جهاد غزة.. «مسطورٌ في الكتاب» (ح1)
د. عادل رفوش
هوية بريس – الجمعة 01 غشت 2014
إذا عجز المكلف عن النطق بالشهادتين اكتفي منه بما يدل على الإقرار..
وإذا عجز عن الطهورين سقطت عنه الصلاةُ في قولٍ لمالك..
وإذا لم يجتمع النصاب فلا زكاةَ..
وإن لم يقو على الصيام أفدى..
وإن عدم الزاد والراحلة كأظهر صور الاستطاعة في الحج؛ فلا حج عليه حتى قيل في مرحلةٍ من تاريخ المغرب بسقوط الحج عن أهله لمخاوف الطرق في أفريقيا…
ارتباط التكليف بالأهلية والقدرة أمر مجمع عليه؛ وتندرج تحته تفاصيل لا حد لها من الطهارات؛ إلى “فلا إشكال”. (آخر كلمة في مختصر سيدي خليل حتى صارت مثلاً عند أصحابنا المالكيين على بلوغ نهاية الشيء).
إذا علم هذا؛ فإن “الجهاد” عبادة عند بعض الفقهاء ومعاملة عند آخرين؛ والأصح أنه عبادات فيها معاملات؛ بل إن طائفة من الفقهاء ترجح أفضلية نفله على نفل الحج وفرضه على فرضه..
ومع ذلك فلا خلاف بين العلماء أنه شريعة ربانية واجبة التعظيم بالغة الحكم قائمةٌ إلى يوم القيامة؛ لا يسعنا أن نقول فيه -مهما كانت الإكراهات- خلاف قول الحق سبحانه:
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:95، 96].
في آيات عظيمات تؤسس مفهومه بين عقيدتين:
1- عقيدة “عزَّة الإباء”؛ بحيث:
ولا يقيمُ على ضيمٍ يرادُ به***إلا الأذلان عَيْرُ الحي والوتد
(العَير بالفتح: الحمار، خلاف العِير بالكسر).
2 – عقيدة “حكمة السلم”؛ بحيث جعلته الشريعة شعاراً حتى في التحية.
فلا تتعطش شريعتنا للدماء ولا تحمل السيف إلا حِماية ورِعاية ودِعاية:
– حماية للبلاد أن تغتصب؛ ردّاً لعدوان المعتدين ودفعاً للغازين والصائلين.
– ورعاية للحقوق أن تنتهك؛ إنقاذاً للمستضعفين وإغاثةً للمظلومين.
– ودعاية للإسلام أن يمنع؛ درأ للفتنة في الدين ومنعاً للمتربصين.
بل إن بعض الأحكام تلزم الأفراد في أنفسهم دفاعاً عن أعراضهم وأموالهم وأنفسهم؛ وأنه يشرع دفع الصائل والهاتك ولو بقتله؛ ومن قتل دون ذلك فهو شهيد؛ ومن تعدى فقد أهدر دمه وهو لا يشعر -والحمد لله على دولة الحق والقانون ثبتها الله- وأصلح أحوال المتطاولين والمتشرملين بالأقلام وبالسكاكين.
فما بالكم حينما تتعرض الأمة جمعاء لما ينتهك منها كل ذلك وأزيد؟؟
فـ”عقيدة حكمة السلم” جُنة ووِجاء يحمي من التهور والطيش؛ ولذا تجد نصوصه كمقابله “عقيدة عزة الإباء” صريحة في هذه الدلالات كقوله تعالى:
{فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:91].
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:61].
{ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
“بعثت بالسيف بين يدي الساعة“
“بعثت بالذبح“
“جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري“.
وهذه حقيقة الوسطية في شريعة الجهاد؛ فلا يجوز للعلماء وقد أناط الله بهم فريضة البيان وبالأخص وقت الحاجة والاضطرار وخشية تحريف المفاهيم وتنكيس المناهج؛ أن يتأخروا في البيان الفصل للحق والعدل ثم ليفعل الله في ملكه ما يشاء.
ولله در شيخي العلامة ابن عدود رحمه الله إذ قال في نظم المختصر:
ولم أُرِدْ إخلاءَهُ مما لَمِ***يَعُدْ مُطَبَّقاً بهذا العالَمِ
فخلو الزمن من أسباب بعض الأحكام لا يعني ترك العلماء تفصيل الكلام فيها وتبيينها حتى لا تنطمس معالم الدين.
وقد أحسن علماء الأمة إذ تولوا التعاون على بيان الشريعة من مجموعهم؛ فتجد العلامة المحدث المجدد الألباني -قدس الله روحه- قد استوعب من بحوث الحديث في السلسلتين ما يعتبر تشريحاً لكثيرٍ من أبواب المعرفة ثم خص أبوابا بالتأليف كصفة الصلاة والحج والجنائز والزفاف..
ثم تجد الفقيه المجتهد السلفي -وهل السلفية إلا العلم الرصين على منهج الأولين- العلامة القرضاوي -ثبت الله جنانه- قد أبدع في أبواب أخرى كفقه الزكاة وفقه الجهاد وتاريخنا المفترى عليه؛ في تآليف أخرى تسر الناظرين -ولا يخلو عالم من تعقب وهو رغم ذلك من السابقين-.
فلئن تُعُقّب القرضاوي في “فقه الحلال”، فقد تعقب الألباني في “فتوى الهجرة”، وتعقب ابن باز في “مسألة الاستعانة”؛ رحم الله الجميع ونفعنا الله بعلومهم وألحقنا بهم صالحين.
وعوداً على دوافع الجهاد في الشريعة وأنواعه:
فإذا قلنا بأن “جهاد الطلب” على الأصح ليس مقصداً عند الشارع أن تغزو العدو في عقر داره؛ ما دام ليس محارباً ولا متربصاً ولا مانعاً؛ لأنَّ الأصل في جهاد الطلب هو هذه الثلاثة كما سبقت الإشارة إليها.
أما وقد انفتحت الأجواء لتبليغ الدعوة بمختلف الوسائل، وابتدع (نوبل) من أسلحة الدمار ما صار الهدم العام به محققا بقنبلة أو جرثومة..
واتفقت الأمم في ظاهرها على مبدإ السلام وحسن المواطنة و الجوار..
(وانظر إلى ما كتبه الغربيون أنفسهم ككتاب “الأخلاقيات والحرب”؛ تحت سؤال: هل تكون الحربُ عادلة في القرن 21 (دكتوراه في التاريخ والفلسفة للبريطاني ديفيد فيشر طبعت يوليو 2014عن عالم المعرفة بترجمة د عماد عواد).
ناهيك عن الوهن والهوان الذي ينخر في المسلمين؛ والذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم منبها الأمة للتسلح بدينها أولا ثم بكافة أسباب القوة والمنعة…
{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:102].
ومن معاني الميل في الآية حديث “تداعي الأمم” علينا كناية عن ثرائنا الذي سنقابله بغثائية من أسوإ صور مهانتها: حب الدنيا وكراهية الموت.
فسلاحنا الأعظم هو ديننا وهو الذي بين رسولنا صلى الله عليه وسلم أصول عزته الأربعة في حديث “سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم“:
فلئن فُسّر الدين في حديث جبريل بمقامات الإسلام والإيمان والإحسان؛ فهذا تفسير آخر يبين أساسيات من الدين بانتهاكها ينتهك الدين وتحل الذلة والمسكنة والهوان؛ ومن أراد انتشال الأمة منها فليعطها الأولوية من عموم قضايا الدين:
1- اتقاء تحليل ما حرم الله وبالخصوص في معايش الناس لأنه مطية الفقر، والفقر مطية الكفر: “إذا تبايعتم بالعينة“؛ فالربا من أظهر صور الظلم الاقتصادي المؤدية لفقر المجتمعات، ولهذا جعله القرآن إعلانا بالحرب من الله ورسوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278،279].
حمايةً للإنسانية جمعاء..
2- عدم الاستكانة للاستبداد ولا اتخاذ الظلم سبيلاً للسلطة لتقمع الشعوب: “وأخذتم أذناب البقر“؛ فلا يلتقي إباء التدين مع قبول جور الظلمة دون إنكارٍ (وقد بينا سبله في مقالات).
3- الركون إلى ملذات الدنيا واستمراء الشهوات و الإصرار على اللذائذ المحرمات والتوسع في المباحات؛ مما يصير معه حب الدنيا جاثما على النفوس محطما لعلو هممها: “ورضيتم بالزرع“؛ متأولا كل تخلف بدعوى “إني مغلوب فانتصر” وكأنه بذل ما بذل أولوا العزم كنوح عليه السلام.
4- ورابع هذه الأصول المكونة للدين الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إليه هو: أن لا يهجر الجهاد وأن لا تمسخ آياته وأن لا يفرط في أي نوعٍ من أنواعه؛ لأنه ذروة سنام هذا الدين التي تبقيه شامخاً لحماية عموده وأركانه: “وتركتم الجهاد“:
فالذل الذي يصيب الأمة حين تفرط في دينها وفي مقدمته هذه الأربع التي نوه بها البيان النبوي حتى تأخذ الأولوية في عملية الرجوع الإصلاحي؛ فهو أحد التفاسير لشمولية الدين في عزته لأربع مجالات؛ تقوم مقام اللب من إسلامه وإيمانه وإحسانه:
– حماية المال العام بالاقتصاد المتوازن.
– السياسة الرشيدة والحكم العادل.
– التكافل الاجتماعي و تقليص الطبقية.
– مدافعة الباطل لحماية الثوابت والمكتسبات.
يتبع بحول الله..