ما أكثر النعم وما أقل الشكر
ذ. أحمد اللويزة
هوية بريس – الإثنين 18 غشت 2014
وأنت تتجول في الأسواق؛ شعبية وممتازة، في المحلات والشوارع… ترى من النعم ما لا تقدر على عده ولا حصره، هذا مما ترى أما ما لم تر فالله به عليم، نعم ربانية في الملبس والمأكل والمشرب والأمن… والناس منغمسون في التمتع بلذاتها، أينما تحط رحلك إلا والزحام الشديد إقبالا على ما جاد به الله وأنعم، الناس يأكلون ويتمتعون، وقل منهم من يأخذ لحظة للتفكر في النعم والآلاء الإلهية ليرى فيها عظيم تفضل الله وجزيل عطائه وواسع إكرامه، وأهم ما في الأمر ما يراه المتأمل في تفضل الله هذا الدال على واسع حلمه ولطفه.
وذلك أن ربنا جل في علاه قد أمر بالشكر على نعمه، والثناء على مننه، ولا يحصل ذلك إلا باللهج بذكره، والاجتهاد في عبادته، والإكثار من أنواع القربات والطاعات اعترافا وشهودا لنعم الله على المرء.
لكن كل ذلك يبقى قاصرا عن بلوغ درجة الشكر، على قلة الشاكرين. وذلك أن شكر الله سبحانه لا يقتصر على مجرد النطق باللسان، والتلفظ بعبارات الشكر والامتنان، إذا لم يصاحب ذلك عملا صالحا خالصا يفني فيه العبد عمره في الخضوع لأمر الله المنعم، فالله لما ذكر نعمه على آل داود قال معقبا ومنبها على حقيقة الشكر {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
والشكر لا يتأتى إلا بعد شهود قلب العبد نعم الله عليه فيثني بلسانه ويعمل بجوارحه، فالشعور القلبي هو المنطلق والعمل هو المنتهى، فعندما يبلغ العبد منزلة الشكر يكون قد ملك الدافع الأساس والمحرك الرئيس لكل تعبد وتقرب لله سبحانه، ومن لم يتحقق بتمام العبودية والاستسلام لرب العالمين فهو مقصر في شكره لله ولم يدرك سر العبودية بعد.
ولنا أن نتأمل في حال خير من شكر الله وعبده؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي حمله شكر الله على التفاني في عبادته فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يعلل عمله هذا بقوله «أفلا أكون عبدا شكورا»، فبقدر شكرك لله بقدر تفانيك في عبادته.
هذا أثر الشكر على مقصود العبد الأخروي، أما أثر الشكر على مرغوبه الدنيوي؛ فإن الشكر سبب لتثبيت النعم وحفظها من الزوال، وسبب مباركتها والزيادة فيها مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.
إذن فكفر النعم سبب لزوالها ومحق البركة فيها ويكون ذلك بمبارزة الله بالمعاصي والآثام، فلا يمكن للنعم أن تدوم إذا كانت من الله نازلة تترى ومعاصي العباد صاعدة إليه تترى، فإن المعاصي تزيل النعم وتحل النقم، وما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة.
فإذا كانت كثرة النعم تدل على كثرة الشكر، فإنها لا تكون كذلك دائما بل هي إذن بخراب ودمار، واستدراج من العزيز الجبار، ولا ينبغي أن نفرح بكثرتها إلا إذا رأينا العباد يتسابقون في شكرها أشد من تنافسهم في جمعها وتحصيلها.
ولكن الواقع يشهد خلاف ذلك لاسيما إذا علمنا أن الأصل في الخلق قلة الشاكرين، كما قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} بمعنى الشكر حقيقة، سيما وإذا علمنا أن من تحد الشيطان وعهده الذي أخذه على نفسه أن يحول بين العباد وبين شكر الله، فقد أقسم على ذلك أمام رب العزة والجلال {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.
فما أكثر ما أنعم الله به علينا وما أجله، لكن نظرة أخرى على الواقع تنبيك عن واقع لا تسلم عاقبته، فالمعاصي من كل نوع، والموبقات من كل جنس، في السر والجهر، هناك من يعلن المعصية، وهناك من يعلن النفاق، وهناك من يعلن الكفر، وهناك من يعلن العداء لدين الله، بل لله عزل وجل المنعم المتفضل عليه وعلى غيره، والكل يتمتع بنعم الله دون أن يقابلها بالشكر بله الشكر المطلوب.
فلابد من الحذر كل الحذر ولنتأمل قوله عز وجل ولا أراه إلا ينطبق على هذا الواقع بالتمام {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ}، واقرأوا إن شئتم قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
فاللهم سلم سلم، واللهم وفقنا لشكرك وحسن عبادتك، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا.