضد الاحتلال الفرنسي. وكمواجهة الليبيين للاحتلال الإيطالي. وكمواجهة الأنظمة الظالمة بالعصيان المدني بدون سلاح، كثورات الربيع العربي في كل من ليبيا (قبل اللجوء إلى السلاح)، وتونس، ومصر، والمغرب، واليمن، والبحرين، وسوريا (قبل مواجهتها بالسلاح). وثورة تقودها ضد الحكام المستبدين منظمات سرية، تمارس لتحقيق أهدافها حرب العصابات التي يمكن أو لا يمكن أن تؤدي إلى النجاح. وثورة تقودها القوات المسلحة التي لم يكن مضمونا نجاحها كلما قامت هنا، وكلما قامت هناك.
إن الثورة المصرية بزعامة من وصفوا بالضباط الأحرار، نجحت في الاستيلاء على السلطة، مثلها مثل ثورة السودان واليمن والعراق وسوريا وليبيا وموريتانيا. ولكن الثورة المغربية بنفس المفهوم فشلت لأكثر من مرة! غير أن الثورات الانقلابية بكاملها لم تصل إلى حد تحرير الشعوب من الظلم والطغيان، وإنما قامت للعمل على ترسيخهما لتمارس عنفا أشد من الذي قبله في ظل الدول الليبرالية الرأسمالية.
وما قيل عن ثورات يقودها الضباط، يقال عن ثورات يقودها زعماء منظمات سرية مسلحة. فالثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو، وبمعية رفاقه، وفي مقدمتهم شي غفارا، حققت نجاحا باهرا من ضمن نتائجه، إزعاج الأمريكيين الذين كادوا يصطدمون بالروس عام 1962م، وذلك بسبب حضور بوارجهم الحربية المعززة بصواريخ وبأسلحة نووية إلى خليج الخنازير لإظهار دعمهم اللامشروط للنظام الجديد في هافانا!
فكان أن مثلت الثورة الكوبية نموذجا للمنظمات السرية التي ظهرت بكثرة في العالم الثالث، حيث كانت الحرب يومها على أشدها بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي. فالاتحاد السوفياتي كان يتزعم المعسكر الأول، يدعم الثورات المحلية ضد مسمى الإمبريالية الغربية. والولايات المتحدة الأمريكية، تمد خصوم الشيوعية بدعم يتجاوز المتطلبات اللوجستيكية إلى الحضور في ميدان المعارك بجنودها وطائراتها المقنبلة الضخمة. وما حرب الفيتنام عنا بخافية أو منسية!
في حين أن قادة العرب والمسلمين ينقسمون إلى قسمين: قسم يدور في فلك المعسكر الاشتراكي، وقسم يدور في فلك المعسكر الرأسمالي. فكان أن تم تركيز الدول الذيلية على الجانب الأمني مخافة امتداد الخطر الشيوعي أو الخطر الرأسمالي إليها! فتأكد أن أموالا طائلة أنفقها حكامها لفائدة حماية نفسها من أي خطر داهم! وفي المقابل، تشددت بخصوص مطالب الشعوب في حقها الطبيعي، إلى حد أنها حرمتها من أموال طائلة وظفتها خارج بلدانها للمشاركة في الإطاحة بنظام معين! أو قمع حركة تحررية في جهة محددة! فحرب الرمال التي اندلعت عام 1962م، بين المغرب والجزائر، شارك فيها الجيش المصري بأعداد لم يتم اطلاعنا عليها! لكن وقوع محمد حسني مبارك حينها كضابط كبير في يد الجيش المغربي، عجل بوقف مهزلة استمرار المصريين في مواجهة جيشنا على الأرض! ثم إن المصريين تجاوزوا حدودهم عندما أرسلوا آلاف الجنود للمشاركة في الإطاحة بالنظام الملكي في اليمن! دون ذكر حشر نظام القذافي لجنوده في التشاد المجاورة لبلده لإنجاح الثورة ضد حكامها المستبدين! فضلا عن أموال ليبية طائلة أنفقها لمساعدة البوليزاريو، وقبلها للإطاحة بالنظام المغربي عندما قدم أموالا وأسلحة وإذاعة للمنظمة السرية التي كان على رأسها الفقيه محمد البصري. وهو على هذا المنوال (النظام الليبي) يجاري ما قدمته سوريا لمنظمات يسارية قادمة من شتى الدول العربية التي يوصف حكامها بالرجعيين. ورجعيتهم تتمثل عند المناضلين بالأمس في الفساد السياسي والاقتصادي والمالي! والالتجاء إلى الخرافات والأوهام! استعانة منها بالفكر الظلامي الديني!!!
لكن الثورات الناجحة في بلدانها أبقت دار لقمان على حالها وزيادة! فلا ليبيا، ولا مصر، ولا سوريا، ولا العراق، ولا اليمن، ولا السودان، عرفت قفزة جذرية تقدمية إلى الأمام حيث تعيش شعوب هذه البلدان في جو من الاستقرار والحرية والديمقراطية والكرامة! حتى إذا ما انهزم المعسكر الاشتراكي في الصراع الاقتصادي والسياسي بالتحديد، تبنى على استحياء أزلامه في الدول التابعة له نظام الاقتصاد الحر! ثم قوي التغازل بين المستبدين من قادة الليبرالية العاهرة وبين أذيال الاشتراكية الدولية المنهارة! وانتهى التغازل إلى وضع الاشتراكية العلمية والاشتراكية الديمقراطية في متحف العقول الآسنة التي أفسدتها الإغراءات التي تلقاها أصحابها بسخاء ممن كانوا يصفونهم بالحكام الرجعيين! ثم تحولوا مع فعل تمتعهم بالمال الوفير، إلى مجرد أتباع إمعة! يكيلون للرجعيين بالأمس من الأمداح، ما جعلهم يتجاوزون مجرد مرحلة التملق إلى المشاركة في السلطة على أساس دعائم الأنظمة التي لم تسلم قط من تبرم شعوبها المضطهدة بها؟
وليس غريبا أن يحدو الاشتراكيون العرب حدو أسيادهم بموسكو وبكين فيما يتعلق بفهم الحرية فهما حددته ثقافتهم الشيوعية التي تسعى إلى إسعاد الجماهير بعبارة، أو إلى إنصاف الأغلبية الساحقة بعبارة مماثلة! فالطغاة من الإقطاعيين البورجوازيين الذين يتخذون من الملكية وسيلتهم لاستغلال الشعوب واستعباد العمال، لا بد أن يحرموا من الحرية لفائدة الطبقة العاملة التي يحكم الاشتراكيون باسمها على حد ما يزعمون! وهذا ما فهم من قول لنين بعد تعرضنا للاستعمار بثمان سنوات، نقصد في حدود 1920م. فقد قال بالحرف: “لا نستطيع أن نمنح المواطنين حريتهم السياسية، خشية أن يستخدم أعداء الشيوعية هذه الحرية في القضاء علينا”.
ونفس المنطق اعتمده القادة الرأسماليون العرب، حتى وإن لم يصرحوا علنا به. إنهم لشدة خوفهم من صعود نجم الأحزاب الاشتراكية من خلال كسبها لعطف الجماهير الشعبية، ركبوا متن مضايقات الأحزاب تلك، إما بمنع نشاطاتها بحجج واهية. وإما بكيل سيل من الاتهامات إليها حتى تتمكن من ملاحقتها قضائيا لإضعاف تأثيرها ولإسكات صوتها، ولمنعها من الحصول على رخصة الاعتراف بها من جهة، ومن الحصول على الأغلبية المطلوبة لإدارة الشؤون المحلية من جهة ثانية. أو لتزعم وضع القوانين كقرارات تقلل أو تضعف من مصالح قادة الاقتصاد الحر الانتهازيين الذين يقدمون الولاء للحكام، كي يظلوا حيث هم يمتصون دماء الشعوب، عن طريق الغش والتدليس، متكاملين مع اللوبي الرأسمالي الذي نشر أذرعه كالأخطبوط في العواصم العربية والإسلامية! فكان أن تكدست أرزاق الشعوب ومقدراتها التي تعود إليها ملكيتها في أبناك وفي مصارف الغرب الأوربي، وفي أبناك وفي مصارف الولايات المتحدة الأمريكية، مما أدى إلى الازدهار الاقتصادي في الغرب جملة وتفصيلا!
كل ذلك يجري أمام سمع وبصر القادة العرب والمسلمين! كانوا رؤساء وصلوا إلى السلطة عن طريق الانقلاب! أو كانوا ملوكا ورثوا السلطة عن الآباء والأجداد! أو كانوا أمراء مثلهم مثل الملوك من حيث التوريث الذي امتدت مغرياته إلى بعض الدول الجمهورية التي دفعت به إلى التفعيل، وذلك حتى لا يبقى هناك أي حد فاصل بين وراثة السلطة في النظام الملكي والأميري والجمهوري! وكان أن تم تدشين توريث الرئاسة في سوريا حيث جلس بشار الأسد على كرسي الرئاسة بعد وفاة والده الطاغية الذي لم يخرج ابنه عن صفات والده الظلامية! ثم كان أن بدأت عملية التوريث تأخذ مجراها في مصر وليبيا واليمن! غير أن الأحداث التي فجرها الربيع العربي، حالت دون تنفيذ مخطط التوريث في أكثر من بلد!
إنما لا ننسى أن التوريث في صورته الحديثة قد جرى به العمل في مصر، والجزائر، وحتى في تونس الليبرالية الاتجاه. فالسلطة في مصر بعد انقلاب عام 1952م ضد الملك فاروق، آلت إلى العسكري جمال عبد الناصر (الطاغية)، ثم آلت بعده إلى العسكري محمد أنور السادات (المتجبر). ثم آلت بعده إلى العسكري محمد حسني مبارك (المتحالف مع الصهيونة). ولما هبت رياح الانتفاضة الشعبية لدى المصريين عام 2011م. أبعد العسكري الثالث صوريا عن السلطة من خلال شريط سينمائي شارك في إخراجه الصهاينة والأمريكيون والغربيون المناهضون لأي تحرر من طغيان الديكتاتوريات المتحالفة مع خصوم الإسلام والمسلمين بوجه عام! دون أن يدرك الشعب المصري الوديع ما الذي كان يجري في الخفاء لإجهاض ثورته، ولإعادة الأمور إلى ما كانت عليه حتى قبل عام 1952م! نقصد التبعية العمياء إما للقطب الروسي وإما للقطب الأمريكي! فمن خرج عن التبعية للقطب الأول، دخل في التبعية للقطب الثاني! أما عدم التبعية لأي قطب من القطبين، فيبدو أنه بعيد المنال لأسباب موضوعية من جملتها نسجل:
1- حب الزعامات والظهور والتباهي والتعالي كأسوأ الرذائل الأخلاقية! بعيدا عن فضيلة نكران الذات بتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة! أي إن النرجسية هي الطاغية على شخصيات حكامنا للأسف الشديد.
2- غياب الرغبة الأكيدة عندهم في الوحدة التي تقوي الصفوف، خاصة وأن الانتماء الأيديولوجي عندهم متقدم على الانتماء الوطني والديني. إنهم لم يستطيعوا حتى توحيد السياسة الخارجية لأن سياستهم المالية والاقتصادية منعدمة، والحال أن الأوروبيين في توحدهم بمثابة نموذج من المفروض أن يتخذه قادة عالم يجمعهم الدين الواحد الذي يعتبر التوحيد أساسا للأخوة والمساواة كما تنطق بها النصوص.
3- قبول الزعامات العربية والإسلامية كأعوان في الحرب الباردة، بأداء دور الحراس حتى لا تنتشر بين أظهرهم هذه الأيديولوجية أو تلك! فأذناب الأمريكيين وعملاؤهم مسؤولون عن تقزيم أية محاولة ترمي إلى وقف الزحف الرأسمالي. وأذناب السوفيات وعملاؤهم مسؤولون عن تقزيم المحاولات الرامية إلى وقف المد الشيوعي الذي يريدونه عالميا دون غيره من الأنظمة.
وفي ظل هذه التصورات، كانت الشعوب ضحية! فلا هي حاضرة في القرارات التي تتخذ والنظام الاشتراكي قائم لأنه عدو الحريات وكابث لها! ولا هي حاضرة والقرارات المصيرية التي تتخذ والنظام الليبرالي الأهوج والأعرج قائم! ومن أجل الذي حصل كواقع تحكمه مصلحة الكبار، تدمرت الشعوب التي كانت ولا تزال تنتظر اللحظات الحاسمة لتلقي بالظلمة والمنافقين إلى الهاوية! وبوادر تذمرها لاحت في الأفق قبل عام 2011م.
فقد انتبهت الشعوب إلى أن النظامين المفروضين عليها ظالمان غاشمان! وهذا يعني أنها لن تتوقف عند حد من ضبط النفس لا تتجاوزه إلا بشروط، من ضمنها تحررها من القهر والاستغلال والاستعباد! فضلا عن امتلاكها المتوقع لمفتاح الاختيار الحر الذي يمكنها لو أمسكت به، من الحصول على كافة حقوقها المهضومة! يعني أن الحكام الديكتاتوريين عبيد الغرب المسيطر، لا بد أن يضعوا في حسابهم كل المفاجآت الممكنة لقلع جذورهم الظلامية من تربة الشعوب التي لن تتحمل الطغيان إلى آخر الدهر.
وكلمة لا بد من التأكيد عليها، حتى لا يستمر المتنورون في دولنا من جعل الحقد المتبادل وسيلة للتعايش بين كافة الفرقاء السياسيين الاجتماعيين الذين جمعتهم نفس المحن ونفس المعاناة. فالإرهاب الذي كانت الدول تمارسه، ولا تزال تمارسه ضد شعوبها، لا يرقى إلى مستوى الإرهاب المنسوب ظلما في أحيان عدة، إلى من يعتبرون خارج تصنيف الدولة مناضلين بحثا عن العدل والحرية والكرامة والديمقراطية، مهما تكن الصفة التي يحملونها. فمصر التي كانت ولا تزال تعج باتجاهات سياسية مختلفة، لم تعرف كيف تستفيد من الثورة التي أطاحت بديكتاتور، شغله الشاغل إرضاء الصهيونيين والأمريكيين الذين طالما جمعته وإياهم سهرات ماجنة في شرم الشيخ، وفي منتجعات أخرى داخل مصر وخارجها! لكن اليسار المصري المتنطع يأبى إلا التحالف مع الفلول لإرجاع دورة الزمان إلى ما كانت عليه. فكان أن تحالف مع الطغمة العسكرية التي هي امتداد لخونة مصر الذين باعوها للصهاينة وللأمريكيين كحماة دولة صهيون المغتصبة للأرض العربية، التي فشل قادة الدول من اشتراكيين وليبراليين في استردادها كحق مغتصب هم أولى من غيرهم بتحريرها وتحرير شعبها الذي لا يزال يعاني تحت أنظار الديكتاتوريين العرب الظلمة الجبارين!
إننا إذن كشعوب عربية وإسلامية محكومون بقبضة الحديد والنار، وأننا لا زلنا نتطلع منذ عهد بعيد إلى التحرر من جميع ألوان الطغيان. وأن إرهاب الدولة علقم لم ينج أي منا من تذوقه! وأن الإرهاب المضاد لا ننكر وجوده لأننا ضد الظلم والاعتداء على الغير، وإنما نحن نشجبه ونلقي باللائمة على متعاطيه! يعني أنه لا سبيل إلى الاستقرار بالمرة إلا إن نحن تخلينا عن الإرهاب كدولة وكجماعات تشهر الإرهاب في وجهها لإيقاظها من سباتها الذي يمثله التمادي في إزهاق الحق ورفع راية الباطل خفاقة ولو طارت “معزة” كما يقول المثل المغربي السائر!!!
الموقع الإلكتروني: www.islamtinking.blog.com
العنوان الإلكتروني: [email protected]