جهاد غزة.. «مسطورٌ في الكتاب» (ح3)
د. عادل رفوش
هوية بريس – الأربعاء 13 غشت 2014
إن أهل فلسطين في جهاد دفاع عن النفس وعن الأرض وعن العرض وعن الدين وعن الكرامة؛ والأول فقط واجب بإجماع العلماء ولا يشترط فيه التكافؤ؛ فما بالك إذا انضافت الدوافع الأخرى وغيرها..
فكل الغزاة الصهاينة أهداف مشروعة؛ لأنهم انتهكوا كل الحرم ودنسوا أعز المقدسات؛ فيجب على جميع الدول السعي لتحريرها؛ ودولة الصهاينة دولة محاربة ويجب جهادها بكل الوسائل؛ فالله قد فرض رد العدوان وعرف الاعتداء بتدنيس المقدس وخفر الذمم: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10].
فلا يجوز التفريط في القضية؛ أو التنازل عن شبر منها لليهود والجهاد ماض حتى التحرير.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52].
إن غزة اليوم تربتها أعز أجراً من البيت الحرام، وقد كانت كذلك منذ أمد؛ وكثيراً ما نوه بها الربانيون كشيخ الإسلام ابن تيمية وبالأخص في مسألة المرابطة بالثغور كثغر الإسكندرية وغزة وعسقلان وجبل لبنان ونحوها من مآتي المسلمين؛ وأنها أفضل وأعظم من العبادة والعلم بالحرمين الشريفين؛ بإجماع السلف والخلف؛ لا خلاف بينهم في ذلك.
وما زال العلماء يعظمون هذه الأماكن حتى اتخذها العوام مقاماتٍ للدعوات والقربات جهلا منهم بأصل التعظيم عند العلماء وأنه لدوام الرباط في سبيل الله حماية للدين والمقدسات..
بل إنه شاع عند العلماء استحباب “طلب العلم” عند العالم القَوَّال بالحق المرابط في الثغر؛ كما ذكروا في أخذ الأزرق القراءةَ عن ورشٍ، و أخذ ابن مخلد الحديثَ عن ابن حنبل، وأخذ الباجي الفقهَ عن العز ابن عبد السلام سلطان العلماء..
ومن لطائف اعتناء المغاربة بمختصر الشيخ خليل كونه كان من الجند؛ وألّفه وهو مرابط بالثغر؛ وكذلك عبد الله بن شاكر عندنا في نواحي مراكش (سيدي شيكر)؛ فقد كان من مجاهدي التابعين علما وعملا، وحاشاه من بدع القبوريين ومحدثات المشعوذين.
وما زال العلماء يعتقدون في مجاهديهم مزية على غيرهم حتى في سديد الفهم وراجح القول لظاهر قول الحق: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وقد كان الأئمة الأربعة وخيار السلف من أقطاب العلم والجهاد معاً؛ ولذا أجمعت الأمة على ترسيخ اتباعهم وتقديم اختيارهم، وقبلهم الخلفاء الأربعة ومثلهم الأئمة الستة والقراء العشرة، ونحو ذلك.
فغالبا ما تجد لأهل الثغور منهم مزية على غيرهم، و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وهذا هو القول في أهل غزة علمائها وعوامها ورجالها ونسائها..؛ فإنهم مقدمو الأمة وخيارها.
وإذا كان النصر بل والرزق يتحقق بضعفائنا كما صح عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لا يتحقق بمن جمعوا مع الضعف الثبات والإباء والعلم والدعوة وتحمل الخذلان، وتعدد الجبهات وقلة الناصرين..
وإنني أجد ملحمتهم الكبرى مجسدة في قصة مصغرة لأحد أئمة المسلمين الأعزة الأخيار:
وهو الحافظ محمد بن أحمد بن سهل بن نصر أبو بكر الرملي الشهيد المعروف بابن النابلسي؛ كان عابدا صالحا زاهدا، قوالا بالحق، وكان إماماً في الحديث والفقه، صائم الدهر، كبير الصولة عند الخاصة والعامة..
وكانت محنة الفاطميين عظيمة على المسلمين، كما يقول الإمام الذهبي.
ولما استولوا على الشام (فلسطين حاليا) هرب الصلحاء والفقراء من بيت المقدس.
وكان الفاطميون يجبرون علماء المسلمين على لعن أعيان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنابر.
وكان ممن هرب من العلماء من وجه الفاطميين الإمام النابلسي، الذي هرب من الرملة إلى دمشق.
ولما ظهر المعز لدين الله الفاطمي بالشام واستولى عليها؛ أظهر الدعوة إلى نفسه، وأظهر المذهب الرديء، ودعا إليه، وأبطل التراويح وصلاة الضحى، وأمر بالقنوت في الظهر بالمساجد.
أما الإمام النابلسي فكان من أهل السنة والجماعة، وكان يرى قتال الفاطميين؛ وقال: “لو كان في يدي عشرة أسهم كنت أرمي واحداً إلى الروم وإلى هذا الطاغية تسعة”.
وبعد أن استطاع حاكم دمشق أبو محمود الكتامي أن يتغلب على القرامطة أعداء الفاطميين، قام بالقبض على الإمام النابلسي وأسره، وحبسه في رمضان، وجعله في قفص خشب.
ولما وصل قائد جيوش المعز إلى دمشق، سلّمه إليه حاكمها، فحمله إلى مصر، ثم جيء به للمعز لدين الله فمثل بين يديه؛ فسأله: “بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب أن يرمي في الروم سهماً وفيناً تسعة”؟!
فقال الإمام النابلسي: “ما قلت هكذا”!!
ففرح القائد الفاطمي، وظن أن الإمام سيرجع عن قوله؛ ثم سأله بعد برهة: “فكيف قلت”؟
قال الإمام النابلسي بقوة وحزم: “قلت: إذا كان معه عشرة وجب أن يرميكم بتسعة، ويرمي العاشر فيكم أيضاً!!!
فسأله المعز بدهشة: “ولم ذلك”؟!!
فرد الإمام النابلسي بنفس القوة:
“لأنكم غيرتم دين الأمة، وقتلتم الصالحين، وأطفأتم نور الإلهية، وادعيتم ما ليس لكم”.
فأمر العُبيديُّ بإشهاره في أول يوم، ثم ضُرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا. وفي اليوم الثالث؛ أمر جزارا يهودياً -بعد رفض الجزارين المسلمين- بسلخه، فسُلخ من مفرق رأسه حتى بلغ الوجه، فكان يذكر الله ويصبر، فلم يكن يردد وهو يُسلخ إلا قول الحق سبحانه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6].
حتى بلغ العضد، فرحمه السلاخ وأخذته رقة عليه، فوكز السكين في موضع القلب، فقضى عليه، وحشي جلده تبناً، وصُلب سنة ثلاث وستين وثلاثمائة من الهجرة.
لقد سجنه الفاطميون وصلبوه على السنة.
ومن مظاهر ثباته: أَنه لما أُدخل مصر، قال له بعض الأشراف ممن يعانده: “الحمد لله على سلامتك”!
فقال: “الحمد لله على سلامة ديني وسلامة دنياك”!!!
لما سُلخ كان يُسمع من جسده قراءة القرآن.
وذكر ابن الشعشاع المصري أنه رآه في النوم بعدما قُتل، وهو في أحسن هيئة.
قال: فقلت: ما فعل الله بك؟ قال:
حباني مالكي بدوام عزٍ***وواعـدني بـقـرب الانـتـصـارِ
وقربنـي وأدنـاني إلـيـه***وقال أنعم بعيشٍ في جواري
والله المستعان.