بعبع الدخول المدرسي
إكرام الفاسي
هوية بريس – الأربعاء 10 شتنبر 2014
انقضت العطلة الصيفية وانقضت معها أيام من الفراغ والراحة والاستجمام، لتأذن بحلول عام دراسي جديد، وتثار معه إشكاليات كانت في سبات عميق حين حلول العطلة، وها هي تستيقظ من جديد كبعبع كان يتغذى من طيش المتهورين خلال الصيف، وبلغ كمال قواه حين أيقظته أول نفحة خريفية فتحت شهيته لاستنزاف ما تبقى من أموال الآباء، ثم الوقوف أمامهم كشبح يرافق ظلهم أينما حلوا وارتحلوا، ويؤرقهم ليلا كما يتعبهم نهارا.
لست أبالغ إن شبهت حلول الموسم الدراسي ببعبع، فكثير من الآباء تنتظرهم مصاريف طائلة سوف ينفقونها على أبنائهم هذا الشهر، سواء أَهم سجلوا أبناءهم بالمدارس العمومية أم بالمدارس الخصوصية، فلا يسلم الفريقان من الضجر من ما ينتظرهم من مصاريف كسوة وحقيبة وأدوات ومقررات… ناهيك عن مصاريف التسجيل المكلفة أحيانا، أما إن كان الأب قد سجل ابنه بالمدارس الخصوصية فالمصيبة أعظم؛ إذ لم يجد الثقة الكافية في المدارس العمومية ليجد نفسه مجبرا على إيداعه ابنه بمؤسسة خصوصية حتى وإن كان دخله هزيلا، فيكون اختياره هذا حبل مشنقة يسير إليها! كيف لا وقد تكبد عناء الاقتراض سواء من مؤسسة بنكية مع ما ينتظره من أقساط وفوائد لن يجد بديلا عنها في نظره…
لقد أُثقل الآباء بالمصاريف، وأُثقِلَتْ ظهور الأبناء بالحقائب التي قد تعادل أوزان أجسامهم الصغيرة أحيانا! ليبقى التساؤل الذي يشغل الآباء والجهات التربوية عن جودة هذا التعليم الذي يركز على الكمِّ أكثر من تركيزه على الكيف مطروحا.
لا إشكال إن كان ما ينفقه الآباء من أجل تكوين أبنائهم سيعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم، بل يجب أن يكون ذلك بنية استثمارية تهدف إلى تعليم الصغار وتنمية قدراتهم وتهدف إلى استثمار أخروي يدرُّ الحسنات الجارية.
إن الدخول المدرسي فترة لتذمُّر الكثير من الكبار والصغار على حد سواء، وذلك راجع في الغالب إلى ضيق الأفق وعدم وضع أهداف صائبة، فقد ينظر الصغار إلى هذه المحطة كفاصل بينهم وبين المتعة والاستجمام الصيفي وبدء لروتين جديد يقّيد من حرياتهم ويُلزمهم بواجبات ويُثقلهم بأكوام من المعلومات التي ما إن يحين الصيف حتى تتبخر مع شمسه، لا لشيء سوى لأنهم مجبرون على الذهاب للمدرسة كما يرتضي ذلك أولياؤهم…
إن أغلب أبنائنا ينظرون إلى المدرسة بمنظور سلبي، وذلك راجع إلى التربية بالأساس، فيندر أن تجد طفلا مُربّى على حب التعلم ابتغاء وجه الله وأن ذلك يجب أن يكون من أهدافه الشخصية، إذ أغلب الآباء يتعاملون مع أبنائهم بمنظور تحفيزي أو تحذيري! كأن يدرسوا من أجل الحصول على هدية ما في الآخر، أو يدرسوا لكي يصبحوا يوما ما أطرا عليا، وكم كنا نردد أيام الصبا من أحلام، كأن نصير دكاترة أو ربابنة طائرات ويا ويل الطفل من غضب والديه إن تمنى مهنة بسيطة!!
كما نجد بعض الآباء يهددون أبناءهم بمنعهم من نزهة أو سفر أو حصولهم على لعبة إن هم لم يحصلوا على معدلات جيدة، وفي أسوأ الأحوال تراهم يهددونهم بالعقوبات البدنية، ليقترن مفهوم المدرسة لدى الطفل بالخوف والتهديد وتقييد الحرية.
وقد نجد بعض التلاميذ تشربوا فكرة اللاجدوى من التعلم، فقد صدعت آذانهم بأزمة الشغل وقلة الآفاق المستقبلية، وكأن مصير كل تلميذ مهما اجتهد وثابر هو البطالة؛ ويتبنى هذا الطرح في الغالب تلاميذ المدارس العمومية، حين يقارنون وضعهم بالوضع المادي لتلاميذ المدارس الخصوصية، وأن هؤلاء قادرون على الحصول على تكوين أجود يخوّل لهم فرصة الولوج إلى المعاهد العليا أو الذهاب إلى الخارج بدلا من الجامعات المكتظة التي لا بديل لهم عنها إن لم يحصلوا على معدلات باكالوريا مرتفعة؛ فيتخيلونها مقبرة تُدفن فيها قدرات الطالب المغربي لتخرجه فارغا من تكوين يؤهله لولوج سوق الشغل…؛ وهذه الفوارق الاجتماعية من شأنها أن تولد محبطات نفسية عميقة لدى تلاميذ المدارس العمومية، خصوصا وأنهم يدرسون في ظروف صعبة من اكتظاظ الأقسام وخصاص في الأطر والبنيات التحتية الرديئة والمُعدات التي لا تواكب التقدم التكنولوجي. وحتى تكون المقارنة أقرب، فلكم أن تتصوروا شعور تلميذ العالم القروي تجاه نظيره في الحواضر، فشتان بين من يجتاز عشرات الكيلومترات في مسالك وعرة ليصل إلى مقعده الدراسي وبين من يجد المدرسة على بعد أمتار من بيته…
إن النظرة السلبية للمدرسة في مجتمعنا راجعة إلى المنظومة التعليمية المغربية ككل، فالطفل يذهب إلى المدرسة مُكرَهًا منذ نعومة أظافره، حين يَجد نفسه بين أحضان امرأة غير أمه -التي أودعته في الحضانة ثم ركضت تجري بحثا عن لقمة عيش تسد بها رمقه-، ثم ما يلبث إلا قليلا حتى يلتحق بالتعليم الأولي، ليواجه مشكل ازدواجية اللغة، فإما أن نجد الطفل تربى على مزيج من اللغات لا يجيد أي واحدة؛ وإما أن نجده تربى على لغة واحدة يصعب عليه بعدها تعلم الأخرى عند ولوجه المستوى الابتدائي.
ومن بين المشاكل التي يواجهها الطفل في المدرسة هي ضعف تحفيزه وعدم اعتباره كيانا مستقلا له أفكاره وطموحاته الخاصة، بل لا يزال الطفل في مدارسنا يُهان ولا يُقَدَّرُ خصوصا إن كان يواجه صعوبات في التعلم، فيُحكم عليه بلفظ الكسول أو المشاغب، ليبقى ذلك راسخا في العقل الباطن للطفل فيمنعه من أي محاولة للاجتهاد، وأسوأ خطأ يقع فيه المعلمون هو حكمهم على شخص الطفل وليس على عمله أو سلوكه، فيكون الإحباط رفيق الطفل مهما بلغ من مستويات التمدرس، ونفس الحال ينطبق على “تصنيف” الطفل بأنه مجتهد أو ذكي، فلا يتقبل بعدها أي خطأ قد يقع فيه فيصاب بالغرور وبعدها بالإحباط.
قد لا يكون الإحباط مشكلا لدى التلميذ لوحده، بل هو مشكل يعاني منه الأستاذ أيضا، إن كانت ظروف العيش هي التي اضطرته إلى ولوج ميدان التعليم ولم يكن ذلك عن رغبة واختيار منه، فيظل طوال مسيرته المهنية ساخطا عن هذا العمل الذي ولجه مكرها، فلا يرجى من هذا المُدَرِّس تربية ولا تعليما، إن كانت مزاولته لهذه المهنة لا تعني له سوى بضعة دارهم يجدها على حسابه البنكي أواخر كل شهر، ولا يحمل على عاتقه أي هم إصلاحي أو تعليمي دنيويا كان أم أخرويا.
من مشاكل منظومتنا التربوية أيضا أزمة القراءة، فلا همَّ للتلاميذ غير حفظ المقرر فحسب بل ولا أبالغ إن قلت إن أغلب التلاميذ يحفظون بالكاد ما هم ملزمون به في الامتحان! فما يشغلهم هو الحصول على نقطة تسمح لهم بالمرور إلى القسم الموالي، لأن النظام التعليمي لا يركز كثيرا على مسألة التكوين الذاتي واكتساب المهارات، بل نجد أن التلميذ مستعد لبذل المستحيل للحصول على نقطة جيدة ولو بالغش أحيانا لأن هذه النقطة يعتبرها ماء وجهه أمام أقرانه وهي “القربان” الوحيد أمام والديه لتحقيق كل رغباته وأمانيه، فلا يهمه تعليم ولا تكوين، فكيف نطمح أن يجاوز الطفل المقرر ليقرأ كتابا نافعا كيفما كان مجاله ما دام لم يستوعب أنه يتعلم لتكوين ذاته ويبني مستقبله الخاص!
لا يسعني المقام لجرد كل مشاكل التعليم التي تتجدد إثارتها عند مطلع كل عام دراسي، ويبقى الهم الإصلاحي أمانة في عنق كل من بيده التغيير بدء منا كآباء ومربين وموجهين، إذ بوسعنا بذل الكثير من أجل تصحيح مفاهيم أبنائنا ومساعدتهم في مسارهم الدراسي، كما لا ينبغي أن تُلقى المسؤولية على عاتق المسؤولين فحسب بل هي على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع مهما كان موقعه.