ملحظ الإقصاء والتكفير عند الأشاعرة سلفا وخلفا
محمد بوقنطار
هوية بريس – الخميس 02 أكتوبر 2014
لن نختلف مع كائن من كان إذا ما اعتبرنا أن المقصد الرباني والشرعي من مشروعي التنزيل والإرسال هو إقامة الحجة على معشر المخاطبين في دائرة التكليف، مراعاة لضابط أن كل نبي مرسل مارس تجليات رسالته بلسان قومه، وربما احتجنا إلى أن نذكر بالاستثناء الذي حظي به نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الجانب، وحظي به كذلك إسلامنا العظيم شرعة ومنهاجا من جهة كونية هذا المشروع موضع اللبنة.
ومن هنا يمكن أن نطرح سؤالا مستشرفين به مناطات هذا التكليف الذي تقام على حساب بيانه وتبليغه الحجة على شواكل من المكلفين اعتبارا لما نسخ من أديان سماوية سابقة تعطل العمل بها حتى على فرض أنها حافظت على أصولها العقدية ولم يمسسها بشر بتحريف أو تخريف، وعلى كل المكلفين في دائرة سلطان الخاتم الناسخ ونعني به ذلك الدين القيم الذي أظهره الله على سائر الملل والنحل.
منطلقين في طرحه باستحضار مكانة اللسان القومي والذي نعني به في طرحنا معهود لسان الأميين ذلك اللسان العربي المبين، والسؤال مفاده:
ما هي الكفايات المطلوب تحقيقها من ظواهر نصوص الكتاب والسنة في مقام قيام الحجة في المقصود أصالة من إقامة صرح التوحيد؛ ونعني به توحيد الألوهية الذي تدور في محرابه إدراكات العبد لربوبية الرب والتقرب إليه سبحانه عبر التفكر فيما بثه من أسماء حسنى وصفات علا؟؟؟
وربما في سياق الإجابة احتجنا إلى ذكر أن القصد كان ولا يزال من ذلك البث المتكرر المتعدد المتنوع السياقات تفصيلا وإجمالا لأسماء الله وصفاته هو محاولة إحاطة قلب المخاطب بالشرع وهو يمارس عبوديته بهالة من الإجلال والتعظيم والمحبة، بحيث تكون هذه الهالة قادرة على ربط المخلوق بخالقه؛ دفعا إلى المسارعة في الخيرات؛ ومن ثم رفعه من شرط الإسلام إلى زيادة الإيمان إلى حسنى الإحسان.
وهذا ما لم تنل شرف تذوق حلاوته سخائم الإحداث في الدين زيادة ونقصانا، وخاصة أولئك الذين تخبطهم مس التفلسف الإغريقي ومنطق الفكر اليوناني، فكان أن تحول في وجدانهم المقصود من ذلك البث إلى مجرد جدل ذهني وطرح فلسفي مشكل ناشز خاو من كل شحنة تربوية تعبدية هادفة اللهم ذلك الركام من القضايا الذهنية الافتراضية الباردة التي لا مفعول لها ولا تأثير في المشهد التعبدي المجزى عنه ردا وقبولا وجزاء وإجزاء.
وهنا نرجع لنؤسس في باب الفروق لقاعدة أن ظواهر النصوص مقصودة حاضرة بثقلها ذات كفايات في تحقيق مقاصدية التنزيل والإرسال، أي إقامة الحجة ورفع العذر عن معشر المكلفين، ولعل الإقرار بهذا وفهمه فهما مجديا يجعل المكلف يضع يده على مكمن الشذوذ والإغراب الذي وقع فيه المتكلمة من جهة نسفهم لقاعدة أن ظواهر النصوص مقصودة متعبد بها فعلا وتركا وتصديقا، وأخذهم في الباب بكلام من قبيل ما قاله مثالا لا حصرا الصاوي القبوري الأشعري في حاشيته على تفسير الجلالين: «الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»!
فأي شذوذ يا ترى أفظع ولا أشنع من أن يعتقد العبد أن الله تعالى خاطب عباده في ظل أكمل دين وأتم نعمة بكلام ظاهره الكفر، بل وأي تخوين نرمي به النبي عليه الصلاة والسلام من جهة كونه يحتال في الدين فيخبر صحبه وإخوانه بأن الله ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل بينما هو يعلم أن الذي ينزل هو الأمر أو الملك أو الرحمة؛ ويصر -وحاشاه- على كتمان العلم وتأخير البيان عن ساعة الحاجة إليه.
وبلغة الخوارج يتمم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فصول مسرحية التكفير؛ وهو من هو؛ إمام الأشاعرة في زمانه فيقرر ما نصه: «فمن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين للإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه فهو كافر، ومن نسب إليهم غير ذلك فقد كفرهم فيكون كافرا بتكفيره لهم».
فتأمل هذا الكلام يراعاك الله وقارنه بكلام الخوارج الذين قال فيهم النبي عليه الصلاة والسلام «كلاب أهل النار» و«شر قتلى تحت أديم السماء» لتقف على حقيقة أن حالهم ربما كان أهون في دائرة السوء طبعا من حال الأشاعرة والماتردية من جهة كون الخوارج يكفرون بالكبائر والمعاصي التي تواطأ لسان السلف والخلف على ذمها، وكون الأشاعرة والماتريدية يكفرون بالتوحيد، وانظر في هذا إلى صنيع الرازي وكيف وسم كتاب التوحيد لابن خزيمة ووصفه بكتاب الشرك وما فيه لا يعدو ولا يتجاوز قال الله تعالى قال رسوله وما يلزم من قوليهما.
ويا ليت شعري كيف يستنسخ خلفهم اليوم فعل سلفهم فتجدهم لا يفترون ولا يكلون من رفع شعارات الوهابية في سياق نبز واتهام الدعوة السلفية، مع أن الحق يذهب في صوب انتماء الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدعوة السلفية لا انتماؤها هي له، تلك الدعوة المباركة التي ما فتئت مذ بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا ترفع لاءاتها ودفوعاتها السنية في مواجهة تجليات الشرك والرفض والقبورية والإلحاد.
وليس بمستغرب بعد هذا الرفع والدفع أن يتصدى لها كل رافضي وقبوري ومبتدع فإن لهذا مسوغ ونصاب إقناع، ولكن الأغرب أن يستعمل الخلف عين التعويذة التي استعملها سلفهم ونعني بها دعوى أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، ولا شك أن هذه التعويذة هي التي صاحب رفع شعارها مشروع تثبيت أساطين الأشعرية منذ نشأة بذرة الكلام الخبيثة وإلى يومنا هذا؛ حيث نراها ذرت بقرنها معربدة في صفاقة مأجورة، لم يبق معها للخصم المخاصم لركوب سفينة القوم إلا رميه بتهمة مشاقة أهل السنة والجماعة السادة الأشاعرة وخرق إجماعهم الرسمي؛ بضابط أن ما يجوزونه ويؤشرون عليه في أصول المعتقد هو الجائز والمشروع وما دونه فممنوع بالنار والحديد.
وارجع -أيها القارئ الكريم- إلى مظان التاريخ وأسفار السير لتقف على أسماء وأعيان العلماء ممن مورس عليهم العنف الرمزي والمادي من الأشاعرة إبان سطوتهم واستنصارهم بسيف سلاطين تلك الأزمنة من التاريخ الإسلامي، وما سيرة معاناة شيخ الإسلام ابن تيمية معهم ببعيدة عن سمع كل منصف متجرد للحق، وهذا القاضي مخلوف الصوفي القبوري الأشعري ينطقه الإنصاف قائلا: «ما رأيت كريما واسع الصدر مثل ابن تيمية فقد أثرنا الدولة ضده ولكنه عفا عنا بعد المقدرة حتى دافع عن أنفسنا وقام بحمايتنا، حرضنا عليه فلم نقدر عليه؛ وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا».
وعلى أي فدعوى أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة، دعوى لها لوازم على رأسها الإقرار أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أشعريا وأن الصحابة كانوا معه ومن بعده أشاعرة، وبمعنى أوضح أن عقيدة محمد عليه الصلاة والسلام هي عين عقيدة الجويني والرازي والغزالي وكذلك الشأن بالنسبة للصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان.
ولازم لازم هذا فتح باب السؤال على مصرعيه بغية الاستفسار عن السر الكامن وراء سكوت النبي عليه الصلاة والسلام ومعه ومن بعده سكوت الصحابة عن أشعريتهم التي يدور أسها الفلسفي على النظر والمناظرة لا التلقي والتلقين بضابطي الأمانة والثقة كما هو واضح جلي في نصوص القرآن وقول من لا ينطق على الهوى محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه.