دلالة «تلبية الحج» على التوحيد
د. رشيد نافع
هوية بريس – الثلاثاء 16 شتنبر 2014
إنَّ من أجلِّ الدروس العظیمة التي یستفیدھا المسلم في حجه لبیت الله الحرام وجوب إخلاص العبادات كلھا لله وحده لا شریك له، فالمسلم یبدأ حجه أول ما یبدأ بإعلان التوحید ونبذ الشرك، قائلاً: “لبیك الّلھم لبّیك، لبیك لا شریك لك لبّیك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شریك لك“، یقولھا ویرفع بھا صوته، وھو في الوقت نفسه مستشعر ما دلت علیه من وجوب إفراد الله وحده بالعبادة والبعدِ عن الشرك؛
فكما أن اللهَ متفرّد بالنعمة والعطاء لا شریك له، فھو متفرد بالتوحید لا نِد له، فلا یُدعى إلا الله، ولا یُتوكّل إلا على الله، ولا یُستغاث إلا به، ولا یُصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا له، وكما أنّ العبد مُطالَبٌ بقصد االله وحده في الحج، فھو مُطالَبٌ بقصده وحده في كلِّ عبادة یأتیھا وكلّ طاعة یتقرّب بھا، فمن صرف شیئاً من العبادة لغیر الله أشرك بالله العظیم، وخسر الخسران المبین، وحبط عمله، ولم یقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
لقد جاء الإسلام بھذا الإھلال العظیم، الإھلال بتوحید الله وإخلاص الدین له والبعدِ عن الشرك كله صغیره وكبیره، دقیقه وجلیله، بینما كان المشركون عبّادُ الأصنام والأوثان، یُھلون في إحرامھم بالحج بالشرك والتندید، فكانوا یقولون في تلبیتھم: “لبّیك لا شریك لك إلا شریكاً ھو لك، تملك وما ملك“، فیُدخلون مع الله في التلبیة آلھتھم الباطلةَ، ویجعلون ملكھا بیده، وھذا ھو معنى قول الله عنھم في القرآن الكریم: “وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشرِكُون“، أي ما یؤمن أكثرھم بالله بأنه الخالق الرازق المدبّر إلاَّ وھم مشركون معه في العبادة أوثاناً لا تملك شیئاً وأصناماً لا تنفع ولا تضرّ ولا تعطي ولا تمنع بل لا تملك من ذلك شیئاً لنفسھا فضلاً عن أن تملكه لغیرھا.
روى ابن جریر الطبري عن ابن عباس رضي الله عنھما قال: “مِن إیمانھم إذا قیل لھم مَن خلق السماء، ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، وھم مشركون”.
وعن عكرمة أنه قال: “تسألھم من خلقھم ومن خلق السموات والأرض فیقولون: الله، فذلك إیمانھم بالله، وھم یعبدون غیرَه”.
وعن مجاھد قال: “إیمانھم قولھم: الله خالقنا ویرزقنا ویمیتنا، فھذا إیمانٌ مع شرك عبادتھم غیره”.
وعن ابن زید قال: “لیس أحد یعبد مع الله غیرَه إلا وھو مؤمن بالله، ویعرف أن اللهَ ربه، وأن الله خالقُه ورازقُه وھو یشرك به، ألا ترى كیف قال إبراھیم عليه السلام: “أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنَّهم عدو لي إلا ربّ العالمين“، قد عرف أنھم یعبدون ربَّ العالمین مع ما یعبدون، قال: فلیس أحد یشرك إلا وھو مؤمن به، ألا ترى كیف كانت العرب تقول: “لبّیك لا شریك لك إلا شریكاً ھو لك، تملكه وما ملك“، المشركون كانوا یقولون ھذا.
لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم یقرون بأن خالقَھم ورازقَھم ومدبّر شؤونھم ھو الله، ثم ھم مع ھذا الإقرار لا یُخلِصون الدین له، بل یشركون معه غیرَه في العبادة من الأشجار والأحجار والأصنام وغیرھا، وقد جلى الله ھذا الأمرَ وبينه في مواطن كثیرة من القرآن الكریم، كقوله سبحان: “ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن فأنى يؤفكون“، والآیات في ھذا المعنى كثیرة.
قال الحافظ ابن كثیر رحمه الله في تفسیره:
“یقول تعالى مقررا أنه لا إلاه إلا ھو، لأن المشركین الذین یعبدون معه غیرَه معترفون أنه المستقلّ بخلق السموات والأرض، والشمس والقمر، وتسخیر اللیل والنھار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدِّر آجالِھم واختلافھا، واختلاف أرزاقھم ففاوت بینھم، فمنھم الغني والفقیر. وھو العلیم بما یصلح كلا منھم، ومن یستحق الغنى ممّن یستحق الفقر، فذكر أنه المتفرد بخلق الأشیاءَ وتدبیرھا، فإذا كان الأمر كذلك فلِمَ یُعبد غیره؟ ولِمَ یتوكّل على غیره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فلیكن الواحدَ في عبادته، وكثیراً ما یقرّر تعالى مقام الإلھیة بالاعتراف بتوحید الربوبیة، وقد كان المشركون یعترفون بذلك، كما كانوا یقولون في تلبیتھم: “لبّیك لا شریك لك إلا شریكاً ھو لك، تملكه وما ملك“.
وھذا المعنى یكثر في القرآن الكریم الاستدلال على الكفار باعترافھم بربوبیة الله جلّ وعلا على وجوب توحیده في عبادته، وإخلاص الدین له، ولذلك یخاطبھم في توحید الربوبیة باستفھام التقریر، فإذا أقرّوا بربوبیته احتجّ بھا علیھم على أنه ھو المستحق لأنْ یُعبد وحده، ووبخھم منكراً علیھم شركھم به غیره، مع اعترافھم بأنه ھو الربّ وحده، لأن من اعترف بأنه الربّ وحده لزِمه أن یخلص العبادة كلھا له، وبھذا یتبیّن أن الاعتراف بأن الله ھو الخالق الرازق المنعم المتصرّف المدبّر لشؤون الخلق لا یكفي في التوحید، ولا یُنجي من عذاب الله یوم القیامة ما لم تُخلص العبادةُ كلھا لله وحده، فالله لا یقبل من عباده توحیدھم له في الربوبیة إلا إذا أفردوه بتوحید العبادة، فلا یتّخذون له ندا، ولا یدعون معه أحداً، ولا یتوكلون إلا علیه، ولا یصرفون شیئاً من العبادة إلا له سبحانه، فكما أنّه سبحانه المتفرّد بالخلق، فھو سبحانه المتفرّد بجمیع أنواع العبادة. ولھذا قال تعالى للذین صرفوا العبادة لغیره، مع أنَّھم یعلمون أنه خالقھم ورازقھم: “فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون“، قال ابن عباس: “تشركوا بالله غیرَه من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا ربَّ لكم یرزقكم غیرُه، وقد علمتم أن الذي یدعوكم إليه الرسول من توحیده ھو الحق الذي لا شك فيه”.
وقال قتادة: “أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السموات والأرض، ثم تجعلون له أندادا”.
إن النعمةَ على أمة الإسلام عظیمةٌ بھدایتھم إلى توحید الله في ربوبیته وألوھیته وأسمائه وصفاته، والنعمةُ علیھم عظیمة بتوفیقھم إلى الإھلال بتوحید الله بعد أن كان غیرُھم یھلُّ بالشرك والتندید، فله الحمدُ سبحانه على توفیقه وإنعامه وھدایته حمداً كثیراً طیّباً مباركاً فيه كما یحب ربنا الكریمُ ویرضى.