تحرير اللسان.. مقاربة في محنة اللغة
عبد الحفيظ الحلو
هوية بريس – الجمعة 15 غشت 2014
ما اللغة؟ ما الذي يتحقق للذات باللغة ومن خلالها؟ ما اللواحق السلبية المترتبة على هجران الأمة للسانها الأصل؟ هل يمكن للغة أن تكون المنبع الذي تشكل الأمة من خلاله ذاتيتها المستقلة والمتفردة؟ كيف وأين تحيا اللغة وكيف وأين تموت؟ هل يعجز اللسان أم يعجز الإنسان؟
إن اللغة قبل أن تكون منطوقا ومكتوبا هي مفكر فيه ومفكر به، إذ بها ومن خلالها تنبجس الرؤية وبها ومن خلالها يتم تشكيل العوالم المتحققة والمرغوبة. هي التشكل الأسمى للخبايا والصوغ الأليق للأمنيات، هي الموسعة لرحاب الفكر في فضاءات الحرية، هي الحياة للذوات.
فاللغة هي الإنارة الداخلية لعتمات الفكر، هي التصريف الملهم لشواغل العقل والذات بما هي فكر وثقافة، وهي فوق هذا وذاك تشكل نظاما إشاريا يرمز العالم والوجود والموجودات لتقرب إلى الفهم وتستقر في الأذهان مفاهيم ومصطلحات. وكل لغة تعجز عن صياغة نظامها الإشاري يفقد حاملوها القدرة على ربط علاقة مع الواقع وأشيائه، فالأشياء تملك صك الإنوجاد إن نحن نحتنا لها من المسميات ما يخرجها من العدم إلى حيز الوجود، وكأننا أحييناها من الموات باللغة ومن خلالها. فاللغة بالفكر تسمو وتبدع، والفكر باللغة ينداح منسابا معلنا ولادة الخصب.
لا تخلو لغة من قدرة وجمالية مخصوصة إن تكن معطلة أو مفعلة، فهي تحيى في الخطاب وتتبرعم في التداول، وتنتعش في الحكي. تكشف عن أسرارها ومفاتنها إن كانت الرغبة فيها تلهم الذوات، وإلا تضمُر وتُحجم عن وهبها للعطايا فتغدو معطلة. لذا فإن السعي نحو استقلال لغوي مكين يبدو متوجبا في حق هذه الأمة كطريق مؤدي إلى استقلالها الفكري ومن ثم إلى استقلالها الحضاري من أجل إدراك راشد تستعيد الأمة فيه شهودها الحضاري. فسطوة الأشياء علينا أقل وأخف ضررا من سطوة اللغة، فالتحرر من الارتهان إلى الأولى يكون في القدرة والإمكان، فهو تعلق صبياني كحاجة نفسية إلى التملك والحيازة ليس إلا. فالأشياء تغري العيون إذ تمارس سحرها دونما تملك للروح والقلب والضمير. أما سطوة اللغة فهي تخلق في الذات توهمات بتصويرات ماكرة تدعي حمل لغة الآخر لكل قيم التحرر والتنوير والجمال. لكل ذلك لم يكن الجنوح نحو استعارة لسان الآخر منفصلا وبمعزل عن نكوص جماعي للأمة حصر تفكيرها ضمن منطق أداتي كسبيل للتحرر من ثقل راهنها المأزوم على شتى الصعد، إذ إن التوسل باللغة لا يتعدى مسلك الإبدال والإحلال حتى يتحقق منجز التحديث. هذا السعي الحثيث نحو وهم الإحياء من خارج مدارات الأنا الجماعية المكتوبة مصائرها بلغة صنعت للأمة كيانيتها المتمايزة والمفردة كان مصحوبا بتنكر مفجع وهجران تحجرت معه قدرة العقول على تفجير ممكنات اللغة في تسمية العوالم والأشياء ما أدى إلى قطع الوشائج التي تربط إنساننا بالحضارة وبمنتجاتها، فكانت الغربة والاغتراب نتيجة مستحقة أسقطت كياننا من أن يكون المصطلح والمفردة صنيعة لسانه. فالقدرة على التسمية ونحت وسك مصطلحاتنا يعكس قدرتنا على صنع عوالمنا وحسن القيام على إدارتها وتدبيرها. هذه القدرة في حقيقتها إن هي إلا الرؤية الوجودية لإنسان هذه الأمة لمصيره ولوجوده ولارتباطاته بأشياء هذا الكون وبموجوداته التي تنبني عليها رسالته في الحياة. فكل التسميات من خارج دائرة اللسان المخصوص هي تعطيل لهذه الملكة الربانية.
فاللغة لا تعرف الموات إلا من خلال عجز حامليها عن قدرة التوليد المفجر لكوامنها الزاخرة، فنحن المالكون لقدرة خلق المعنى أو خنقه، فإن نحن عزفنا على أوتارها كما تحب أخرجت لنا من الأنغام ما يطرب الروح والوجدان، بها ننتج عوالم لم تكن في الحسب والإمكان، في عدم تملك ناصيتها يبدو فشلنا مجلجلا، في تعبيراتنا بلسان الآخر يتبدى عجزنا فاضحا كحقيقة ذوات يقهرها استلاب لغوي مقيت. في تعبيراتنا بلغة الآخر تبدو ذواتنا مشوهة غير متسقة مع كيانتنا الحقة فهي إذ تطرح توصيفاتها لرؤانا وأمانينا لا تملك أدوات قادرة على استلهام ما يكتنه دواخلنا وشواغلنا. وكل من لا يعبُر بلسان قومه لا يعبُر متاهة المجهول والمعمى، في عب اللسان من غير مورده نفقد القدرة على الكشف والإبانة. في قدرتنا على تسمية الأشياء وفق قواعد لساننا الأصيل نكون عاملين على افتكاك إراداتنا من شراك حلولية مسخت الكيان وعطلت اللسان. وعليه فإن أي تقصير في حقها أو هجران لها هو في الأول والأخير إهانة لذواتنا وتمكين للغة الآخر وتجذير لثقافته.
هي محنة أمة أكثر منها محنة لغة، فاللسان العربي لا يموت حين نكوص الأمة التاريخي فهو في جوهره يطرد مفاعيل العجز إن رامت مساكنة روحه، فمن غابت عن ذهنه الحقيقة فلينظر إلى هوان الأمة ومفارقة اللغة لهذا الهوان واقتدارها المكين في أن تختط لنفسها مسالك تحقق لنفسها من خلالها التميز والفرادة، فهي إذ تصمد تكون متمترسة بقوة منطقها متخلية عن وهن حامليها تجليا ورؤية وخطابا. لذا فإن محنة القوم أجلى ما تتبدى إذ هي تستعير لسان غيرها لتنتج خطابها. فالخطاب إذا لم يكن نتاج لساننا فهو خطاب مكذوب. فبئست الاستعارة استعارة اللسان، وساءت الإجارة إجارة الفكر.