«أسباب النزول» ومحاولة استغلافية علمانية فاشلة جديدة!
ذ. طارق الحمودي
هوية بريس – الثلاثاء 23 شتنبر 2014
درج بنو علمان على مراجعة تموضعاتهم الفكرية دائما في محاولة هدم البناء التراثي الإسلامي، فبعد أن كانوا يصدرون عن كانط وليبنز وسبينوتزا ولوك وفيكو ثم دريدا وغيرهم، منهم أو ممن جاء بعدهم من بني فكرتهم، وبعد أن وجدوا أنفسهم مكشوفي الموارد والمقاصد.. عرجوا إلى النبش والحفر (الأركيولوجي) -كما يسميه بعضهم- في التراث عقيدة وأصولا لاستنبات شوكهم واستغلاف فكرهم ومشروعهم لستر عيوبه وتشوهاته.
وكان من نبشهم أن بحثوا عما يمكن أن يكون غلافا لدعوى بشرية القرآن أو كونه خاصا بزمان ومكان، فوقع نظر بعضهم على مبحث (أسباب النزول)… فاندفعوا وحدانا وزرافات يتزاحمون على الاكتشاف الجديد أيهم أحسن عملا؛ في إلباس مشاريعهم الهدمية أكنة التراث وقواعد العلوم الشرعية…!
قالوا: أسباب النزول دليل على أن القرآن تاريخي؛ وأنه بشري؛ وأنه صالح لذلك الزمان والمكان فقط؛ وأن تفسير العلماء لم يعد صالحا لنا اليوم.. وينبغي إعادة قراءة القرآن بنفَس علماني نتجاوز فيه ما أصله العلماء الربانيون، ونضع فقها حداثيا جديدا يبيح لنا الرقص مع العشيقة… وشرب الخمر مع الصديقة… ومنع الأضحية والعقيقة… بل وإعادة النظر في الله تعالى نفسه كما لوح بذلك بعضهم.
مشكلة هؤلاء سطحيتهم المصطلحية… فهم عندما قرؤوا لافتة: (أسباب النزول)، قالوا إذن لا تتعدى الآية المسببة سببها… أوريكا!!!
لم يكن هؤلاء منصفين -وهم يستعملون مصطلحا وضعه أولئك العلماء- حينما لم يفهموه كما فهمه واضعوه…[حشوما]!
لم يقصد علماؤنا من أسباب النزول أن يستدل على أن حكم الآية النازلة على سبب لا يتجاوزه؛ بل أرادوا منها بيان زمان ومكان والمناسبة المصلحية للنزول، وبمعنى آخر ظروف النزول للاستعانة به على فهم الحكم العام.
ودليل هذا أشياء:
– تعدد أسباب نزول الآية الواحدة…مع تباعدها زمنيا…
– أن تلك الآيات تنزل بألفاظ عامة لا خاصة… وفعل الله منزه عن العبث.
وهذا يعني أن العبرة بعموم الألفاظ المنزلة لا بخصوص ظروفها، ودليل هذا من السنة في الصحيحين في قصة من قبل امرأة أجنبية عنه.. فأنزل الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114). فقال النبي صلى الله عليه وسلم له حينما سأله المقبل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: (لجميع أمتي كلهم)(1).
قال الشنقيطي في أضواء البيان: (فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ألي هذه؟ ومعنى ذلك، هل النص خاص بي لأني سبب وروده أو هو على عموم لفظه؟ وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم له: [لجميع أمتي] معناه أن العبرة بعموم لفظ [ِإنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]،لا بخصوص السبب والعلم عند الله تعالى)(2).
أضف إلى هذا أن القرآن وأسبابه كل ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق الله للسماوات والأرض… فلا تاريخية ولا هم يحزنون.
حاول بعض بني علمان التشغيب على هذه القاعدة بما يحسنونه، ومنهم بعض الشباب التونسيين المتفرنسين في كتاب مطبوع إيراد الشبهات المشوشة، لكنها عند بادي الرأي يبدو هزالها تحت جلدها بسبب ضعف معلوماتهم البيانية واللغوية العربية، وقد رد عليهم ثلة من المتمكنين، فجعلوهم سخرية في محافل العقلانية العلمية، وجملة الرد أن الخروج عن هذه القاعدة لا يكون إلا بدليل صارف، حديثي أو لغوي بياني، بتقييد مطلق أو تخصيص لعموم..
وبسبب جهل هؤلاء الحداثيين بأدوات القراءة التراثية العربية الإسلامية أتوا بالعجائب مما يضحك الثكلى التي فجعت في كل أولادها العشرة يوم الخميس بعد موت زوجها يوم الأربعاء…!!!
وبهذا تتسق الضوابط في عقد منظوم جميل يزين جيد الشريعة الإسلامية، ويثير حسد بني علمان، ويرفع ضغط الدم في عروقهم، فيمزقون لذلك ثيابهم.
الموضوع طويل.. وتنقصه التفاصيل والتوسع اللائق به… لكن يكفيني هذا الطبق المُقَبِّل… ولي وقفة مع مفهوم (النسخ) إن شاء الله… فقد حاولوا أيضا استثماره في مشروعهم (المسخ) المشوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- البخاري (503) ومسلم (2763) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
2- (2/ص360) دار الفكر للطباعة.