المخاض العسير والاختيار المستنير
د. أحمد الريسوني
هوية بريس – الثلاثاء 12 غشت 2014
منذ بدأ التحضير للجمع العام الخامس لحركة التوحيد والإصلاح وأنا أفكر في كيفية “النجاة من الرئاسة”.
تارة أقول مع نفسي: إن المشكل أصبح ضيئلا، والإخوة قد اقتنعوا بنسبة كبيرة بأن إرجاعي لرئاسة الحركة لم يعد مناسبا، بل ربما لم يعد ممكنا، خاصة بعد الالتزامات والمسارات الجديدة التي مضيتُ…، وهي التزامات ومسارات مقدرة ومقنعة في صفوف الحركة وعند كافة قيادييها.
وتارة كنت أتشكك في هذا التقدير، وأقول: لا بد من الاحتياط والاستعداد لكي لا يقع المحذور ولا نقترب منه…
في آخر اجتماع للمكتب التنفيذي للحركة، وكان قد خصص بالكامل للتحضيرات المتعلقة بالجمع العام، استجمعت شجاعتي وقطعت ترددي، وطلبت من المكتب إصدار توصية بعدم ترشيحي لرئاسة الحركة، تعويلا على أن أعضاء المكتب متفهمون لهذا الأمر ومتفقون معي. وأكدت لهم أنني في جميع الأحوال لن أكون في رئاسة الحركة، ولذلك أرجو أن نوفر على الجمع العام نقاشا قد يأخذ وقتا طويلا دون جدوى… رُفض الطلب على الفور بحجة أنه غير قانوني، وأنه سيفتح علينا سابقة غير مأمونة العواقب. ولكني مع ذلك ظفرت بإشارات مطمئنة من بعض الأعضاء مفادها أن طلبي واعتذاري سيلقى دعمهم في الجمع العام.
وجاء اليوم الموعود والليلة المشهودة.
تم التصويت الأولي للترشيح، فكانت الأصوات تتقارب طيلة فترة الفرز بين الريسوني ومولاي عمر بن حماد، ثم استقرت في الأخير على الريسوني، يليه ابن حماد، ثم الباقون. كنت منزعجا من هذا المؤشر، لكنه كان انزعاجا ضعيفا وليس مخيفا. فقد كنت أعتقد أن تدخلي سيقدم للإخوة والأخوات حيثيات مقنعة وحاسمة لتجاوز الاسم الأول، والانصراف إلى النظر في بقية المرشحين، وفي مقدمتهم المرشح الثاني مولاي عمر بن حماد، الذي كنت أراه – وما زلت – مرشح الرئاسة الأنسب والأكثر أهلية.
فُتح باب التداول، فسجلتُ اسمي ضمن الأوائل، في محاولة للحسم المبكر وصرف النظر عني. ثم طلبت من أحد الإخوة – من المكتب التنفيذي – أن يعجل بتسجيل اسمه، لما أعرفه من موقفه المتفهم والمساند لاستبعادي من الرئاسة، فقال لي: أنت الآن ستتكلم في البداية، وكل من سيأتي بعدك يمكن أن يرد عليك وينقض حججك، ولذلك فأنا أفضل أن أتأخر، لكي أرد عليهم بدل أن يردوا علي. استحسنت وجهة نظره، وقلت في نفسي: على كل حال ستتوزع مداخلات المعترضين على ترشيح الريسوني ما بين البداية والوسط والنهاية، وستبقى حاضرة في الأذهان إلى حين التصويت.
انطلقتِ المداولات، وتعاقب عليها المتحدثون والمتحدثات. كان المتدخلون في الغالب يقسمون الدقائق الأربع الممنوحة لهم ما بين مقدمات وتقريرات مبدئية، ثم الحديث عن المرشحين الخمسة أو بعضهم، مع بيان المرشح المختار.
اعتذار الدكتور سعد الدين العثماني كان مقنعا ولقي تفهما ميسورا، لوضوح أمره وعذره، وكذلك الشأن بالنسبة للدكتور أوس الرمال، صاحب الاعتذار العاطفي المؤثر.
ثم احتدم النقاش وحَمِيَ وطيسه خاصة حول مسألة “عودة الريسوني أو عدمها”. فوجئت بعدد من الإخوة والأخوات الذين كنت أظنهم متفهمين لموقفي وأعذاري يتكلمون بضد ما رجوت وتوقعت. وصدمت خاصة بعدد من أعضاء المكتب التنفيذي الذي كنت أظنهم مجمعين على مساندتي في “حق عدم العودة”، فإذا بهم يدافعون عن “ضرورة العودة”.
لفترة طويلة من النقاش، كان كثير من القائلين بصرف النظر عن الريسوني، يتجهون إلى الدكتور مولاي عمر، حتى ظهر أن القضية قد حصرت بين الريسوني وابن حماد. ثم فجأة جاءت بعض المداخلات القوية المتماسكة تلفت الأنظار إلى المرشح الخامس، أو المرشح المستبعد، الأستاذ عبد الرحيم الشيخي، وتسلط الأضواء على ومؤهلاته الكثيرة، وتلح على أنه قد جاء وقته، وأنه هو الشخص الأنسب لرئاسة الحركة، وأن أعذاره كلها ميسورة الحل والتجاوز…، فسطع نجمه ودخل في دائرة الانتباه…
لحظات الخوف والرجاء
في غضون الساعة الأخيرة من التداول اشتدت علي وطأة التعب والإنهاك، وكذلك وطأة الوتيرة المتزايدة للمطالبة بعودتي لرئاسة الحركة، وفقدتُ القدرة على الممانعة، وبدأت أفكر:
هل أغادر المكان وأترك الحبل على الغارب؟ لا يمكن.
هل أستسلم، ومدبرها حكيم…؟
لكن الدقائق الأخيرة أتت بمداخلتين كريمتين أعادتا إلي الأمل في الخلاص، والرغبة في معاودة التدخل والاستدراك، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
طلبت التعقيب في نهاية التداول، لكن تم تجاهل طلبي مرارا، بل تم رفضه من رئاسة الجلسة، لكون القانون لا ينص على تدخل ثانٍ، وإذا منحت هذه الفرصة فسيطلب آخرون مثلها. ألححت وطلبت دقيقتين فحسب. وبعد احتجاجات وأخذ ورد وطبخ ونفخ بين القاعة والمنصة، جرى التصويت، ووافق الحاضرون بالأغلبية على منحي دقيقتين…
في غضون السجال والصخب حول “الدقيقتين”، التفت إلي الشيخ عبد الفتاح مورو، الجالس يميني، وقال متبرما ضجرا: هل يريدون التكليف الدكتاتوري؟ فقلت له ضاحكا لأخفف من ضجره: هو ما ترى، ماذا نفعل؟
أثناء الفرز الأخير بين الشيخي والريسوني، ساد الغموض والترقب المتوتر. عاد الشيخ عبد الفتاح مورو يسألني بقلق: ماذا تتوقع؟ قلت: هذان اثنان بجانبي كل منهما يتوقع خلاف ما يتوقعه الآخر، ولذلك لا أدري ولا أستطيع التوقع، غير أني عادة أعول على الصامتين (أعني الذين لم يتكلموا).
الفرج بعد الشدة
مباشرة بعد ظهور النتيجة النهائية وإعلان عبد الرحيم الشيخي رئيسا جديدا لحركة التوحيد، انطلق الحاضرون يهنئون الشيخي والريسوني معا. قال لي عدد من المهنئين: لقد نجوتَ بأعجوبة. وفي هذه الغمرة أقبل علي أخ لا أعرفه، سلم علي وهنأني قائلا: هذا شيء غريب، لأول مرة أرى من يفرح ويحتفل بعدم فوزه بالرئاسة والناس يهنئونه بذلك. ظهر لي من لهجته أنه ليس مغربيا، فسألته: من أين الأخُ الكريم؟ فقال من السعودية…
لقد انتصر الصبر والأناة، ونجحت بركة الشورى المخلصة.
حين كنت أفكر في الرئيس الممكن لحركة التوحيد، كنت أستعرض ممن أستعرضهم عبد الرحيم الشيخي، وكنت أراه مؤهلا، بل عاليَ المؤهلات، ولكني كنت أتجاوزه بسرعة، لاعتقادي أن ترشيحه سيكون بدون جدوى، وأن التصويت له لن يكون إلا ضعيفا وفاشلا، لعدم شهرته وقلة وجاهته القيادية، وهما من العناصر البالغة التأثير في الاختيار والتصويت لمنصب الرئيس.
لكن هذه المرة تم خرق هذا الجدار، وتم كسر هذه القاعدة غير السليمة.
ربحنا رئيسا جديدا، بحنكته وحكمته، بلياقته ولباقته، بفاعليته وتضحياته. وفي الوقت نفسه لم نخسر أحدا من المرشحين الآخرين ولا فاتنا شيء من مؤهلاتهم وما عندهم.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
13 شوال 1435 – 10غشت 2014.