حروب فكرية وفراغات عقدية
ذ. نبيل غزال
هوية بريس – الأحد 31 غشت 2014
كثيرة هي الحروب الفكرية والمعارك الأيديولوجية التي تثار حول الإسلام وعقائده وأحكامه ومفاهيمه؛ ومعظم مسعري هاته الحروب وحاملي ألويتها هم من أبناء المسلمين؛ ويتسمون بأسمائهم؛ ويعيشون بين ظهرانيهم، ولا أحد طبعا يزايد على إسلامهم، لكن دعونا نتحدث بكل صدق وإخلاص ونصيحة، لو سألنا طفلا في الكتاب أو في الابتدائي عن أركان الإسلام والإيمان؛ لأجابنا بكل براءة وعفوية أن الإسلام هو: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، وأن الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.
وفي هذا العمود أود أن أتساءل فقط عن ركن من أركان الإيمان العظيمة؛ ألا وهو الإيمان باليوم الآخر.
فهل يحقق الإيمان باليوم الآخر من يطعن صباح مساء في أحكام الإسلام ويقترف هذا الجرم العظيم؟
وهل يستحضر من يطعن في نصوص الكتاب والسنة ويوثر عليهما فلسفات وأطروحات ونظريات بشرية؛ أنه موقوف يوما بين يدي مالك يوم الدين؟
وهل من يتنكر للعبودية ويسِمُها بالتخلف والرجعية؛ ويقدم عليها الحرية الفردية واع تماما أنه سيمثل بين الله فيكلمه ويسأله عما قدم وأخر؟
جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبين الله ترجمان، ثم ينظر فلا يرى شيئاً قدّامه، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة.
وفي رواية للبخاري: وليلقينّ الله أحدُكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
فالناس في دار الابتلاء يعملون ويجتهدون ويتنافسون استعدادا ليوم الحساب: يوم الدين، وهو من أصول الإيمان الكبرى وأركانه العظمى.
فقد ورد لهذا اليوم العظيم أكثر من ثمانين اسما؛ كما حكى ذلك العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية؛ وكثرة أسماء الشيء -كما هو معلوم في لغة العرب- دليل على عظمته؛ ولا تكاد عين التالي لكتاب الله تعالى تخطئ أن تقع على ذكر هذا اليوم في صفحة من صفحات المصحف..
حتى أن الله تعالى قد ذكر غير مرة هذا اليوم المجموع له الناس مقرونا باسمه الكريم فقال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}..
وكم ربطت نصوص الوحيين بين هذه العقيدة وسلوك المكلف اتجاه نفسه وإخوانه ومجتمعه، فقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وقال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وقال صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه” رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم:“من كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر” رواه أحمد في المسند وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل (7/6).
ولا شك أن الإيمان بهذا الركن؛ واستحضار الإنسان أنه سيقف يوما ما بين يدي الله تعالى؛ فيسأله عما قدم وأخر؛ تغير عقيدته وفكره وسلوكه، وهذا هو الفيصل بين المؤمن وغير المؤمن.
فالمؤمن -فعلا- يمنعه إيمانه بالمعاد؛ واستحضاره لأهوال يوم القيامة ومشاهدها من التجرؤ على محارم الله وتعدي حدوده؛ والخروج عن الأمر والنهي؛ وغير المؤمن يعيش حياته -للأسف الشديد- هملا؛ في غفلة عن هذه الحقائق كلها أو بعضها؛ لا يتوخى فيما يصنع خشية العاقبة وطلب الخير، غايته في الحياة الدنيا إشباع شهواته وملذاته؛ لا يعبأ بأمر ولا نهي؛ ولا حلال ولا حرام، ولا سنة ولا بدعة.. كل ما يهمه هو إشباع شهواته؛ وامتثال ما تمليه عليه أهواؤه أو ما استقر في قلبه من نظريات وفلسفات مادية؛ مخرجها عقول بشر مثله تحكمهم مرجعيات فلسفية معينة ونظرة مغايرة تماما لنظرة المسلمين للكون والحياة والإنسان.
فكم ذكّرنا الله تعالى وقوفنا بين يديه؛ ونهانا عن اتباع سبل الشيطان وغوايته؛ وحذرنا من أعداء النبيئين والوحي؛ الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يعملون لها ويكذبون بوجودها ويحاربون المصدقين بها؛ فقال تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} الأنعام.
قال العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: (والذين لا يؤمنون بالآخرة.. لا يتوخون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلب الخير، بل يتبعون أهواءهم وما يزين لهم من شهواتهم، معرضين عما في خلال ذلك من المفاسد والكفر؛ إذ لا يترقبون جزاء عن الخير والشر، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشياطين، ولا تصغى إلى دعوة النبيء صلى الله عليه وسلم والصالحين) اهـ.
وقال السعدي رحمه الله: قال تعالى: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي: ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة يحملهم على ذلك.اهـ.
إن يوم القيامة يوم عظيم؛ يحشر فيه الناس لرب العالمين؛ ويفصل فيه بين الخلائق، فيجزى المحسنون إحسانا، والمسيؤون بما عملوا، وهذه عقيدة راسخة لدى كل فرد مسلم لا تتزحزح ولا تتغير ولا تتبدل، ومن خلالها وبقدر استحضارها يقبل العبد على ربه؛ فيمتثل أمره ويجتنب نهيه؛ ويعرض عمن تنكب طريق دعوة الحق وحاربها، ولو آمن أعداء الوحي والرافضون للشريعة باليوم الآخر لرجعوا عن غيهم وتخلوا عن كثير من قناعاتهم وأطروحاتهم؛ وغيروا سلوكهم ومنهجهم، وإن لم تسعفهم عقولهم على إدراك هاته الحقائق البينات فمتى تسعفهم؟
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.