تعدد الزوجات وهرطقة الهيرمينوطيقا
ذ. يونس الناصري
هوية بريس – السبت 06 شتنبر 2014
بينما أقلب مقالات موقع إكسير بحثا عن فوائد تروي غليلي، وآراء سديدة تشفي سقمي، ومواقف نيرة تلم شعث جهلي، كما اعتدت في غالب المقالات هنالك، إذ سقطت عيني على مقال يتحدث عن “تعدد الزوجات”، فغلبني فضول المطالعة لنبش مضامينه، وتفحص محتواه، علَّ عيني تقر، ونفسي تهش بما تسطره أنامل شبابنا المثقف.
بيد أن المبتغى تبخر بين طيات ظلمات المقال المتراكم بعضها على بعض، واستوقفني هولُ سحر الهيرمينوطيقا، وطلسمات جاك ديريدا في مراوغة الدال للمدلول في النص، ولا نهائية المعنى في ذهن القارئ، وفظاعة تحكم ذلك في بواطن صاحب المقال.
ولقد تبجح صاحب المقال -من غير تشهير به؛ لأن الغاية مناقشة الفكر لا الأشخاص- بأنه تخلص من تبيعة الفكر التقليدي، الذي يسلم -حسب زعمه- بمنجزات العقل الإسلامي العربي من غير مناقشة ولا تمحيص، وما هو هنا إلا كببغاء تكرر نغمات سنفونية أرباب الاستشراق الغربي والعربي البائد؛ إذ هم من رسخ نظرة التشكيك في قيمة تراثنا الإسلامي العظيم الشامخ، باعتماد المنهج الديكارتي في تلقي سائر العلوم الإسلامية العربية.
ولست الآن بصدد المناقشة التفصيلية لمحتوى المقال الضعيف من حيث الشكلُ والمضمون، فإن ذلك يطول؛ وإنما الغاية هي تذكير كاتبه بأن عاقبة ما هو مقدم عليه من استهتار بالفكر التفسيري للأسلاف، ظنا أن تلك هي الموضوعية العلمية، ومنهجية البحث الحقة الواجب سلكها في تلقي التراث العلمي الإسلامي، عاقبة ذلك إلى خسار وبوار.
وقد يظهر له ذلك ولأمثاله إذا قرأ آخر ما اعترف به عميد الأدب العربي في نظر أتباع المستشرقين، طه حسين رحمه الله؛ فقد أراد في أخريات حياته تدارك خطر منهجه التشكيكي في المسلمات المجمع عليها بين الأمة، لما تجرأ الأقزام المعجبون بجسارته على المنتوج الفكري الإسلامي العربي في طريقة بحوثه المثبتة أركانُها في جامعات فرنسا، فلم يستطع ذلك بعد انتشار كتبه في العالَمين، وتأسف على فعلته ثم صرح لأصدقائه المقربين بشناعة ما جنت يداه.
وهو المفكر الحافظ لكتاب الله، وخريج الأزهر الذكي الألمعي، الذي إن اجتهد صلَفاً بعقله، وإعجابا بنفسه، فقد ناسبه ذلك، وحسابه على الله، فما بالُ من لا يحفظ فاتحة الكتاب معطيا الحروف حقها، من صفة لها ومستحقها، يلقي بنفسه المبتدئة في بحار أنوار العقل الإسلامي البعيدة الغور؟؟؟
يظن صاحب المقال المسكين مكذوبا عليه وملبسا على عقله “أن إنصاته لدبيب المعنى في النص الديني جعله عقله يحلق فوق حدود المعتاد التفسيري، ويثير الشكوك حول ما كان اعتقده حقيقة جازمة مفارقة للبشري ومحايثة لسرمدية المعنى الإلهي والحقيقة الدلالية الأولى” بتصرف يسير.
فيلاحظ أن زابر هذه الكلمات يعتصر دماغه وأعصابه لينتقي كلمات راقية من قبيل: (دبيب، يحلق فوق حدود المعتاد التفسيري، مفارقة، محايثة) ليسبغ بها جمالا أدبيا فنيا على سخف فكره، وضآلة زاده العلمي.
وحسبه أن كتب من غير شعور منه أنه يحلق فوق حدود المعتاد التفسيري، لم يجاوز الحدود إلى سماء التراث الغني السامق الذي لم تستطع قرون من الحروب الثقافية الصليبية تسلقه أو الاقتراب من علوه القاهر؛ إذ لو حصل ذلك لانكسر جناحاهُ الضعيفان، ولسقط مغشيا عليه من هول صدمة جهله، بعد أن توجه لهرمينوطيقيته سهامُ النقد السديدة.
ولا يخفى على ناظر مثقف أن مستعمل عبارة (النص الديني) هو خريج مدرسة المخدوعين المجندين من قِبَل عساكر المبشرين الدهاة، وتلاميذهم منعدمي الضمير، والنبتة الخارجة من تحت أرجلهم، وفيها اعتبار القرآن الكريم الرباني المصدر نصا كسائر النصوص، قابلا للأخذ والرد، كما هو معلوم لأصحاب تاريخانية النصوص.
ثم إنني -وأنا أستعمل ضمير المتكلم لا غطرسة وتعالما عياذا بالله، بل لأشير إلى تعبيري عن رأيي الذي قد لا يتفق معي فيه كثير من الأساتيذ والعلماء- رجعتُ بدافع الإنصاف إلى بعض مقالات هذا الكاتب، فاطلعتُ على واحدة سماها “تباين العقلي والميتافيزيقي في دعاوى الإعجاز العلمي”، فوجدته يقول: “فالشاطبي نفسه كان يعتبر إقحام العلم في الدين، في ما يسمى بالإعجاز العلمي، ضلالا ما بعده ضلال، وذلك في كتابه (براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه)، ولا نستطيع أن نسرد كل الأمثلة الموجودة، وهي كثيرة جدا، لضيق المساحة والمجال، بل هي فرصة للقارئ الكريم للبحث عنها وتدبرها”.
فعذرته لضيق المساحة والمجال عن أن يستدل لنا على كلامه من كتاب الشاطبي، وعملت بنصيحته للبحث والتدبر، فدهشتُ بعد البحث والتنقيب والتدبر من اطلاعه الواسع على مصنفات علماء الإسلام، ودقة سبره لخباياها، وقوة إدراكه لدلالاتها…
عفوا أيها القارئ: إني عجبتُ من وقاحته وكذبه البين، وتشبعه بما لم يُعطَ، واقتحامه أمورا كبارا لم يبلغ فيها بعدُ مرحلة الطفولة الأولى… حيث نسب للشاطبي رحمه الله كتابا لم يسقط بباله تأليفه، وهو لباحث فيزيائي معاصر مهتم بالتفسير وأصول الدين اسمه عز الدين كزابر، يظهر ذلك من التركيب اللغوي للعنوان، وتلك عملية غش لا تغتفر، يسقط بعدها قناع كل دعي لم يخف خالقه…
وإذا رجعنا إلى موضوع التعدد، فإننا نجد هذا الكاتب يهرف بما لا يعرف، ويكتب ما لا يفهم، ويجمع بين متناقضات لم يتفطن لها؛ فإنه قال -بعد إتيانه بالآية الثالثة من سورة النساء- {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع..}الآية: “لقد كان الخطاب الإسلامي قد تعمد تجاهل الوظيفة النحوية لحرف (الواو) الرابط بين (مثنى وثلاث ورباع) وهي الجمع وليس التخيير، أي أن العدد سيصبح (تسعة) عوضا عن (أربعة) بغض النظر عن (قالت العرب) التي يستشهدون بها كلما أرادوا تكريس معنى معين على حساب المعاني الأخرى..”.
وفي هذا الكلام كذبٌ، وانتصار لمذهب باطل مجمع على نكارته، واحتقار للغة العرب التي هي لغة القرآن الكريم:
أما الكذب، فهو زعمه بهتانا أن الخطاب الإسلامي قد تعمد تجاهل الوظيفة النحوية لحرف (الواو)؛ والحقيقة أن غالب التفاسير المتعرضة للجوانب النحوية اللغوية تنقل جميع أقوال المعتبرين من النحويين، ثم يرجح كل مفسر -وهو نحوي محنك مجرب بالضرورة التي لم يعرفها كاتبنا هذا- ما اطمأن إليه بعد استدلاله القوي له، وقد رجعت إلى عدة تفاسير فوجدتها تشتمل على ذكر من قال بأن الواو تفيد الجمع، وسأذكر من قال به.
وبخصوص انتصاره لمذهب منكَر، سواء علمه أو لم يعلمه، وغالب الظن أنه عرفه واطمأن إليه، ظهر ذلك في تعمده عدم الإفصاح عن مصدر نقله، كأنه هو منشئه من بنات أفكاره، وهو مذهب الشيعة الروافض، فقد أزال اللثام عنه العلامة المالكي أبو عبد الله القرطبي حين قال: “اعلم أن هذا العدد: مثنى وثلاث ورباع، لا يدل على إباحة تسع، كما قاله من بعُدَ فهمُه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة؛ وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة وقال هذه المقالة: الرافضة، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع” الجامع لأحكام القرآن (ج6-ص:33).
ولْنلاحظْ أن مقصده في مقالته هو منع التعدد وإنكاره بلا خجل ولا وجل، وشرحه المذكور للآية -وهو لم يقرأ ربما متن الأجرومية- يخالف مقصوده؛ لأن قائليه الروافض لا يمنعون التعدد، بل يجيزونه، ويحللون حراما آخر اسمه المتعة كما هو معلوم؛ ليتبين أن صاحب المقال حاطب ليل لا يدري ما يقول..
وأُمده برأي آخر أقبح مما ذهب إليه، يقول القرطبي رحمه الله: “وذهب بعض أهل الظاهر إلى أقبح منها -يقصد مقالة الرافضة في جعل الواو جامعة وعدد النساء تسعا- فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين، وكذلك ثلاث ورباع، وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة؛ إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع ” (6/33). ثم احتج القرطبي أيضا بأحاديث في الموطأ والسنن تبين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض من أسلم وفي عصمته أكثر من أربع نسوة بأن يترك ما زاد على الأربع، يطول المقام بسردها بألفاظها.
ومثل هؤلاء الكتاب المغرر بهم، ليس لهم في العير ولا في النفير، ويحسبون أن قراءتهم لبعض كتب نيتشه وديكارت وكانط وشوبنهاور وهابرماس ودوركايم وفرويد وماركس وغيرهم تتيح لهم نقد تراث الأمة العصي، الذي عجزت جحافل كبار المستشرقين الصهيوصليبيين عن النيل منه، إلا ما خلفته لتلاميذها المخلصين ومن تربى على أيديهم من الجيل الثالث والرابع والخامس وبعض مسوخ أيامنا الحالية، من شكوك نفسية ومغالطات سفسطائية، يشغبون بها على الناس بين حين وآخر…
أما احتقاره للغة العرب، فتبدو جلية في قوله: “بغض النظر عن (قالت العرب)..” وإنه ليمَّحي أي أثر للدم من وجوه أمثال هذا الكاتب حين يدعونا إلى أن نغض الطرف عن (قالت العرب)، ونفتح أبصارنا وقلوبنا لكلامه هو… والله إنه السفه بعينه، وهو لم يغض النظر عن قول العرب بأن الواو قد تأتي للجمع، لا في هذه الآية وإنما في مواضع أخرى، وذلك ليخالف إجماع أهل السنة ويوافق شواذ الروافض، ويأمرنا نحن بأن نغض أعيننا عن (قالت العرب)…
ولولا جمعُ ما قالت العرب في مصنفات لم يسمع بها مخربشُ هذا اللغظ ولا حلم بالاطلاع على حبة من رمالها، لما استطاع التطاول على لغة العرب بلغة العرب التي يكتب بها…
ولست أعلم مستواه في علوم العربية لأنقل له كلام أهل العلم -فقد لا يفهم الفرق بين البدل النحوي والبدل الفقهي- غير أني سأثبته اختصارا بيانا للقارئ وتثقيفا له، يقول القرطبي: “وأما قولهم: إن الواو جامعة، فقد قيل ذلك -وصاحب مقال التعدد زعم إفكا وتخرصا أن المفسرين تجاهلوا ذكرها- لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول: تسعة، وتقول: اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعطِ فلانا أربعة ستة ثمانية، ولا يقول: ثمانية عشر. وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي: انكحوا (ثلاثَ) بدلا من (مثنى) و(رباع) بدلا من (ثلاث)؛ ولذلك عطف بـ(الواو) ولم يعطف بـ(أو)، ولو جاء بـ(أو) لجاز ألا يكون لصاحب المثنى (ثلاث)، ولا لصاحب الثلاث (رباعٌ)” ويتلوه مباشرة كلامٌ يبين جهل المتعالمين بلسان العرب يرجع إليه في المصدر المذكور آنفا.
وفي تفسير ابن أبي زمنين أن الجاهلي كان يتزوج بعشر نسوة فما دونها، فأحل الله له أربعا، فقال: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع..} يقول: إن خفت ألا تعدل في أربع فانكح ثلاثا، فإن خفت ألا تعدل في ثلاث فانكح اثنتين، فإن خفت ألا تعدل في اثنتين فانكح واحدة..” (ج1/ص:345-346).
وعند صاحب تفسير “حدائق الروح و الريحان في روابي علوم القرآن” كلام جليل في فوائد التعدد لمن أراد قراءته، في الجزء الخامس، الصفحة 387 فما بعدها.
لقد وجدت للراغب الأصفهاني عبارة سديدة ألزمتني توجيهها لصاحب المقال وأضرابه، وهي قوله: “وذهب بعضهم ممن لا يعرف شرط الكلام إلى أن المباح منهن تسع..” وحقا إن هؤلاء الهرمينوطيقيين الصغار لا يعرفون شرط الكلام جملة وتفصيلا، وإن علموا بعضه، غابت عنهم وجوه كثيرة مبينة له، كما حصل مع المردود عليه؛ ذلك أنه اقتحم بعقله القاصر مجالا تفسيريا فسيحا يرهب ولوجَه أساطينُ العلماء والفقهاء ممن لم يملكوا آلات المفسر، وجلةً قلوبُهم من خوضه بلا علم بشروطه، ومن أهمها -حسب الزمخشري في مقدمة كشافه- علما المعاني والبيان العربيان.
ثم إن منهج المردود عليه ومن يشاطره الرأي من أتباع أركون ونصر أبي زيد وحسن حنفي وغيرهم، هو هدم التراث وتزهيد الناس فيه، وإحياء علوم الغرب الإنسانية الفكرية، هذه خلاصة فكرهم وأصول بحوثهم، فتجدهم يتطاولون على مشاهير الأعلام المجمع على علو كعبهم في علوم كثيرة، ويتصاغرون ويذعنون لفلاسفة عصر الأنوار، بل عصور اليونان، ويسلمون لهم وهم راضون.
وهاك أيها القارئ الكريم كلاما بليغا دقيقا لإمام كبير في فنه، هو الزمخشري المعتزلي حيث قال: “وتحريره: أن الواو -في مثنى وثلاث ورباع- دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع، إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤوا متفقين فيها، محظورا عليهم ما وراء ذلك -أي: ما فوق الأربعة- ..” (الكشاف:2/16).
إنه يجمل بنا قرعُ آذان المتطفلين على العلم بمثل كلام سيد قطب الآتي، في معرض حديثه عن آية التعدد؛ إذ قال: “هذه الرخصة -مع هذا التحفظ- يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها، في زمان جعل الناسُ يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم، ويدعون لأنفسهم بصرا بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه…وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى، بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب..” (الظلال:2/578).
لقد أظلنا زمان قل فيه خوفُ الله سبحانه، وكثر فيه نصْبُ المجانيق لنسف تراثنا العريق، أمام أنظار المسئولين عن ثقافة الأمة الإسلامية، تحت شعار الحرية العمياء، وبدثار الخرق والحمق، وفي وقت تخرج فيه فتيات غربيات وأخريات مسلمات يطالبن بحقهن في زواج كريم، بعد أن تسلط عليهم ذئاب الذكران السفهاء، ومسهن نصب المعاكسات والاغتصابات، وبيعت أعراضهن في صالات الموضات، واستُهتِر بهن في الفضائحيات مقابل دريهمات..
في وقت رفعت فيه فتيات كثيرات لافتات فيها دعوات للرجال بأن يتزوجوا أكثر من واحدة، وأن المرأة الصالحة هي من ترضى بوجود ضرة معها في المنزل؛ لعياء أصابهن من العنوسة المشؤومة.
في وقت يقع فيه من الاغتصاب المادي والمعنوي للمرأة آلافُ بل ملايين الحالات، يخرج علينا من يحيي فتنة منع التعدد، ضاربا بعُرض الحائط الأدلةَ الشرعية الصريحة، والرغبة الإنسانية الملحة، والمصلحة الاجتماعية الراجحة، وهو يحسب أنه يحسن صنعا.