الدكتور مصطفى بن حمزة يكتب: توضيح موقف بشأن جلسة البنوك التشاركية
د. مصطفى بن حمزة
هوية بريس – الثلاثاء 09 شتنبر 2014
منذ أن نقلت بعض وسائل الإعلام الوطنية ما وسعها نقله عن النقاش الذي دار خلال الجلسة العمومية الحادية والأربعين للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي برسم مناقشة التقرير الذي أنجزه المجلس عن مشروع القانون 12/103 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، منذ ذلك الحين والأقوال تتناسل، والمواقف تتشعب وتتباين بوتيرة يمكن أن تحيل القضية إلى موضوع سياسي يتجاوز حدود الصبغة التي كانت للنقاش، وكانت لشخص يمثل المؤسسة العلمية ذات الاهتمامات والاختصاصات الدينية المعروفة.
من أجل تفادي ذلك، فقد رأيت أن من المفيد استباق هذه الانعطافة، وذلك التوظيف بتسليط الضوء على ظرف النقاش ومضمونه.
ومجمل ما حدث وبتركيز شديد، أني قدمت إلى المجلس الاقتصادي مذكرة ضمنتها ملاحظات تبدت لي من خلال قراءتي لنص التقرير، وكانت ملاحظات عديدة ليس بالوسع التعرض لها كلها.
فقد لاحظت أن التقرير جاء في جانبه الذي تناول فيه أعمال مؤسسات الائتمان عموما شاملا وعميقا ومتوازنا، ومرد ذلك إلى أن من صاغه كان ذا كفاءة وخبرة بالموضوع المعروض، وهو ما طبع أغلب تقارير المجلس الاقتصادي التي عهد بها إلى متخصصين يعرفون جيدا مجالات اشتغالهم.
لكن التقرير جاء على العكس من ذلك، لما تناول موضوع البنوك التشاركية، إذ بدا عليه تقصير كبير وإعياء واضح، فاكتفى غالبا بإيراد جملة من التساؤلات والاستشكالات التي ليست هي ما يطلب ويراد من تقرير يصدر عن هيئة متخصصة، لتستعين به المؤسسة التشريعية التي لا يعنيها تلقي أسئلة، وإنما تتطلب مواقف واضحة.
وقد كان من الميسور التوصل إلى بناء أفكار ومواقف واقعية، ما دامت البنوك التشاركية تمثل حاليا جزءا من المشهد الاقتصادي العالمي، إذ يتجاوز الموجود منها حاليا 520 مؤسسة قائمة، وينتظر أن يبلغ عددها 800 مؤسسة في أفق 2015.
فلو أن الدراسات انصبت على أعمال البنوك القائمة فعلا، لأمكن تشخيص واقعها وتقديم ما في أعمالها من إيجابيات وسلبيات بكل موضوعية وحياد.
وقد كانت التساؤلات في أكثرها غير مؤسسة ولا موحية بانبثاقها عن بحث عميق لواقع البنوك التشاركية، رغم ما سبق هذا من جلسات الاستماع.
ومن تلك العوائق التي سماها التقرير إكراهات ما ورد في الفقرة 2 من الصفحة 16 (من وجود إكراهات تزداد حدة بالنظر إلى غياب الكفاءات في مجال المواكبة والاستشارات القانونية والمالية الخاصة بالتمويل التشاركي بالمغرب… وهو ما يمكن أن يثبط عزم الفاعلين الاقتصاديين على القيام بهذا النوع من العمليات).
وقد أوضحت أن هذا الاعتراض يتجاوز حدود الملاحظة إلى الإيحاء للفاعلين الاقتصاديين بخطورة الإقدام على هذا النوع من العمليات البنكية.
أما عن الاعتراض بغياب الكفاءات، فإنه ليس وجيها، لأن الكفاءات المغربية لن تكون أقل من نظيراتها في جميع الدول التي توجد فيها بنوك تشاركية من دول المغرب العربي والخليج وآسيا وغيرها. وليست هذه هي المرة الأولى التي يواجه المغربي منتجات جديدة، ومخترعات تكنولوجية وإعلامية متطورة، فيتعامل معها بكل كفاءة واقتدار.
وقد توقفت في قراءتي لنص التقرير عند ما جاء في الفقرة 3 من الصفحة 3 من أن مشروع القانون قد أعد بدون إجراء دراسة تتعلق بالتأثيرات التي يمكن أن يخلفها تطبيقه، ولم يتم تقييم احتمال تحول البنوك التقليدية إلى بنوك تشاركية.
وقد عقبت على هذا بأن إنجاز دراسات عن الجدوى والآثار، هو من صميم العمل الاحترافي الجاد، لكني رأيت أن هذه الدراسة كما يجب أن تتناول الآثار الاقتصادية، فإن من الواجب أن تتناول المعطى الاجتماعي والبشري قبل غيره، وهو يتمثل في هذه الحالة في إحساس المواطن، بأن النظم المالية السائدة تراعي طموحاته، وتهتم بانشغالاته وتستجيب لتطلعاته، فيكون من أثر ذلك إحساس بالرضا، واستشعار لتوفر القدر الكافي من الحرية التي تطال الجانب الاقتصادي مثلما تطال غيره من الجوانب.
أما بخصوص طرح احتمال أن تصير البنوك التقليدية بنوكا تشاركية، فهو احتمال مبالغ فيه، ولا سند له من واقع البنوك التشاركية التي هي موجودة فعلا، ولم تلغ وجود البنوك التقليدية، لأن هذه البنوك تظل هي الأكثر والأقوى، لما لها من امتداد في جهات العالم، وما لها من الخبرة ومن القوة الاقتصادية أيضا.
وقد أبرزت أن الاحتمال إن كان مشروعا من حيث الأصل، فإنه يصير غير محتمل ولا مطاق حينما يصير نوعا من التعويق غير المبرر المتجه نحو المستقبل، لأنه يشل قوة الابتكار وإرادة الفعل.
والأصل أن دائرة الاحتمال هي أوسع بكثير من دائرة الواقع، ولو كان للإنسان أن يستسلم للاحتمالات لتوقف الكثير من الأنشطة، فقد يحتمل من يريد ركوب الطائرة أنها قد تقع، ومن يركب السيارة أنها قد تصطدم، بحكم وقوع هذه الأحداث، لكن هذه التوقعات أو الاحتمالات لا يجوز تحكيمها دوما، واعتبارها هي الأصل، لأن ذلك ليس له مآل إلا التوقف وشل الإرادة.
وقد كان بالإمكان بدل ما سبق توقع أن تكون البنوك التشاركية سببا لإحداث منافسة حقيقية، تؤدي إلى تجويد المنتجات وإلى تخفيض الكلفة وإلى التخفيف عن المواطن، وهذا اتجاه اختاره عالم الاقتصاد لما ألغى الحماية الجمركية، وضع كل المؤسسات الاقتصادية في مواجهة قانون السوق.
وبدل طرح احتمال وقوع أشياء بعيدة التحقق، فقد كان من الأولى والمفيد طرح سؤال آخر هو أكثر وجاهة وأهمية عن سبب إفلات البنوك التشاركية من الأزمات التي عرفتها البنوك التقليدية بسبب ما عرف بالرهن العقاري الذي أعقب في الولايات المتحدة فترة ازدهار اقتصادي امتدت من سنة 2001 إلى سنة 2006 فتوسعت الشركات الائتمانية في منح القروض وفي رفع نسب الفوائد، وحين بدأت بوادر الأزمة سنة 2007 تعذر على المقترضين إرجاع الديون، فاستولت البنوك على المنازل، وبلغ عدد من تعرضوا للإفلاس في الولايات المتحدة أكثر من مليونين من الأشخاص، وتم تسريح العديد من الموظفين، ووجد ثلاثة ملايين من المواطنين أنفسهم في مواجهة خطر التشريد، وما وقع في الولايات المتحدة انتقل إلى أوروبا، وعاش الناس في اليونان أسوأ أوضاعهم الاقتصادية، وطولب الكثير من المقترضين في إسبانيا بالتنازل عن المنازل التي اشتروها بالقروض لتباع بأثمنة زهيدة إن وجد من يشتريها من أجل الوفاء بالفوائد قبل ألأصول.
من الملاحظات التي سجلتها على التقرير ما جاء في الفقرة 1 من الصفحة 19 من أن البنوك التشاركية ينبغي أن تعيد تمويل نفسها فقط عن طريق المنتجات التشاركية التي لا زالت غير متوفرة بعد في السوق المالية ببلادنا… إنه يتعين على البنوك التشاركية أن تستعين بالتأمينات التشاركية.
وقد لاحظت أن هذا التحفظ يتعلق بما يجوز وما لا يجوز من تصرفات البنوك التشاركية، وهو خروج عن الاختصاص، لأن هذا من اختصاص المجلس العلمي الأعلى لا غير، وهو أيضا مصادرة على المطلوب، لأن ما يطلب حصوله في النهاية هو ما جعل شرطا للتحقق قبل أن يتم الشروع في الفعل، وهذا ضرب من التعجيز واضح.
والجواب عن هذا أن من يقدم على إنشاء بنك تشاركي يكون هو الأحرص على أن تكون الأموال التي يوظفها أموالا غير محصلة عن طريق الفوائد، ولولا هذا الحرص لما سعى إلى الإسهام في هذه البنوك التشاركية.
ومع ذلك فإني أقول: إن للعلماء أساليب في هذا التعامل مع هذا الاستشكال الذي تؤطره قواعد عامة من مثل أن الميسور لا يسقط بالمعسور، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن الوسائل تعطى حكم الغايات، وكل هذه قواعد صالحة لمعالجة مرحلية في انتظار تحقق الأمثل من المآلات والغايات.
وقد عقبت أيضا على استشكال التقرير حول طريقة تدخل المجلس العلمي كما تحدثت عنه الفقرة 3 من الصفحة 20 من التقرير وقد ورد فيها: (هناك غموض فيما يخص مضمون آراء المطابقة، فمشروع القانون يوحي بأن موضوع الرأي بالمطابقة من طرف المجلس العلمي الأعلى هي الأنشطة والمنتجات التشاركية، وليست المؤسسات ذاتها التي تنجز هذه الأنشطة) وقد أبرزت أن هذا الاستشكال كان بالإمكان تجاوزه لو تمت متابعة طرق عمل البنوك التشاركية القائمة فعلا، لأن هذا المنتج ليس مشروعا للمستقبل، وإنما هو واقع ماثل.
والجواب أيضا أن تدخلات المجلس العلمي الأعلى لا بد أن تكون مصطبغة بالطبيعة الوظيفية للمجلس العلمي، وهي تقف عند حدود القول بملاءمة أعمال البنوك مع مقتضيات الشريعة، وتبقى للمؤسسات البنكية حريتها في الاشتغال وفق طبيعتها مشمولة بمراقبة بنك المغرب الذي يتابع أنشطة كل البنوك.
وما يؤكد أن مراقبة المجلس تنصب على الأعمال الائتمانية شرعا دون بنية المؤسسات البنكية هو أن الأحكام الشرعية تتعلق بالأفعال لا بالذوات، والعبرة دوما بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وعليه فإن أي عملية تجريها البنوك وفق ضوابط الشرع لا يمكن إلا أن تكون ممهورة بمطابقتها للشرع.
وإذا كانت بعض المداخلات قد عبرت عن اعتقادها بأن العمليات المالية ليس فيها ما هو شرعي وما هو غير شرعي، فإن هذا تطرف وإبعاد في الغلو. ذلك بأن جميع العمليات التمويلية في أي اقتصاد، منها ما هو جائز من الناحية القانونية، ومنها ما لا يجوز، وغير الجائز هو ما خالف النظم المالية المعمول بها.
ومثل ذلك أن يقال: إن التعاملات المالية حين تقارب من زاوية الموافقة لحكم الشرع، فإن منها ما يجوز ومنها ما لا يجوز، وهذا يعم تعاملات الأفراد في الأسواق، ويشمل تعاملات المؤسسات أيضا، ولائحة التعاملات غير الجائزة مؤسسة بنصوص ثابتة، وهي تؤول إلى معنى حماية العمليات التجارية من أن تصير سبيلا إلى الإثراء غير المشروع، أو إلى استغلال حاجات الناس، ومنها جميع التعاملات المتضمنة للغرر والجهالة في الثمن، أو في المبيع إلا ما استثني لحاجة الناس إليه كبيع السلم، ومنها بيوع قديمة: كبيع الحصاة، والمنابذة، وبيع المرء ما ليس يملكه، وبيع الحاضر للبادي، وتلقي الركبان، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها، وبيع الطعام قبل قبضه، وبيوع الاحتكار، وبيع المضامين، وحبل الحبلة، وبيع النجش، وكل بيع فيه غرر مقدور على تفاديه، ويمكن ملاحظة أن أثر هذه البيوع أصبح مشمولا بقوانين المنافسة وتكافؤ الفرص وحماية المستهلك، وإن بعناوين أخرى.
وإذا تساءل البعض عن داعي اللجوء إلى التعاملات التشاركية، فإنه يجاب بأن الاقتناع بوجود أحكام شرعية ضابطة للتعاملات هو ما يجعل الإنسان المسلم حريصا على الانسجام معها، لأن أحكام الشريعة تسري في الاكتساب والامتلاك مثلما تسري في العبادات، بل إن أبواب البيوع وما شاكلها هي أوسع حجما من أبواب العبادات في المصادر الفقهية.
ذكر الزيات في كتاب “التشوف” عن الشيخ علي بوغالب أنه ورث عن أبيه اثني عشر ألف درهم فتصدق بها، فقال إن أبي كان لا يحسن الفقه، فلما علم بذلك شيخه ابن العريف قال: كان يكفي أن يطهر المال بالتصدق بالثلث (“التشوف” للزيات تحقيق أحمد توفيق ط. 2 ص:22)، وهذه قصة تفصح عن عقلية لا تتعامل مع الأموال التي فيها شائبة مخالفة للشريعة.
هذه بعض ملاحظات تكشفت لي وقدمت معظمها ضمن مذكرة إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لتكون هي نفسها أيضا موضوعا لنقاش علمي ولحوار موضوعي، وقد أبلغني المجلس أنه اعتمد هذه الملاحظات، وضمنها الصيغة الجديدة للتقرير.
وبهذا تكون هذه الملاحظات ضميمة ساعدت على إبراز التقرير بالنحو الذي يليق به باعتباره صادرا عن مؤسسة تتحلى بالموضوعية والإنصاف.
غير أن ما شاب جلسة النقاش هو تدخل ناشطة حقوقية، اختارت هذه المرة أن تقف ضد حقوق فئة عريضة من المواطنين لهم رغبة ملحة وانتظار طويل، لأن يستفيدوا مما يتيحه وجود هذه البنوك من فرص الاستثمار، فيكونوا على غرار غيرهم من الشعوب التي لها هذه البنوك التي تتيح مجالا واسعا للاختيار، فيتعامل معها من شاء، ويعرض عنها من شاء.
وتؤكد الدراسة التي أنجزها مكتب الخبرة العالمي تومسون رويترز أن 86% من المغاربة يرغبون في المنتجات المالية التشاركية.
وقد أكد محمد بوسعيد وزير الاقتصاد والمالية المغربي أن التعاملات التشاركية يتوقع أن ترفع من معدل تعامل المغاربة مع البنوك الذي لا يتجاوز حاليا 57%.
وقد كان بالإمكان الإصغاء إلى تدخل الناشطة والتعامل مع مضمونه بكل إيجابية، لو أنه اعتمد بحثا عميقا، وارتكز على قراءة علمية لأعمال البنوك التشاركية كما هو المفترض فيمن ينتمي إلى هذا المجلس.
لكن المتدخلة لم تكلف نفسها عناء إعداد أي دراسة، وإنما انطلقت إلى إزجاء أحكام منبئة عن موقف مبدئي مسبق، فعارضت وجود هذه البنوك، وقالت إنها تخشى أن تكون سبيلا إلى زحف الاتجاه الوهابي، وتخشى أن يكون الفكر الوهابي وراء هذه البنوك، ودعت إلى فصل الإيديولجيا عن الاقتصاد، وإلى أن يكون القانون الوضعي هو الضابط لأعمال جميع البنوك.
ولذا وجدت لزاما أن أتدخل في إطار نقطة نظام لأصحح ما ورد في هذه المداخلة.
وإذا كان بعض من تدخل حاول أن يعتذر ويقنعني بأن حديث المتدخلة لم يكن يتقصد ما تحدثت به، فإني أعي جيدا ما قرره علماء البيان والمناظرة من أن الكلام العام إذا أعقب ما هو خاص، فإن الخاص يكون مشمولا بالعموم الذي أعقبه. (التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير سورة القصص، ج20 ص:106).
وقد نبهت المتدخلة أولا إلى أن هذا النوع من الخطاب الذي لا يتأسس على معطى علمي لا يمكن أن يقدم للحقيقة شيئا، وهو خطاب أصبح معهودا ومألوفا بل ومتوقعا، وهو سلاح يشهر أمام كل رأي له صبغة دينية، ولغته الخشنة مقدور عليها، وهي في متناول كل أحد، لأن كل شخص هو كما قال الشاعر محمد بن حازم الباهلي: له فرسان أيهما شاء ركب، وذلك في قوله:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
لكن اللائق بحوارات المثقفين أن تكون بلغات تصوغها الأناة والهدوء، ويطبعها احترام الآخر، لأننا معنيون أصالة بتدبير التنوع والاختلاف وبالمحافظة على الوئام الاجتماعي وبالبحث عن المشترك بدل النبش عن الاختلاف وعن أسباب الاحتكاك والصراع.
هذا إضافة إلى أن من مقومات هويتنا المغربية التي أبدت المتدخلة تخوفا عليها، أن المغاربة يتداولون لغة عفيفة وجميلة ومفعمة بشتى صيغ الأدب العالي إلى حد بعيد.
وحين يقال إن المؤسسات البنكية التشاركية، هي ذات صلة بالفكر الوهابي، فإن هذا القول لا يمكن اعتباره قولا علميا محترما، لأن شأن القول العلمي أن يمتلك قدرة تفسيرية تستوعب كل أجزاء الظاهرة، وهذا ما لا يصح في قضية البنوك التشاركية لأن من يعتمدها دول كثيرة بعضها غير مسلم، كما هو الشأن في لوكسومبرغ وهونغ كونغ وبريطانيا والكثير من دول أوروبا، ويتوقع دخولها قريبا إلى أوروبا الشرقية، كما توجد هذه البنوك في دول مغاربية، وفي دول الخليج، ودول أوروبا وأمريكا، وقد صرحت محافظة البنك المركزي الماليزي أن ماليزيا التي يوجد بها 30% من البنوك التشاركية تسعى إلى توسيع دور هذه البنوك، وهي تتجه إلى إحداث مصرف مالي عملاق عن طريق تجميع ثلاثة بنوك إسلامية جديدة، وأكدت المحافظة أن التمويلات الإسلامية القائمة على المشاركة والمخاطرة هي الأنسب لإنعاش الاستثمارات، وأصدرت بريطانيا في 25 من يونيو الماضي صكوكا سيادية إسلامية، جنت من ورائها 200 مليون جنيه استرلني، وتلقت تلك الصكوك طلبات كثيرة جدا بقيمة 2,3 مليار جنيه استرلني، وبلغت تداولات المالية الإسلامية 1300 مليار دولار، بحسب أرقام الحكومة البريطانية.
وأصدر صندوق إفريقيا 50 الذي تأسس رسميا في الدار البيضاء بداية الأسبوع الماضي صكوكا إسلامية، قال عنها كالديو كاديو المستشار القانوني العام للصندوق الإفريقي للتنمية: إن له عزما على الدخول في استثمارات طويلة الأمد، وإن الصكوك الإسلامية التي تعتمد التشارك في المشاريع تصلح لهذا الغرض.
وإذا صح وصف كل التمويلات الإسلامية بأنها واجهة للوهابية، فهل يصح أن يوصف رئيس وزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي تحمس لهذه الصكوك الإسلامية بأنه وهابي؟ وهل يختفي الوهابيون خلف صناديقه؟
لهذا قلت: بأن هذه الدعوى ليست قولا علميا، لأنها لا تمتلك قدرة تفسيرية تعم جميع الحالات التي توجد فيها بنوك تشاركية، وهي بهذا ليست إلا ذريعة مألوفة لإيقاف أي مشروع له صلة بالدين.
أما وصف الموقف المؤيد للبنوك بكونه إيديولوجيا، فهو أيضا لا يخلو من غرابة وبعد عن توصيف الحقيقة، لأن موقف التأييد إذا كان نوعا من الإيديولوجيا، فإن موقف الرفض لا يمكن أن يكون إلا كذلك، إلا إذا اعتبرنا أن معنى الإيديولوجيا هو الموقف الذي يكون عليه من يخالفه.
وحين يدعو شخص إلى المحافظة على هوية الوطن، فإن ذلك يجب أن يكون فعلا مشروعا مجتمعيا يشتغل عليه الجميع، وسيكون العلماء أول الواقفين على تخوم حماية هذه الهوية، لأنهم كانوا في ذلك الموقع منذ زمن بعيد، فكانوا يحمونها من الخطر المطل من الشرق ومن الغرب، ومن الشمال ومن الجنوب أيضا، وهم الذين تحملوا بسبب هذه المرابطة الدائمة وصفهم بنعوت أقلها حدة أنهم محافظون، وهم في حقيقتهم حافظون لحدود الله.
لكن ما لا يدركه كثير من الناس أن سلامة الوطن والحفاظ على أنموذج تدينه هو من قبيل الجد الذي لا يحتمل الهزل أو العبث به.
وقد كان العلماء المغاربة هم من حمى الوطن عقديا وسياسيا منذ زمن بعيد، فمنذ الزمن الأول تحركت على أرض المغرب مذاهب عقدية، كان منها مذهب الصفرية الذي اعتنقته إمارة بني مدرار، والإباضية التي اعتنقها الرستميون، كما وجد المذهب الاعتزالي في بؤر كثيرة من المغرب، ووجد المذهب الشيعي الفاطمي الذي أجهز على إمارة نكور، ووجدت العقيدة البرغواطية التي سادت في تامسنة.
وقد شغلت هذه المذاهب المغرب، وأشاعت فيه الفوضى لمدة تزيد عن ثلاثة قرون، كما يقول عبد الله كنون (النبوغ المغربي، 1/52).
وقد كان لاختيار المغاربة للمذهب المالكي أثره الكبير في تثبيت الاستقرار السياسي والوحدة العقدية.
وكان لمالك بالذات، أثره في إرساء قواعد الدولة المغربية، وهذا ما يغيب عن علم كثير من الناس، ذلك بأن مالكا كان يعتقد أحقية محمد النفس الزكية بالبيعة، وكان يراها هي البيعة الشرعية، وحينما وفد إدريس بن عبد الله الكامل إلى المغرب، جاء يحمل تلك البيعة التي كان مالك يراها شرعية، فكان هذا سببا أساسيا في مبايعة الأمازيغ لإدريس الأول. خصوصا وإن إدريس أقام ستة أشهر ضيفا على عبد الحميد الأوْربي وعلمه الكثير من أمور الدين، وكان أمر البيعة من جملتها غالبا.
وكان لمذهب مالك بعد ذلك أثره الكبير في الاستقرار العقدي وفي وحدة التدين في المغرب. لأن مذهب مالك ليس مذهبا في الفقه فقط كما يظن الكثير، وإنما هو أيضا مذهب في العقيدة السنية كذلك، وقد أفرد القرافي بابا ضمن كتابه “الذخيرة” أسماه كتاب “الجامع”، وقال إن ما فيه لا يوجد في غيره، وتحدث فيه عن مجمل اعتقاد مالك: (الذخيرة للقرافي 13/231)، ومن أشهر مقومات معتقد مالك أنه كان يرفض البدع والمحدثات. ويقول بقول أهل السنة في الصحابة رضوان الله عليهم. فشكل ذلك حاجزا معرفيا أمام كثير من المذاهب العقدية غير السنية.
وحين تمكن المذهب الفاطمي من التمركز بتونس، وجد في الفقهاء المالكية خصوما ألداء، انتقدوا فكره جهارا، وتعرض كثير من المالكية للأذى والمضايقة، كما كان شأن ابن أبي زيد القيرواني والقابسي وغيرهما. وذكر القاضي عياض تفاصيل الحكم بالموت على إسحاق بن البرذون وأبي بكر بن هذيل (“ترتيب المدارك” للقاضي عياض 5/118)، وقد كاد أحمد بن عبد الله الأحوص يلاقي نفس المصير، وذكر عياض أن الحنفية في تونس، لم يواجهوا الفاطميين كما واجههم المالكية، لأنهم كانوا يشتركون معهم في مسألة التفضيل، وهي تعني أنهم كانوا يرون أفضلية فاطمة على باقي نساء بيت النبوة، بينما مالك كان يرى أفضلية عائشة. (ترتيب المدارك 5/18).
وعبر تاريخ طويل حمى العلماء المغرب، فوقفوا ضد أطماع الغزاة، فكان لأبي المحاسن الفاسي دور بارز في تجميع المغاربة لمواجهة الجيش الصليبي القادم في أربعين ألف محارب ليجتث الإسلام من أرض المغرب، فكانت معركة وادي المخازن موقعة مصيرية وحاسمة.
وفي الجنوب المغربي كان محمد بن ناصر الدرعي يوقظ في المغاربة روح المقاومة والجهاد، من خلال دعائه الذي كان نشيدا لاستثارة النفوس وتوجيه الناس ضد الغزاة، خصوصا في قوله:
أنظر إلى ما مسنا من الورى فحالنا من بينهم كمـــا تـــــــــرى
وقوله:
واجعل لنا على البغاة الغلبة واقصر أذى الشر على من طلبه
وفي الصحراء المغربية، كان محمد بن المصطفى ماء العينين رجلا توجه من مواقع التعليم إلى ساحات الجهاد والدفاع عن وحدة المغرب لمدة تزيد عن ثلاثين سنة. (مقال د. شبيهنا حمدات ما العينين ضمن بحوث الحركة السلفية في المغرب ص:196).
وفي الشمال المغربي وجد عالم من خريجي القرويين، ومن القضاة الفقهاء هو محمد بن عبد لكريم الخطابي الذي خاض معارك عديدة ضد الاستعمار الإسباني، فألحق به هزائم نكراء، خصوصا في معركة أنوال التي غنم فيها 200 مدفع و20 ألف بندقية وأسر 700 جندي إسباني (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي، علال الفاسي ص:127).
وحين عزم الاستعمار الفرنسي على تنفيذ أخطر مرحلة من مشروعه الاستعماري وهي المتمثلة في تعطيل شرعية نظام الحكم في المغرب بتنصيب ابن عرفة، وسعى في ذلك سعيا حثيثا، وبذل له جهدا كبيرا، وجند الكثير من الباشوات والأعيان، ثم جمع الناس مرغمين بمشور فاس، وكانوا نحوا من 350 شخصا، وتليت عليهم بيعة ابن عرفة، ودعي الناس إلى التوقيع عليها، لكن العلامة الطايع بن الحاج رئيس المجلس العلمي بفاس، ومحمد الحبيب البلغيثي وكثيرا من العلماء رفضوا التوقيع، واستدعي علماء آخرون منهم عبد الكريم التواتي، وعبد الكريم الداودي، ومحمد بن البشير وعمر العراقي، وحماد العراقي وعبد الواحد العراقي والطيب بن أحمد العلوي، لكنهم امتنعوا عن التوقيع، وأحيل هؤلاء إلى الرباط، وتركوا تحت الحراسة بمدرسة بالمشور، وكان في طليعة الرافضين لهذه البيعة والمفتين بعدم لزومها، العلامة محمد بن العربي العلوي، وقد كان معه على رأيه في لائحة خاصة 235 من العلماء ومنهم: محمد المختار السوسي وعبد الله كنون.
وقد اصطحب الكثير من هؤلاء العلماء في معتقل أغبالونكردوس، وكان لهم فضل تعطيل المشروع السياسي للاستعمار، وكان منهم إطلاق الإشارة بوجوب الدخول في مرحلة الكفاح المسلح، فحموا المغرب في مرحلة عصيبة، ولم يقايضوا على حريته واستقلاله.
وفي الفترة التي كان الفرنسيون يعملون على كسر استمرارية شرعية السلطة، كان الإسبان في الشمال يعملون على استقطاع كل الشمال المغربي، فجمع الحاكم الإسباني الأعيان والعلماء، وعرض عليهم خلع بيعة محمد الخامس، في مقابل دعم إسبانيا قيام كيان سياسي موال لها، وقد تحطم هذا المشروع فور بروزه حينما أفتى العلامة محمد بن محمد المرير التطواني بعدم جواز خلع البيعة الشرعية التي لم تزل في أعناق الناس، وبعدم جواز الدخول طوعا تحت ولاية غير المسلم.
وهكذا تم إجهاض مشروع كان بالإمكان أن يكون له تأثير على الوحدة الوطنية. وبالمناسبة فإني أشير إلى المستوى العلمي الرفيع الذي كان لمحمد المرير؛ وهو ما عبرت عنه بحوثه القيمة عن مفهوم الدولة والديمقراطية ونظام الحكم، ونظم العدل من خلال ما جاء في الجزء الثالث من كتابه القيم “الأبحاث السياسية والمحاكم الإدارية” (ص:542)، وقد أحسنت دار الحديث الحسنية بإخراج هذا الكتاب الذي أضاف إضافة قيمة في مجال الفقه الدستوري والنظم الإدارية والقضائية.
هذه لمحة موجزة عن حضور العلماء قديما وحديثا في موقع حماية الوطن، وهي لا تعدو أن تكون إلماعات سريعة.
والأكيد أن وجود العلماء يمثل بالنسبة للأمة أيضا قيمة عالية أخرى هي حضور الفكر والمعرفة في المجتمع، ومن ثم لا تكون الدعوة إلى تحييدهم وإقصائهم عن المشهد العام، ولا يكون الامتعاض من تدخلهم ومشاركتهم ولو في جزئية صغيرة هي الفصل في ملاءمة أعمال البنوك التشاركية لأحكام الشريعة، إلا تعبيرا عن الاستهانة بقيمة المعرفة.
وهذا يأتي على النقيض مما تفعله أكثر الدول التي تقول بفصل الدين عن المجتمع، ومع ذلك تتدخل مؤسساتها الدينية في أحداث عالمية من أجل الوساطة أو الفصل في النزاعات على غرار ما تفعل جماعة سانت اجيديو، وما يقوم به القس جيسي جاكسن، وديزمند توتو، وغير هؤلاء من الذين يتحركون بتفويض ودعم من دولهم.
وشأن الأمم المتحضرة أنها تتعامل مع علمائها ومؤسساتها العلمية بما يليق بهم من مظاهر الاحترام والتقدير التي تحفزهم على مزيد بذل وعطاء، وتعبر لهم عن ذلك في حياتهم، وقد تفرد لهم مقابر خاصة بعد وفاتهم، مثلما هو شأن مقبرة البانتيون pantheon الرابضة في الحي اللاتيني، وهي تضم رفات أعلام الفكر والباحثين وقواد الدولة ابتداء من فولتير وجان جاك روسو إلى من بعدهم.
وينبئ عن رؤية بعض الشعوب لأصحاب الفكر، أنه لما أقدم الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير على خنق زوجته هيلين في 16 أكتوبر 1980 وعرض أمره على الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان ليقرر إحالته على القضاء، لكنه أجاب أنه عار على فرنسا أن تعتقل فكرها، وأمر بإدخاله مصحة عقلية.
وأخيرا، فإذا صح القصد والعزم على حماية أنموذج التدين المغربي، وعلى المحافظة على هوية الوطن، فإن ذلك يرتب على من يشتركون في هذا المشروع أن يجعلوا تحقيقه ورشا وطنيا صادقا يتم الاشتغال عليه جماعيا، ويمهدوا لذلك بإنجاز بحوث علمية ودراسات رصينة غير متحيزة لتقترح أقوى وأجدى الأساليب في العمل.
وحين يصح القصد، فإن أول ما يتعين التوجه إليه هو الاشتغال على تكوين المناعة الذاتية والحصانة الاجتماعية، وذلك بتمكين الإنسان المغربي من الاطلاع على القدر الضروري من المعرفة الشرعية التي تؤهله لمواجهة كل الاتجاهات الوافدة التي أصبحت تجد متسعا في الفراغات والفجوات التي يخلفها الجهل بالإسلام.
وحين نريد أن يكون العمل استباقيا ووقائيا، فإن المتعين هو تمكين مؤسسات العلم الشرعي من الاشتغال بكل قوة وبجميع كفاءاتها المتوفرة، كما يتعين أن تصير المعرفة الشرعية ثقافة مشتركة بين الجميع، ونستيقن أن من الخطأ الفادح المراهنة على الفراغ وإخلاء برامج الدراسة في أي مستوى من مستوياتها، وفي أي مؤسسة من مؤسساتها من المادة العلمية الشرعية، لأن من تستهدفهم التيارات وتستقطبهم قد يكونون من خريجي المعاهد التي لا تهتم برامجها التعليمية بالمادة الشرعية، ومما يجب التنبه له أيضا خطورة تفريغ برامج الكثير من القنوات الإعلامية من المادة الدينية بدعوى وجودها في قنوات أخرى متخصصة. وهذا لا يفي بالقصد، لأن المطلوب من جميع الفضائيات الوطنية، هو حماية الإنسان المغربي، وتعبئته بكل الثوابت الوطنية، فلذلك لا يجوز حرمان أي فئة من المواطنين من هذه التعبئة.
هذا مع الإشارة أخيرا إلى أن المغرب لا يستهدفه تيار واحد كما يتبادر لمن لا يتبين حقيقة التيارات والمذاهب المتربصة، وأكثرها لا يدركه إلا العلماء الذين يميزون جيدا بين مفاهيم الولاء والبراء، ومدلولات الكفر ودار الإسلام، ومعنى اشتمال الإيمان على العمل على وجه الشرطية لا الشطرية، ومعاني أخرى كثيرة كان المجلس العلمي الأعلى هو وحده السباق إلى بحثها وعرضها خلال ندوة كبرى، كان من نتائجها إصدار كتاب بعنوان: “حكم الشرع في دعاوى الإرهاب”، وهو لا زال الوثيقة الأهم لمقاربة ظاهرة الإرهاب، لكن الناس لا يقرأون..