د. بن حمزة: موقف الرفض المبدئي لتعديد الزوجات؛ جذوره وسياقاته التاريخية
د. مصطفى بن حمزة
هوية بريس – الجمعة 26 شتنبر 2014
إن قراءة عادية في مسار التعديد تفيد أنه مُعرِق وقديم في تاريخ البشرية، وهو الذي أسهم في تصميم وصياغة حركة التاريخ في جزء منها، فتاريخ الشرق في جزء كبير منه هو تاريخ فرعين من نسل إبراهيم عليه السلام، من زوجين وهما: فرعا إسحاق من سارة، وإسماعيل من هاجر، ولكل منهما أمة كبيرة، وشعب ممتد على رقعة الشرق خصوصا، ولا زال تاريخ العرب وبني إسرائيل إلى الآن فاعلا ومؤثرا.
والأكيد أن منع تعديد الزوجات في بعض الأديان قد طرأ عليها لأسباب عقدية وفكرية ليست بالتأكيد هي رعاية مصلحة المرأة أو الأسرة كما سأبينه.
وبالإمكان رصد عدة مصادر لثقافة الرفض المطلق لتعديد الزوجات أقتصر منها على ثلاثة.
أولها: الموقف الكنسي من تعديد الزوجات.
ثانيها: موقف المادية التاريخية من تعديد الزوجات.
ثالثها: المعطى الاقتصادي.
أولا: الموقف الكنسي من تعديد الزوجات.
إن المعروف عن الكنيسة القديمة أنها لا تتحمس كثيرا للزواج، ولا تبيحه لكثير من طبقات رجال الدين ونسائه، لأنها ترى أن عليهم أن يتجنبوا ممارسة الجنس الذي يمنع من دخول ملكوت الله.
وقد أشاعت الكنيسة أن عيسى عليه السلام قد عاش صرورة أي عزبا لم يتزوج، ولا زال هذا التصور هو الشائع لدى أكثر المسيحيين، وهو تصور نشا بعد بروز عقيدة بنوة عيسى للإله، واعتقاد امتزاج اللاهوت بالناسوت فيه امتزاجا لا تمايز فيه كامتزاج الماء بالخمر، أو مع تمايز كامتزاج الزيت بالماء.
لكن هذا الرأي على شيوعه وانتشاره بين المسيحيين ليس هو الرأي الوحيد، إذ يوجد مسيحيون وإن كانوا قلة يرون أن عيسى عليه السلام قد تزوج بمريم المَجدلية، وأن نسله منها هو صوفيا.
وقد تحدث دان براون في روايته شيفرة دافنشي عن هذا الاعتقاد وأقره، وكان ذلك مثار انتقاد شديد من قبل المسيحيين. [شيفرة دافنشي (ص:278/285].
وإذا كنا لا نستطيع أن نؤكد ما ذهب إليه دان براون أو ننفيه، فإن الأكيد بحسب المعايير الإسلامية أن العزوبة ليست فضيلة لأحد، كما أن الزواج ليس منقصة من أحد، والأصل في الرسل وهم موضع القدوة أنهم يحيون حياة كل البشر، فيتزوجون وينجبون ليصح بهم تمام الاقتداء، يقول الله تعالى :”ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية” [الرعد:39]. لكن إصرار الكنيسة على القول بعدم زواج عيسى عليه السلام، كان الباعث الأكبر عليه هو اعتقادها بنوته للإله، فلم يصلح أن تكون له وهو ابن الإله زوجة من البشر، وهذا يناقض بداهة ما يقولونه عن الله ذاته حينما ينسُبون إليه الزوجة والولد معا.
وبما أن بعض الكنائس غير الشرقية لا زالت تمنع بعض طبقات رجال الدين من الزواج، فإن من الطبيعي أنها إذا أباحته للناس، فإنما تبيحه لهم في حده الأدنى الذي هو الزواج بواحدة لا أكثر، على قاعدة ارتكاب أخف الأضرار.
لكن البحث المتأني في نصوص الإنجيل يفيد بأن عيسى عليه السلام نفسه لم يقف أبدا موقف الرفض من تعديد الزوجات، بل إنه على العكس من ذلك استدل به وساقه مثلا لما أراد أن يدعو إليه الناس من وجوب المبادرة والمسارعة إلى متطلبات الإيمان، فقد جاء في إنجيل متى أن عيسى تحدث عن قصة عشرة من النساء أتين في ليلة موعدا ليتزوج بهن رجل واحد دفعة واحدة، وكان منهن خمس عاقلات اصطحبن معهن زيتا للاستضاءة به، وكان منهن خمس أخريات جاهلات لم يصطحبن زيتا، فلما جاء العروس ودعاهن لمصاحبته، طلبت الجاهلات من العاقلات إعارتهن زيتا فرفضن، وذهبن في طلب الزيت، فلما عدن وجدن الباب قد أغلق دونهن. [إنجيل متى الفصل:25 الفقرات من 1 إلى 13].
ومن خلال هذا يتبن أن عيسى لم يكن يرفض التعديد أو يمنعه، وإلا لما ساقه مثلا في قصة عشر نسوة يتزوجهن رجل واحد. وهو عدد يفوق كثيرا عدد ما أباحه الإسلام للرجل.
إن الثابت تاريخيا هو أن التعديد قد استمر لدى المسيحيين إلى أن اعتقدوا بنوة المسيح للإله، ثم تأثرت حياتهم بالتقاليد اليونانية والرومانية خلال القرون الوسطى، وكانت تلك التقاليد تعتمد وحدة الزوجة، لكن بعض المسيحيين احتج بالنص السابق الوارد في إنجيل متى على جواز تعديد الزوجات، فشاع التعديد بين المسيحيين في بلاد العرب، وبين مسيحيي إفريقيا ومسيحيي بعض مناطق أوروبا الشرقية قديما، وظلت فرقة الأنابتست إلى منتصف القرن السادس عشر تناضل من أجل تعديد الزوجات، ولا زالت طائفة المرمون التي يوجد في أمريكا منها حاليا أكثر من 7 ملايين فرد تومن بالتعديد، وإن كانت الطائفة قد اضطرت إلى إخفاء معتقدها من أجل التمكن من الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها لا زالت تعتقد إباحته، وتراه نظاما إلهيا، وقد قيل إن انتماء المرشح الرآسي ميت رومني إلى طائفة المرمون كان سببا قويا في تراجع حظوظه في الفوز برآسة الولايات المتحدة الأمريكية أمام منافسه باراك أوباما.
تعديد الزوجات في الثقافة الغربية الحديثة
حينما انحسر سلطان الكنيسة عن المجتمعات الغربية، لم يكن ذلك قطيعة نهائية بين المجتمعات المدنية والدين كما يظن، وإنما كان تقسيما للأدوار وللمهمات بين المجتمع ومؤسسة الكنيسة، وقد كان من المخلفات التي ورثتها المجتمعات المدنية الغربية عن الكنيسة منعها لتعديد الزوجات، وهي رؤية منبثقة عن تصورات عقدية أفرزت موقفا خاصا من مؤسسة الزواج، وقد تعزز هذا الموقف بتأثير التقاليد اليونانية والرومانية في المسيحية في القرون الوسطى على الكاثوليكية خصوصا.
وقد أقرت المجتمعات الغربية الحديثة موقف الكنيسة من التعديد واستصحبته، ولم تر أن هناك ما يدعو إلى تغييره، وإن كانت هذه المجتمعات قد ظلت تعمل في اتجاه آخر يسعى إلى رفع يد الكنيسة نهائيا عن مؤسسة الزواج، وجعل الزواج عقدا مدنيا يقع داخل مؤسسات الدولة المدنية كباقي العقود، لكن هذا لم يتحقق إلى الآن بكيفية مطلقة، إذ لا زال الزواج الكنسي يجد أعدادا كبيرة من المسيحيين تقبل عليه، كما شخصه حديثا زواج الأمير ويليام دوق إدنبره داخل أروقة الكنيسة.
وحين بسط الغرب سلطته على الشرق، فإنه عمل جاهدا على تسويق الأنموذج الغربي للأسرة، وكان من أبرز سمات وملامح هذا الأنموذج منع تعديد الزواج الموروث عن رؤية الكنيسة وبكل صرامة.
ومع اعتقاد الغرب وجوب اقتصار الزوج على زوجة واحدة، فقد كان منتظرا أن يكون وفيا للمبدأ فتكون العلاقة بين الرجل والمرأة فعلا علاقة ثنائية في إطار عقد الزواج، لكن ذلك ليس هو الواقع، لأن المجتمعات الغربية منعت تعديد الزوجات قانونيا لداع هو عقدي في أصله، لكنها باركت تعديدا عمليا من نوع آخر، فلم تر بأسا بأن يقيم الرجل علاقات جنسية أخرى موازية مع عشرات النساء إن شاء، شريطة أن لا يكون الالتقاء في نطاق عقد حتى لا يخرج عن منطق الكنيسة. بل إن الدولة المدنية نفسها أصبحت حامية للعلاقات الجنسية الجانبية التي يقيمها الرجال خارج نطاق العقد، وأصبحت أوكار النساء المشتغلات جنسيا تحظى بعناية الدولة التي تفرض على أنشطتها ضرائب تشكل رافدا لميزانياتها، وقد نشرت جريدة “المساء” ليوم السبت 19-4-2014، مقالا أبرزت فيه أن السلطات الاستعمارية الفرنسية قد عملت على نشر دور الدعارة بالمغرب، ولم تكن هذه الدور خاصة بغير المتزوجين. ومع انتشار وسائل التواصل، وجدت قنوات إعلامية ومواقع كثيرة تستدعي الرجال إلى ممارسة الجنس مع النساء. وإذا تأكد أن هذا كثيرا ما يقع على حساب وحدة الزوجة وثنائية العلاقة، فإنه لا يمكن توجيهه إلا بكونه تناقضا صارخا ونفاقا ظاهرا.
لقد بدأ أمر الدعاية إلى أنموذج الأسرة الأوروبية بشكل رسمي على أرض الشرق الإسلامي فور احتلال نابليون لأرض مصر، وكان تسويق أنموذج الأسرة الأوربية ونوعية علاقة الرجل بالمرأة جزءا من مشروعه الثقافي، لأن حملة نابليون كانت أكبر من مجرد حملة عسكرية، فكانت بالأساس حملة ثقافية، فكان من عدتها المطبعة والكتاب، وكانت تتكون من 36.000 جندي محمولين على 400 سفينة بمعيتهم 153 عالما ومهندسا وعاملا في مجالات علم الاجتماع والجغرافيا ورسم الخرائط والاكتشاف الجغرافي.
وخلال هذه الحملة تأسس المجمع العلمي المصري بمبادرة من نابليون، ليكون صورة عن المجمع العلمي الفرنسي، وكان من مكتشفات هذه الحملة حجر رشيد الذي اكتشفه الضابط الفرنسي بوشار سنة 1799، وكان قد نُقش عام 196ق.م، وعلى نحو ما اهتم نابليون بالجوانب الجغرافية والتاريخية لمصر. فقد اهتم بالخصوص بالنظم الاجتماعية الشرقية. وأنجز الفرنسيون بين سنة 1809 و1828 موسوعة في وصف مصر تقع في 20 مجلدا، فصور الرسامون المواقع، وتحدث آخرون عن النظم الاجتماعية والعادات والتقاليد، وبحثوا خصوصا نظام الأسرة المسلمة، وينبئ عن قصد نابليون إلى الترويج لأنموذج الأسرة الغربية، أنه عهد بهذه المهمة إلى الجنرال جاك منو الذي خلف الجنرال كليبر على حكم مصر بعد مقتله، وقد ادعى منو أنه أسلم وتسمى باسم عبد الله منو، وتزوج امرأة من رشيد اسمها زبيدة. [عجائب الآثار في التراجم والأخبار عبد الرحمن الجبرتي (3/295)].
وقد كان الجنرال منو يخرج بزوجته إلى الأماكن العامة، ويبدي لها الكثير من مظاهر الاحترام، فيتناول المنديل إن سقط عن ركبتيها وهي تتناول طعامها معه في أحد المطاعم العامة، مما جعل البعض يرى أن تعامل الغربيين مع النساء فيه تكريم لهن.
وقد أعقب هذه المرحلة مرحلة أخرى تولت فيها بعض النساء الغربيات الكتابة عن نساء مصر، فكتبت الفرنسية زوجة حسين رشدي باشا كتابين هما حريم ومسلمات مصر وكتاب المطلقات، ولأن هذه المرأة كانت نصرانية متعصبة فقد هاجمت الإسلام لسماحه بتعديد الزوجات.
ويستلفت النظر أنه خلال مرحلتي الاحتلال الفرنسي والإنجليزي لمصر كتب الكثير مما يوحي بالحنو على المرأة الشرقية وبالدفاع عن مصالحها في الوقت الذي كانت الجيوش الفرنسية فيه تقصف الأزهر وتلقي ببعض الوطنيين من أعلى الأسوار، وفي الوقت الذي نفذ فيه الإنجليز مذابح عديدة منها مذبحة دانشواي، فكان الحنو على المرأة دون الرجل أمرا غير منسجم مع طبيعة الادعاء.
سلوك نابليون عينة لعلاقة الرجل بالمرأة
لما كان نابليون هو رائد الدعوة إلى إحلال أنموذج الأسرة الغربية مكان الأسرة المسلمة، وكانت مناهضته لتعديد الزوجات جارية على أصل المسيحيين والأوربيين في منع تعديد الزوجات، فإنه يصلح تقديم سلوك نابليون في مظهره العملي مع المرأة عينة عملية تستبين منها نوعية علاقة الرجل بالمرأة التي كان نابليون يبشر بها ويدعو إليها، وهي علاقة يتبين من خلال تتبعها ورصد أمثلتها أن هناك بونا شاسعا بين التنظير والتطبيق، وأن المرأة كان لها في حياة الرجل وجودان، وجود قانوني معلن لا يبيح الاقتران إلا بامرأة واحدة فقط، ووجود آخر جانبي يرتبط فيه الرجل بالنساء بلا عد ولا حصر، وبلا قيد ولا شرط، وينجب منهن إن شاء، وهو مع ذلك لا يرى ذلك زواجا معددا، ولا يكف عن نعت تعديد الزوجات بأقبح النعوت، ويراه إهانة للمرأة وإهدارا لكرامتها.
لقد ارتبط نابليون في بداية حياته الأولى بعدة نساء منهن: كارولين كولومبيا، وامرأة من كورسيكا، ومدام برمون ومونتانيسه التي كانت في عمر أمه.
وفي سنة 1798 تزوج بجوزيفين بعد أن أظهر تعلقه الشديد بها، وكتب إليها عددا هائلا من الرسائل العاطفية التي عبر لها فيها عن حرارة مشاعره، حتى استمالها من عشيقها القائد جون بول مارا قائد الثورة، ولما انتقل نابليون إلى مصر ترك جوزيفين بباريز وارتبط بعلاقة غير قانونية ببولين فوريس وهي زوجة أحد ضباطه، وأبعده إلى الإسكندرية، وقد أصبحت هذه المرأة تدعى كليوباترا الشرق، وخلال هذه الفترة كانت جوزيفين هي الأخرى تعاشر رجالا آخرين. وبعد عودة نابليون إلى باريز ارتبط بالكونتيسة البولندية ماري فاليسكا، فأنجبت له ولدا غير شرعي، ثم ارتبط بالأميرة النمساوية ماري لويز التي تزوجها لاحقا وولدت له ولدا، ثم ارتبط بملكة السويد ديزيرا كلاريا، وكانت من قبل مرتبطة بأخيه، وارتبط بالممثلة جورجينا التي كانت تعرف بمدوموايزل جورج، وبعد انكشاف علاقتهما دعاها إلى أن تتزوج أحد ضباطه فرفضت، وقالت إني وإن كنت ممثلة أؤدي أدوارا كثيرة، فإني لا أقبل أن أؤدي هذا الدور القذر، وبعدها ارتبط بفوداي وصيفة زوجته جوزيفين، لكنه تركها بسبب إدمانها القمار وكثرة مطالبها المالية، وهؤلاء هن فقط بعض الشهيرات من نساء نابليون، ومع كثرتهن فإنه ظل متلهفا للمزيد من النساء، وكان يتحسر على عدم تمكنه من ربط علاقات أخرى مع عدد أكبر منهن، وكان يقول لو أني تفرغت للحب مثلما تفرغت للحرب، ما تركت زوجة في أحضان رجل. ومع هذا فإن التعديد في رأي هذا الرجل يظل شيئا مقيتا ومهينا للمرأة.
لقد وقفت عن قصد عند سيرة نابليون، لكونه عينة عمن اهتم من السياسيين الغربيين بالحياة الأسرية للمسلمين، وأظن أن هذه النبذة المركزة قد أعطت فكرة عن العبث الكبير بقضية المرأة، كما أنها قد أتاحت فرصة للمقارنة بين التعديد الذي تبيحه وتضبطه الشريعة، والتسيب الذي يجعل المرأة متعة وملهاة بيد الرجل، وإذا أنا وقفت عند سيرة نابليون للأسباب السابقة، فلأنه يمثل أيضا طليعة وقدوة مبكرة لكثير من الرجال أصحاب القرار من الغربيين الذين جاؤوا بعده وكانوا على شاكلته يلعنون التعديد ويحاسبون الآخرين عليه، ويمارسون في الوقت ذاته عبثا كبيرا بالمرأة.
وقد حفلت صفحات الجرائد والمواقع الإعلامية بالكثير من أخبار الساسة الغربيين الذين كانت لهم علاقات غير قانونية ولا معلنة مع نساء أخريات غير أزواجهم اللواتي قد يكون زواجهن هن أيضا غير موثق، وقد يستكثر الرجل من النساء اللواتي يلهو ويستمتع بهن، فيبلغ عدد هؤلاء رقما لا يكاد يصدق هو 150 امرأة من العشيقات بالنسبة لزعيم سياسي معروف، وقد دافع أحد السياسيين عن موقفه بأن استحدث مصطلح امرأة الظل قياسا على حكومة الظل، وهي امرأة غير معلنة تقبع في ظل الرجل، وفي الحديقة الخلفية لحياته، ولما حاصرت الأسئلة أحدهم قال: إن هذه حياتي الخاصة التي لا أسمح لأحد بأن يتدخل فيها.
لكن هذه السياسي لم يكن يرى أن تعديد الرجل المسلم للزوجة هو جزء من حياته المعلنة والموصولة بثقافته والتي لا يجوز أن يتدخل فيها الأغيار.
من خلال ما سبق إيراده يتبين أن المرأة غير المسلمة، قد تعيش أسوأ صور التعديد حينما تستسلم وترضى بأن يخفي الرجل وجودها، ويفرض عليها أن تعيش قابعة في ظله، وأن تتحرك حصريا في مجال يحدده لها هو الحديقة الخلفية لحياته، وذلك حتى لا يواخذ قانونيا واجتماعيا بوجودها في حياته، ومن ثم لا يكون لها الحق في الظهور في حياته أو في الانتساب إليه علنا عن طريق وجودها في أسرته، ولا تكون لها وثيقة رسمية تثبت وجودها ووجود أبنائها، فتمنحهم عنوانا أو نسبا صريحا يعتزون به، ومن ثم لا يكون هنالك فرق واضح وجلي بين امرأة يعيش معها الرجل وينجب منها خارج العقد، وبين امرأة أخرى يسميها المجتمع مومسا أو بغيا.
وهذا وضع لا يرتضيه الإسلام للمرأة، لأنه لا يسمح للرجل بأن ينشئ علاقة جنسية مع أي امرأة أو يقترن بها إلا من خلال عقد شرعي معلن يضمن حقوقها، ويعطيها صفة الزوجة ذات الحقوق المحددة شرعا، وآخرها اشتراكها مع زوجة أخرى في الإرث في حال تعديد الزوج، ولأن الإسلام دين الوضوح والصدق، فقد منع زواج السر والاستكتام، وقال الفقهاء: لو أن رجلا تزوج امرأة واشهد على ذلك مائة شخص واستكتمهم وأوصاهم بألا ينشروا خبر زواجه، فإن ذلك الزواج يكون زواج سر يجب فسخه (الاستذكار لابن عبد البر (16/210)).
ومن أجل الحرص على تثبيت وترسيم وجود المرأة في حياة الرجل ومنعه من التملص منها ومن إنكار حقوقها، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى إعلان الزواج وإلى الضرب عليه بالدفوف، واعتبر الفقه الإشهاد على الزواج شرط كمال في العقد، وشرط صحة في الدخول، وكل هذا حتى لا تقبع المرأة مستترة متخفية في ظل رجل يخفيها كما يخفي الأشياء التي تمثل له معرة ومنقصة اجتماعية.
إن من الغريب حقا أن يناهض الغربيون تعديد الزوجات، ويجعلوا تلك المناهضة عنوانا للدفاع عن حقوق المرأة وحفظ كرامتها، في الوقت الذي يمارسونه فيه على أوسع نطاق فيكون للرجل أكثر من بيت، وله في كل واحد منها أبناء وذرية، وهو يعيش في تلك البيوت حياة الأزواج، وهو مع ذلك يرفض أن يوثق تلك العلاقة التي يعيشها فعليا أو يسميها زواجا، لكنه يعيب على الذين يعددون تعديدا شرعيا معلنا وموثقا، ولا يفرضون على المرأة حالة التخفي والتستر إرضاء لرغبة الزوج وإبقاء على مكانته الاجتماعية ومسايرة لنفاقه وكذبه على المجتمع، وحينما يكشف الخصوم السياسيون ووسائل الإعلام في أزمنة السباق الانتخابي غالبا، أن للرجل الغربي أسرة أخرى كانت في الظل، فإنه قد يعتبر الأمر عاديا جدا فيعلن عنها بكل براءة ويعترف بها، ولا يرى فيما سبق فعلا مسيئا إلى المرأة، كما أن القانون لا يواخذه بما فعل ما دام لم يعقد عليها، وهذا وضع شاذ ومسيء للمرأة ومبرر للاستمرار في النفاق الاجتماعي وفي الكذب على المرأة.
وقد عصفت المجتمعات الغربية بمبدإ وحدة الزوجة نهائيا لما أقرت المعاشرة أو المساكنة الحرة بين الرجل والمرأة، فألغت العقد الذي كان هو السند الذي يعرف به عدد النساء في حياة الرجل، فإن وجدت كثيرات لم تعتبر واحدة منهن هي الزوجة التي لا يمكن التعديد عليها.
إن ما يتميز به الإسلام هو أنه لما حدد للرجل عدد النساء اللواتي يمكنه أن يتزوج بهن، جعل علاقته الجانبية بغيرهن بعد ذلك علاقة غير شرعية واعتبرها ذنبا كبيرا، ورتب عليها عقوبة صارمة. ليس لأن الرجل وقع في الزنا فقط، لأن حد زنا غير المحصن هو أقل من حد الزاني المحصن بكثير، وإنما غلظ الإسلام العقوبة على الزاني المحصن دفاعا عن المرأة الموجودة وجودا شرعيا في حياته، وعقابا له على جريمة الخيانة، لأن الخيانة لا مبرر لها ولا عذر له فيها. ومن ثم لا يصح الحديث عن التعديد في أي مجتمع إلا بعد الحسم النهائي مع العلاقات غير الشرعية، وترتيب العقوبات الصارمة عليها.
ولذلك فإنه يتعين على من يطالب حاليا بمنع تعديد الزوجات نهائيا أن يمتلك الإرادة الجادة فيرتقي إلى ما ارتقى إليه الإسلام في حماية الزوجة، فيضم إلى تلك المطالبة مطالبة أخرى بسن عقوبة صارمة وقوية تزجر الرجل عن العبث بالعلاقة الأسرية وعن الارتباط بامرأة أخرى خارج العقد، وبذلك يبدو الداعي على الأقل جادا في الدعوة إلى حماية وحدة الزوجة وصادقا مع نفسه فيما يدعو إليه.
وإذا قيل إنه ليس من ضرورات الاقتصار على الزوجة الواحدة أن يكون للزوج نساء أخريات يعاشرهن خارج نطاق العقد، فإنه يقال إن هذا يصح مع رجال يعرفون معنى الوفاء للمرأة الواحدة. لكن هذا لا يمنع من أن تحدد للعلاقات الخارجة عن العقد عقوبات قوية رادعة ما دام مؤكدا أن هذه العلاقات الجانبية لا تقع بالتأكيد.
ثانيا: موقف المادية التاريخية من تعديد الزوجات
من الروافد التي تسرب منها إلى الساحة الفكرية وإلى السلوك الاجتماعي ذلك الرفض الصارم لتعديد الزوجات، مصدر جديد هو تيار المادية التاريخية الذي كان له موقف مركزي من مؤسسة الزواج أصلا، ومن تعديد الزوجات بالتبع من باب الأولى.
ومبعث هذا الموقف أن البناء الفكري للمادية التاريخية يقوم على اعتقاد أن الإنسان قد عاش في أول وجوده مشاعة مطلقة في الملك وفي العلاقات الجنسية، فكما كان بإمكان الرجل أو المرأة أن يتناول كل منهما ما هو موجود من غير أن يدعي تملكه، كانت المرأة كذلك مبذولة للرجل لا يربطها به عقد زواج أو أي عقد آخر يعني الاستئثار بها ووضع اليد عليها، ولكن الخلل دب إلى الحياة الاجتماعية حينما برزت نزعة الامتلاك، ففكر الرجل في اتخاذ الزوجة، وفي تكوين الأسرة وفي اتخاذ الأبناء ليفوت إليهم ما امتلكه.
لقد عبر عن هذه الفكرة وبشكل موسع فريديرك إنجلز في كتابه أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، واعتمد على الخصوص بحثا أنتروبولجيا أعده مورغان عن عشيرة الإيركوا من عشائر الهنود في أمريكا الشمالية، وقد اشتغل عليها مورغان لنحو 40 سنة لما اعتبرها عينة للجماعة البدائية، فلاحظ أن أفرادها يمتنعون عن الزواج من داخلها، وأن ممتلكاتهم تؤول إلى العشيرة لا إلى الأشخاص. [“أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة” فريدرك أنجلز، الفصل الخامس، ترجمة إلياس شاهين].
بسبب هذا الاقتناع سعت بعض النظم الماركسية في أوج قوتها إلى تفكيك الأسرة وإلى إلحاق الأطفال بالدولة، وموقفها هذا يكشف بالضرورة عن موقف آخر مبدئي أشد تأكيدا هو موقفها من تعديد الزوجات، الذي لا بد أن يكون مرفوضا وبشكل أقوى وأكثر صرامة وحدة بعد رفض مؤسسة الأسرة من حيث الأصل.
ودون أن أستطرد فإني أضع هذا التصور الذي يرى أنه يستبق التاريخ ويعلم ما لا يعلمه التاريخ نفسه، ويؤسس حقائقه على فرضيات واحتمالات في مواجهة صورة أخرى مغايرة عن المرأة في علاقتها بالرجل يعرضها القرآن الكريم، وهي صورة المرأة المكرمة التي هي زوج للرجل الأول منذ أن وجدت معه أول ما وجد، يقول الله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) [الأعراف:189]، ووصف الله تعالى العلاقة بينهما بوصف الزوجية، وخاطب آدم على أساس هذه العلاقة الشرعية فقال: “اسكن أنت وزوجك الجنة ” [الأعراف:18]، وبهذا تمَّحي الصورة التي قدمتها المادية التاريخية عن المرأة حين صورتها جسدا سائبا وشهوة مبذولة.
وإذا قيل إن هذا ليس إلا جوابا دينيا لا يستند إلا إلى مصدر ديني لا يمكن اعتماده مصدرا للمعرفة، فإنه يقال: ومتى كانت الفرضية نفسها حقيقة علمية حتى يستمر التمسك بها وبكل هذه القوة، ويتواصل الدفاع عنها وبكل هذه الاستماتة، مع أنها ليست إلا فرضية قد تمهد لبناء المعرفة، ولكن بعد أن تتلوها خطوات منهجية لاحقة من اختبار واستنتاج، لكنها وهي مجرد فرضية لا يمكن أن تسمى حقيقة علمية؟.
وبعد الإيمان بهذه الرؤية المادية لمؤسسة الزواج في شكلها الفردي، نشرت كتابات عديدة لم يضف أصحابها كثيرا إلى موقف الماركسية الأول من مؤسسة الزواج، وإنما كانوا شراحا لها ومطبقين لمضامينها على حالات البلاد الإسلامية، ويمكن الرجوع إلى ما كتبته نوال السعداوي في كتبها وبالأخص في كتابها (“المرأة والجنس”، ص:154).وما كتبته فاطمة المرنيسي خصوصا في كتابها (“السلوك الجنسي في مجتمع إسلامي رأسمالي تبعي” ص:74). وقد عابت ما رأت أنه تناقض يقع فيه المجتمع الإسلامي حينما يسمح للرجل بالتعديد ولا يسمح به للنساء، وكأنها تتعالى على واقع فزيولوجي ظاهر يتمثل في أن رحم المرأة هو وعاء للنطفة ومحضن للنسل، وأن تعديد المرأة للرجال يهدم أصل صفاء السلالة، ويعفي الرجل بالتالي من مسؤولية الأبناء في هذه الحالة، لأن أي رجل يمكنه حينئذ أن يتملص من مسؤولية الأبناء، ويدعي أن هذا الولد لغيره، وأن غيره من الرجال هو أولى بأن يتحمل مسؤوليته ما دامت المرأة قد بذلت نفسها لرجال كثيرين، فتكون الخسارة الكبرى على الأطفال الذين يتنادى الجميع إلى حماية حقوقهم، وحقهم الأكبر هو حفظ هويتهم وعنوانهم الاجتماعي، ويكون الخاسر الثاني هو المرأة التي ستتحمل وحدها تبعة قضاء الرجل لرغبته الجنسية وانسلاله من تبعاتها.
ولهذا السبب اعتبر الإسلام المحافظة على النسل كلية من كلياته الخمس ومقوما من مقومات إنسانية الإنسان، ليس لأنها قضية تاريخية تتيح للأبناء معرفة أصولهم فقط، وإنما لسبب آخر أقوى وأهم هو أن الرجل إذا استيقن أبوته لطفل، فإنه يبذل كل التضحيات الجسيمة حينما يعلم أن المتناسل منه هو ولده وأنه امتداد لوجوده، وهذا الشعور يحقق التماسك الأسري، ولو سئل أكثر من يتعرضون للآفات وللتضحيات الجسيمة، وللسفر ولتحمل المشاق ولدخول السجون لماذا فعلوا ذلك؟ لقال أكثرهم إنه إنما فعله حماية للأبناء الذين لا يشك في انتسابهم إليه. ولا أريد أن أقول أكثر من هذا، وإنما أقول لا يجوز أن تكون كراهية أحكام الشرع حاملة على تدمير الأسرة، وهي النواة الصلبة للمجتمع بمجازفات غير محسوبة العواقب. ويكفي من هذا أن الواحد ممن ينادون بإهمال الأنساب وإضاعتها لو نفي نسبه إلى أسرته لغضب من ذلك ولم يقبل به.
إن الدعوة إلى أن يكون للمرأة الحق في تعديد الأزواج ليست أمرا جديدا ولا هي فكرة حديثة مبتكرة، بل هي فكرة موغلة في القدم تعود إلى ما كان يعرف قبل الإسلام بزواج الضِّمْد، وصورته أن تتيح المرأة نفسها لعدد من الرجال قد لا يقلون عن العشرة فيتصلون بها جنسيا، فإذا وضعت مولودها اختارت أحدهم، وألحقت به الولد، ولذلك شاع قديما أن ينكر الرجال أبوتهم لأبنائهم، فيحدثوا لهم آلاما نفسية مبرحة، مثلما تصور ذلك قصة عنترة الذي رفض أبوه الاعتراف به إلا بعد أن أصبح فارسا يدافع عن القبيلة، وحينها قال عنترة معلنا عن شفاء جراحه النفسية العميقة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها***قيلُ الفوارس ويك عنتر أَقدِم
وتحدثت موسوعة علم الاجتماع التي أشرف عليها جون سكوت وجوردون مارشال عن ظاهرة تعديد النساء للأزواج في الوقت نفسه، وقد يكون الأزواج إخوة يقترنون بالمرأة الواحدة في الوقت نفسه، وهي ظاهرة لا زالت موجودة عند بعض شعوب آسيا إلى الآن. (موسوعة علم الاجتماع جون سكوت ترجمة أحمد زيد 1/438 المركز القومي للترجمة 2011). وعلى هذا فإن فكرتها قديمة لا تستدعي التبشير بها.
إن خلاصة تتبع نشأة موقف الرفض الصارم للتعديد هي أنه موقف يحتفظ بحبل سُري وبعلاقة كامنة ووثيقة مع أصوله العقدية والفكرية، ولذلك يقع التشدد فيه والتمسك به على نحو ما يقع التمسك المتشدد بالأحكام الدينية.
ثالثا: المعطى الاقتصادي
بعد استعراض المصدرين السابقين اللذين أفرزا وغذيا نزعة رفض التعديد، وكان ذلك الاستعراض مركزا على الجانب الثقافي والفكري الذي قد لا يكون له تأثير مباشر وتواصل فعلي مع الفئات الاجتماعية العادية، فإنه لا بد من الإقرار بأن هنالك أيضا باعثا قد يكون أقوى، وهو الباعث الاقتصادي الذي قلما يتم الإفصاح عنه، لأن الناس يحرصون على مواراته وتصوير موقفهم من تعديد الزوجات على أنه ناشئ عن اقتناع مبدئي بعدم صلاحيته فقط.
ويتلخص هذا المعطى في أن الزوجة قد ترفض التعديد لحسابات خاصة بها، لأنها تعرف أن المرأة التي يتزوج بها الزوج ستكون شريكة لها في الإرث فتقاسمها الربع في حالة عدم وجود أبناء للزوج، أو الثمن في حالة وجودهم، وقد يرى الأبناء هم أيضا الرأي نفسه فيتخوفون أن يولد لأبيهم أبناء يشاطرونهم الإرث، فيقع الضغط من الزوجة والأبناء لئلا يعدد الزوج.
ولهذا السبب فقد وجد من الزوجات والأبناء من لا ينزعجون إذا علموا بأن الأب أو الزوج يتعاطى الفساد، ما دام لا يترتب عنه مشاطرة في الإرث.
ويتبدى الحرص على امتلاك الثروة كلها بعد وفاة الأب، من خلال معرفة أن بعض الأبناء قد يعترض على زواج الأب إذا كان غنيا موسرا بعد وفاة أمهم، بدعوى أن ذلك الزواج هو تنكر لمودة الأم المتوفاة وعدم وفاء لها، ويختلف الأمر جذريا حينما يكون الأب فقيرا معدما، فيكون أبناؤه هم من يسعى إلى تزويجه تخلصا من تكاليف تحمله.
إن هذه الحقيقة تكشف أن منع تعديد الزوجات قد يستكن وراءه جشع وأثرة ورغبة في الاستحواذ على التركات لا غير.
وبعد هذا فإن التوجه إلى إلغاء تعديد الزوجات بتصويره على أنه إهانة للمرأة وبتحريك القانون لمنعه لا بد أن يوضع في إطار السياق الحالي الذي يشهد تناميا في المطالبة بإقرار الحريات الفردية، ويظل السؤال الأكبر كيف تستثنى من هذه الحريات حرية أفراد يختارون طواعية أن يكون الزواج تعديديا مع ما يكون لهم من حاجات وبواعث تلجئ إليه.
تعديد الزوجات الحكمة والمسوغات
إن من يقرأ في القرآن الكريم أن الله يصف نفسه بالحكمة قريبا من مائة مرة لا يسعه إلا أن يكون مطمئنا إلى حكمة الله في الأمر والتشريع، مثلما هو مطمئن إليها في الخلق والتكوين، ومن هنا فإنه لا يسارع إلى نفي الحكمة عن حكم شرعي ثابت، وإنما يسعى إلى تعرفها إن أمكنه ذلك في كل حكم معقول المعنى، أو يفوض إلى الله في كل حكم تعبدي لا يدرك حكمته وسره. وقد تأصل لدى علماء المسلمين أنه ما من حكم شرعي إلا وفيه مصلحة للإنسان، وأن مدار الشرع كله على درء المفاسد وجلب المصالح، وأنه حيثما وجد حكم الله فثم مصلحة الإنسان.
وبخصوص تشريع تعديد الزوجات، فإن الواجب هو النظر إليه باعتبار ما قد يتحقق به من بعض المصالح لبعض الناس، من غير جمود على رفض إطلاقي مسبق يخاف من لم يقل به أن ينعت بإحدى الصفات القدحية الجاهزة سلفا.
وبالإمكان عرض حالات ليست هي كل الحالات التي قد يلجأ فيها الرجل إلى تعديد الزوجات، لأن حاجات الناس المتجددة وأوضاعهم هي أكثر من أن تحصر أو يحاط بها، وهي حالات تتطالب فئة من المجتمع وبكل إلحاح أن يقترح لها رافضو التعديد حلولا أخرى غير التعديد إن أمكنهم ذلك، وأن لا يتعاملوا معها باستعلاء أو تجاهل، لأن ذلك لا يلغيها من واقع الناس بحال، وهي حالات عديدة ليست بالضرورة حالات لجميع الناس، فإذا سلم وعوفي منها البعض، وكانت حياته مستقرة مع زوجته الواحدة، لم يجز له أن يعتبر أن حالته هي الأصل والمثال، فيغلق الأبواب والمنافذ أمام من أصيب بها، مع تأكيد أن العلاقات غير الشرعية لا يجوز أن تكون حلا لإشكالات الأسرة، ولا يصح اعتمادها عمليا في المجتمعات الإسلامية إلا مع التنكر لأحكام الشريعة. وهذه حالات أذكر منها:
– حالة امرأة مرضت مرضا مزمنا أو أصيبت في حادثة سير، فأصبحت إثرها غير قادرة على أداء أي دور لفائدة بيتها وأطفالها، بل أصبحت هي نفسها بحاجة ماسة إلى من يرعاها ويقوم بشؤونها وشؤون أبنائها الصغار، وأصبح الزوج بحكم اشتغاله خارج البيت طوال اليوم عاجزا عن رعايتها، فهل يكون جريمة أن يتفق الزوج مع زوجته المريضة على أن يتزوج أخرى ترضى بأن تدخل هذه الأسرة على ما هي عليه، لأنها هي أيضا تجد في ذلك الزواج مصلحة لها، فتساعد على تخفيف آلامها؟ أم أن هنالك حلا آخر غير أن تعيش هذه المرأة الإهمال، أو يسعى زوجها إلى مفارقتها فيسلمها إلى حالة مأساوية تعيشها إلى نهاية العمر. وهذا أمر لا يكلف الرجل أكثر من أداء توابع الطلاق، وكثيرا ما يلجأ إليه من يفقد الوفاء للمرأة ويعتبر منع التعديد حجة وسببا كافيا للجوء إلى الطلاق، ليستأنف حياة جديدة ويسلم الزوجة الأولى للضياع، وليس يدري أحد لصالح من يكون الإصرار على المنع ومن هو المنتفع منه إذا كانت الأطراف الثلاثة تقبل به وترى فيه مصلحة وحلا مناسبا لمعضلتها؟.
ومن الصور المرضية المعقدة الحقيقية وغير الافتراضية، حالة تصاب فيها المرأة بمرض نفسي ترفض معه الاستمرار في معاشرة الزوج، رغم محاولات قد تبذلها الزوجة نفسها، فإذا قدر الزوج حالة زوجته وقبل بأن يتزوج بأخرى ويحتفظ بالأولى، فأين هو وجه الخطورة في هذه الحال؟ وهل يصح أن يعتبر هذا عملا إجراميا يقترفه الزوج وتقبل به الزوجة المريضة والزوجة الثانية؟ أم أنه يجب الإصرار في جميع الأحوال والظروف على منع التعديد والاستعلاء على هذا الواقع، وترك الناس يعانون آلامهم بمنعهم من إيجاد أي حل يخفف عنهم ما هم فيه؟ أرجو أن نسمع لهذا جوابا غير تلك العبارات الفضفاضة التي تعبر عن عجز كامل عن تبرير موقف الرفض، وتقديمه تقديما مقنعا.
وأطرح على هامش هذا سؤالا عن مصير المرأة ذات الاحتياجات الخاصة التي لا يكف المجتمع عن المناداة بتمكينها من الحياة الكريمة، وهل يصح أن يغلق المجتمع دونها بابا كان بالإمكان أن يحل إشكالاتها لو تطوع به بعض الرجال. وقد وقع بعض هذا وإن لم يكن بأعداد كبيرة.
– ومن الحالات التي يكثر أن يقبل فيها الأزواج على التعديد أن تكون الزوجة عقيما ويثبت طبيا أنها لا تنجب، ويكون للزوج رغبة مشروعة في أن يكون له ولد، فهل يكون جريمة يعاقب عليها القانون أن يتزوج الزوج امرأة أخرى، قد يرزق منها الولد وتسعد الأسرة كلها، وقد تصير الزوجة الأولى بمثابة الأم لأبناء ضرتها، وهذا أمر قد وقع كثيرا. حينما كان التوجيه الاجتماعي يدفع في اتجاهه، بل إن المرأة طالما كانت هي التي تدعو الزوج إلى التعديد وقد تكون هي من يختار له الزوجة الثانية، وذلك خوفا من أن تعيش حالة العزلة بعد وفاته وتتعرض للإهمال، وقد يكون ذلك سعيا منها إلى حماية ثروته بعد وفاته حتى يستمر وضعها المعيشي مستقرا مع أبناء ضرتها. وهذه حالة ليست بالغريبة عن المجتمعات الإسلامية.
– ومن الحالات التي جعلت فيها بعض المجتمعات التعديد تقليدا اجتماعيا معتبرا حالات تقصد بها إلى أداء دور تضامني حماية لأحد مكونات العائلة، فتدفع بأحد الأشقاء إلى الزواج بأرملة أخيه المتوفى ليتأتى له ضم أبناء أخيه إلى أبنائه ورعايتهم والتكفل بهم، وهذه العادة تعرف في المغرب بعادة الرد، وهو سلوك اجتماعي يجد الرجل فيه نفسه مدعوا اجتماعيا إلى التعديد.
ومن الحالات التي طالما اتجهت فيها المجتمعات جماعيا إلى تعديد الزوجات حالات وقوع الاختلال والتفاوت بين نسبة الرجال والنساء بسبب هجرة الشباب أو بسبب الحروب التي تقلل من عدد الرجال، فقد عاشت بعض المجتمعات الإسلامية حروبا طاحنة أتت على العدد الكبير من الشباب، وفقدت الكثير من النساء فرص تكوين أسر لكن التعديد في تلك البلاد صار حلا لبعض الحالات، فقد عرف العراق مثلا حروبا عديدة منها الحرب الإيرانية التي ذهب ضحيتها ما يزيد عن المليون شاب، وأعقبتها حرب أخرى هي حرب الكويت، ثم حرب أخرى هي غزو الولايات المتحدة للعراق، وقد ذهب ضحيتَها كذلك ما يقارب المليون شاب.
فإذا اختارت المجتمعات أن تعالج هذا الاختلال في التوازن بين نسبة الرجال والنساء بالتشجيع على التعديد، فهل يمكن اعتبار هذا المسعى جريمة يجب معاقبتها؟
أرجو أن يقترح الناس حلولا أخرى غير تعديد الزوجات، وأرجو ألا يتم التعامل مع هذه القضايا بالاستخفاف أو بالاستعلاء أو بالصمت المريب.
إن كتاب الله قد تحدث عن أسوأ تعذيب يوقعه الرجال على النساء حينما يقللون من عدد الذكور ويستبقون عدد النساء مرتفعا، وذلك بالضبط ما كان يفعله فرعون ببني إسرائيل، إذ كان يقتل الرجال ويستحيي النساء لا إشفاقا عليهن، وإنما إمعانا في إهانتهن وإذلالهن، حينما يفقدن الزوج والمؤازر.
وقد أصبحت كثير من المواقع حاليا تعج بشكاوى النساء المؤلمة من العنوسة، وأصبح اللجوء إلى الشعوذة وإلى السحر في محاولة يائسة للتمكن من الزواج مظهرا فاشيا، وخرجت نساء أوروبيات إلى الشارع في مظاهرات مطالبات بحقهن الطبيعي في الزواج، وفي بناء أسرة توفر الدفء العاطفي في الحاضر، والأمن والحماية في المستقبل، فكان هذا مدعاة للإصغاء لتشكيات النساء ولاقتراح حلول ممكنة ولتوسيع مساحة الدفاع عن النساء كل النساء، لأن من يدافع عن جزء من النساء هن المتزوجات ليس مدافعا عن جميع النساء.
– ومن الحالات التي يقبل فيها بعض الأزواج على التعديد حالة بعض الأزواج من الجالية المغربية المقيمة بالخارج، حينما تنتهي مدة عملهم، فيحالون على التقاعد وهم في الستينات من أعمارهم، فيواجهون حالة من الفراغ، فيختارون العودة إلى الوطن ليشتغلوا ببعض التجارات الصغيرة، أو بالفلاحة في قراهم، فيدعون الزوجات إلى الالتحاق بهم، لكن غالبية هؤلاء يرفضن العودة إما بسبب ارتباطهن بالعمل، أو لأنهن يجدن سعادتهن في الحياة مع أبنائهن وبناتهن الذين قد تكون لهم هم أيضا بيوت وأسر هناك، وما أصبح يقع في حالات كثيرة هو أن يعمد الأزواج العائدون إلى أرض الوطن إلى الزواج مجددا، ولكن بعقود عرفية لا تثبت أي حق للمرأة، وقد ترى المرأة المتزوج بها في هذا النوع من الزواج غير الموثق خلاصا وإنقاذا لها من الحاجة والفقر، ومن العنوسة أيضا، وتقبل بالزوج آملة أن يمنحها ما تؤمن به مستقبلها وهي تلحظ مصائر كثير من النساء اللواتي تخلى عنهن المجتمع، وأحالهن على دور العجزة إن وجدت.
فإذا كان بإمكان الرجل عمليا أن يتزوج عرفيا، فما الذي يمنع من أن يوثق زواجه فيحفظ للمرأة حقوقها، وتقل بذلك حالات الزواج العرفي غير الموثق؟ وهو زواج غير مقدور على إلغائه عمليا ما دام المجتمع يسالم حالات المعاشرة الحرة التي لا تستند إلى أي عقد لا عرفي ولا موثق.
وإن مما يجب لفت النظر إليه في هذا السياق هو أن حديث البعض عن تناقص حالات تعديد الزوجات وتفسيره على أنه دال على تنامي وعي المجتمع، أو على فاعلية إجراءات المدونة فقط، فيه مبالغة ولا شك، لأن التقويم الصحيح لا يكون سليما إلا مع استحضار عدد حالات الطلاق المتنامية من جهة، وملاحظة توسع حالات العلاقات غير الشرعية من جهة أخرى، فقد أصبح مألوفا أن لا يطلب الزوج التعديد من القضاء، لأنه يعلم طول الإجراءات القضائية وانتهاءها إلى مسطرة الشقاق المفضية إلى التطليق غالبا، فلذلك يلتف على الموضوع منذ الأول ويسابق الزمن، ويتجه مباشرة إلى طلاق المرأة، وقد يفتري عليها أشياء تظهره على أنه كان متضررا من الزواج، وإلى جانب ذلك فإن فشو ظاهرة العلاقات غير الشرعية أصبح يمثل بالنسبة لبعض الأزواج تعويضا عن الزواج ومتطلباته، فيعقدون علاقات غير موثقة، أو غير شرعية أصبحت لها بنية مادية حاضنة، منها: بيوت مفروشة وأوكار معدة للفساد، وحمامات للتدليك تمارس بغاء مقنعا، وقد أنجزت عنها ملفات خاصة انتهت إلى أن نصف روادها هم من المتزوجين.
والمعروف عن هؤلاء المتزوجين الذين يعقدون علاقات جنسية خارج نطاق العقد، أنهم يحاولون استبقاء النساء معهم بإغداق الكثير من المال عليهن وبالتقتير على أسرهم الشرعية، فيكون لذلك انعكاساته وآثاره السيئة على الوضع المالي للأسرة الشرعية وعلى استقرارها إجمالا، وكثيرا ما تنشب خلافات أسرية حينما يهمل الرجال أسرهم ولا يفون بالمتطلبات المالية الواجبة عليهم، لأن إنفاقهم على العلاقات غير الشرعية قد استنفد مواردهم المالية، فينتقل الأمر من الدخول في علاقات غير شرعية إلى هدم بيوت شرعية قائمة فعلا، وإلى تعريض أفرادها للتشرد والضياع.
وحينما يكون الأمر على هذه الصورة، فإن من المغالطة اعتقاد أن التعديد أصبح يتناقص تناقصا حقيقيا. لأن الصحيح هو أن الطلاق والفساد قد حلا محله.
وأخيرا، فإن المنع القسري الإجباري للتعديد بالنسبة لمن تدعو ظروفه وحاجته إليه، سيمثل استبدادا فئويا تمارسه جماعات الضغط التي تنحاز انحيازا صريحا للعلاقات غير الشرعية فتسالمها وتقدم مسوغاتها تحت عناوين متعددة ، بينما تناهض التعديد مع وجود دواعيه، وسترى جماهير الأمة أن ذلك المنع فيه مصادرة لإرادتها، وإرضاء لغيرها، وأنه يمثل مواجهة لنصوص من القرآن والسنة تقدسها الأمة وتحترم أحكامها.
وقد أفرز هذا الوضع في البلاد التي طبق فيها المنع بقوة السلطة حالة من الاحتقان ومن الغلو لا زالت تلك البلاد تعاني آثارها وتداعياتها، خصوصا بعد أن تبين أن بعض من أقروا هذا المنع قد خدعوا شعوبهم ولم يفوا بما أعلنوا عنه، وأصبحت أحاديث علاقاتهم بخليلاتهم جزءا من تاريخهم وسيرهم المروية. وقد نشأت عن هذا الوضع طبقة سياسية خفية من العشيقات تدخلت في تدبير الشأن العام سرا أو جهارا، ابتداء من برلتني فمن بعدها من نظيراتها الكثيرات.
وعلى الإجمال فإن تجريم تعديد الزوجات لا يمكن أن يحقق أي فائدة مجتمعية، لأنه مؤد من جهة إلى إحداث مواجهة صريحة بين النص القرآني والنص القانوني، ولهذه الحالة ظلال قاتمة لا يمكن الاستهانة بها.
كما أن تجريم التعديد يمثل تناقضا صريحا مع مبدأ الحريات، لأن التعديد أصبح يتم بصورة رضائية تعبر عنها الأطراف المعنية به من خلال إجراءات حددتها المواد: 41، 42، 43 ، 44، 45 من مدونة الأسرة.
ومن الآثار غير المحمودة لمنع التعديد أنه يحدث حالة من التوتر الاجتماعي جراء استشعار أن أحكام الشريعة أصبحت مستهدفة. وأن فئة من المجتمع هي التي تحمل الناس على اختياراتها، وأن الأغلبية الصامتة أصبحت تلاحظ انزياحا تتقنه جهات لها خبرة وأدوات في الوصول إلى أهدافها.
ويغني عن هذا كله إن كانت المرأة ترفض التعديد أن تشترط على الزوج أن لا يتزوج عليها قبل إبرام عقد الزواج، ويكون الشرط ملزما للزوج، ولا يسمع منه طلب التعديد كما نصت على ذلك المادة 42 من مدونة الأسرة، وهي تكفي وتغني عن المساس بآيات القرآن وبنصوص السنة.