الحركة الإسلامية من الاعتدال إلى العنف
أحمد الشقيري الديني
هوية بريس – الإثنين 15 شتنبر 2014
تشكل التراث الإسلامي عبر قرون من اجتهادات مدارس متعددة، مختلفة وأحيانا متصارعة، في الفقه والكلام والتصوف، وفي السياسة أيضا..
ـ منذ قرن، لما ظهرت الصحوة الإسلامية المعاصرة، تتلمذت على هذا التراث المتنوّع، وانبرى لتوجيهها في البداية قادة كبار، في الفكر والفقه والسلوك والجهاد والسياسة، أمثال: الإمام محمد عبده والعلامة رشيد رضا والإمام الشهيد حسن البنّا والزعيم علال الفاسي والمجاهد عبد الكريم الخطابي وغيرهم، ثم ظهر جيل المنظرين الفقهاء للحركة الإسلامية الوسطية: العلامة يوسف القرضاوي والإمام محمد الغزالي؛ فانتشر الإسلام الوسطي على نطاق واسع، ودخل في صراع سياسي مع حكام الجور، وصراع فكري مع العلمانيين، وصراع مسلح مع اليهود في فلسطين.
ـ كانت الدوائر الغربية والصهيونية تراقب هذا الوافد الجديد، تدرس مبادئه وأهدافه وترصد تحركاته، فلما اكتشفت خطورته على مصالحها في المنطقة عمدت إلى تحريف مساره من خلال التمكين للاستبداد السياسي والفكر العلماني المتطرف، ثم فيما بعد رعاية الفكر السلفي السطحي الذي شغل الساحة الفكرية بالصراعات الفقهية حول بعض الجزئيات، رافضا للعمل السياسي مكفّرا للديمقراطية والمجالس البرلمانية.
ـ بالموازاة مع ذلك كانت الدوائر الغربية تغض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التي تعرفها سجون معظم الأنظمة العسكرية التي اصطلت بنيرانها فصائل الحركة الإسلامية، فتخرّجت من تلك السجون جيوب غاضبة حاقدة، لا تؤمن إلا بالعنف وسيلة للتغيير؛ فالتقى هؤلاء مع الفكر السلفي المتشدد الرافض للتداول السلمي على السلطة، على ساحة الجهاد في أفغانستان، فتشكل ما اصطلح عليه فيما بعد بـ”السلفية الجهادية”، وانتعش هذا الفكر في مواطن الجهاد: في البوسنة والشيشان والصومال والعراق مع الغزو الأمريكي.
ـ لم تستطع الولايات المتحدة أن تفي لمبادئها وقيمها الديمقراطية في العراق بعد سقوط صدّام حسين، بل فتحت البلاد للشيعة الموالين لإيران ومكّنت لهم لتؤجّج بذلك الصراع الطائفي في المنطقة.
ـ انفجر الربيع العربي بصورة مفاجئة، على إثر عود ثقاب أشعله “البوعزيزي” في برميل الغضب والاحتقان الذي تراكم عبر عقود في المنطقة، فاهتزّت عروش وسقط طغاة وجبابرة، وزلزلت الأرض من تحت أرجل آخرين.
ـ على إثر ذلك جرت انتخابات نزيهة لأول مرّة في تونس والمغرب ومصر، وتصدّر المشهد السياسي التيار الإسلامي الوسطي في هذه البلدان، لكنّه عجز في الدولة التي أطلقت شرارة الربيع وأيضا في أكبر دولة عربية، أن يواجه الدولة العميقة التي بناها الاستعمار الغربي ورعاها في الجيش والمخابرات والإعلام والقضاء، فحصلت نكبة في مصر لا زلنا نعيش فصولها الدرامية منذ سنة ونصف، وهي النكبة التي غذّاها المال الخليجي والتواطؤ الغربي؛ أما في الشام فكانت مأساة القرن، راح ضحيتها شعب بكامله في خضم الحسابات الضيقة بين الكبار: روسيا والصين من جهة والولايات المتحد وأوروبا من جهة ثانية.
ـ الأخطاء الأمريكية القاتلة في المنطقة كانت وراء ظهور “داعش” وأخواتها، والتي جاءت جوابا على التمدّد الشيعي/الإيراني في المنطقة من جهة، وإضعاف الإسلام السياسي في مصر والدوّل الأخرى تبع لها من جهة ثانية.
ـ عدنا إلى ذلك التراث المتنوّع، لكن بدل أن ننطلق منه لبلورة اجتهادات تناسب العصر، كما فعل أولئك الكبار الذين أشرنا إليهم في مطلع المقال، جمدنا على اجتهادات فقهية لها زمانها وظروفها، واستصحبنا تلك الصراعات التاريخية بين المذاهب، لنقدّم إلى العالم نموذج “الدولة التاريخية” التي انقرضت بانقراض ظروف ظهورها، ولا تملك مقومات الاستمرار؛ سواء حاربها الأمريكان أم تركوها، فأسباب موتها الحتمي كامنة في أحشائها.. لكن للأمريكان نوايا خبيثة..
ـ مخططات التقسيم التي تروم أمريكا إحداثها في المنطقة من أجل مزيد من التحكم في مصادر الطاقة، لن تتوّج إلا بالفشل الذي عرفته في العراق، وفي المقابل سترفع منسوب الاحتقان في المنطقة، وستكون مجبرة على خوض حروب منهكة لها ولاقتصاديات الدول التي تدور في فلكها.
ـ في حين لو تمّ تحجيم التمدّد الإيراني، وتقليم أظافر الأنظمة العسكرية الشمولية في مصر والشام، وتشجيع ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتوظيف المال الخليجي في مشاريع تنموية تعود على المنطقة بالرقي والازدهار وتقليص أزمة البطالة، بدل تمويل الحروب والديكتاتوريات وهوى الأمراء، لانكمشت كل “الدواعش”، ولكانت أمريكا والغرب عموما أول المستفيدين من استقرار المنطقة.
وغير هذا فللشعوب كلمتها في النهاية.. وهذه أمّة لا تموت.