«اللهم كثر حسادنا» ليس من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام
عبد الرحمن شاكر
هوية بريس – الجمعة 17 أكتوبر 2014
لفت انتباهي ما تناقلته بعض المواقع الاجتماعية والجرائد الإلكترونية من كلام ينسُب حديثَ: «اللهم كثر حسادنا» إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد وقع ذلك مني موقع مفاجأة هائلة، وعظم أثرها فتجاوز درجة الأسى لما علمت أن أصل الكلام المتداول هو من خطاب ملك المغرب محمد السادس، حفظه الله، الذي ألقاه مساء الجمعة 10/10/14 في قبة البرلمان، وجاء فيه: قال جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم كثر حسادنا» الحديث.
وقبل بيان حكم الحديث المرفوع، يتعين أن أسوق بين يديه كلمة تعرض لموضوعه المركزي وهو خلق الحسد فتكون توطئة موضوعية للحكم على الحديث.
الحسد خلق ذميم، وداء خبيث، حقيقته شعور بشدة الغيظ على الخيرات أو النعم تكون للناس الأفاضل، فيتمنى الحاسد زوالها جميعا عن المحسود. بل قد يتعدى ذلك إلى التحايل عمليا لإيصال الأذى إليه. ومن دنس هذا المكر من الحاسد صيغ إنصافه في التهكم الشهير: «ليس في خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود».
إن المجتمع الذي ينتشر فيه الحسد، فيصبح ظاهرة متفشية فيه، هو مجتمع يمقته الله ويغضب عليه؛ لأن الحسد مظنة النفاق، ومنبع الكراهية والظلم والتناحر، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمتَه منه فيما صح من حديثه أنه قال صلى الله عليه وسلم: «سيصيب أمتي داء الأمم! فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر والتكاثر والتناجش في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج». ومتن الحديث يدل على أنه من النبوءات، وقد وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
التعوذ من الحسد -لا طلبه- هو ما دل عليه القرآن والسنة
ولخطورة الحسد على الاستقرار الفردي والجماعي، أمر الله عز وجل بالاستعاذة منه كما دلت عليه سورة الفلق “قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)“، وأكدت السيرة النبوية العطرة، في نصوص كثيرة، ما جاء في القرآن الكريم علما وعملا، حتى أصبح أمر الاستعاذة من الحسد من المعلوم من الدين بالضرورة أو من المتواتر المعنوي.
والاستعاذة من الحسد هو الاعتصام بالله والالتجاء إليه في أن يحمي العائذ به من خطورة الحسد وشروره المعنوية والمادية، ويبعد عنه الحسدة، «لأن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه» كما قال العلماء.
بناء على ما حاولنا اختزال الكلام فيه، بديهي أن يكون الحسد، بين الأفراد وبين المجتمعات والأمم، أصل كل مفسدة مؤذنة بالخراب والتهلكة، مفسدة لا يتصور معها مصلحة، وحتى إن وجدت فلا وزن لها أمام ثقل المفاسد المترتبة على الحسد.
فكلما كثر الحسد زادت الشرور، وكلما قل قلّت. ولهذا ثبت في حديث حسن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا»، وعليه، إذا تحاسد الناس وكثر الحساد فيهم زال عنهم الخير بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقول القائل: «اللهم كثر حسادنا» يخالف مقصد الاستعاذة الذي دل عليه القرآن، ويخالف ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل يعتبر هذا الدعاء «اللهم كثر حسادنا» دعاء المرء على نفسه بالشر؛ فأقل ما يمكن أن يسببه الحسد أن يكون من المعيقات عن العمل والإبداع لضرورة الالتزام بكثرة الاحتياط والخوف من الحسدة…
فدعاء تكثير الحساد طلب تكثير من يتمنى زوال النعمة عنك…
ودعاء تكثير الحساد طلب تكثير من يرميك بالعين…
ودعاء تكثير الحساد طلب تكثير من يخطط لك لإفشالك…
ودعاء تكثير الحساد طلب تكثير عدد أعدائك، وهكذا…
وإن تعجب فعجب ممن يحسب على أهل العلم ويتصدر مجلس الفتوى أكد صحة هذا الدعاء (اللهم كثر حسادنا) وأنه لا لبس فيه. فمتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بتكثير الخصوم والأعداء!؟ وقد نهى عن أن يتمنى المرء مجرد لقائهم، ففي الصحيحين مرفوعا: «لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ».
نعم قد تجلب كثرة النعم كثرة الحسدة، ولكن أين هذا التلازم الموهوم بين الدعاء بكثرة النعم وبين الدعاء بكثرة الحسدة!؟
حديث «اللهم كثر حسادنا» ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم
وإذا كان علم الدراية دلّ على أن قوْلةَ: «اللهم كثر حسادنا» يمتنع أن تكون من مشكاة النبوة لما سبق تقريره، فإن علم الرواية دلّ على أن تلك المقولة ليس لها خطام ولا زمام، بل هي عارية عن السند فلا أصل لها، ولا وجود لها في كتب الحديث من الموطآت أو المسانيد أو الصحاح أو المستخرجات أو غيرها من الكتب التي تعنى بالأحاديث التي تنسب إلى المصطفى عليه الصلاة والسلام سواء الصحيحة منها أو الضعيفة، بل حتى الموضوعة.
ولهذا، كان من الجرأة والاستهتار أن يتقلد بعض أهل العلم مسؤولية نسبة الكلام «اللهم كثر حسادنا» إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويزعم أنه مرفوع إليه، بدعوى إذا قُصد به معنى حديث آخر.
فمتى كان منهج المحدثين رفع كلام لا أصل له إلى النبي عليه الصلاة والسلام لوجود حديث يشبهه في المعنى!؟
وهم الذين أخذ بهم الاحتياط والورع والالتزام بقواعد علم الحديث حتى ذكروا شروطا للعمل بالحديث الضعيف ضعفا يسيرا -لا الموضوع وما لا أصل له كما في مسألتنا- وليس هذا موطن بسطها…
والحديث الذي يشبه «اللهم كثر حسادنا» في المعنى حسب زعم هذا المستهر هو: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود». هو أيضا حديث باطل، ذكره أكثر العلماء من صنف في الموضوعات، منهم ابن الجوزي، والشوكاني وغيرهما.
وإذا أخذنا بتصحيح الألباني لهذا الحديث -وإن كان على اجتهاده هذا ملاحظات- فإنه لا يدل لا من قريب ولا من بعيد على المطلوب، بل لو قال قائل إن ظاهر الحديث يقتضي الدعاء بقلة الحساد لكان أقرب إلى مقصده، إذ نجاح سياسة الكتمان تتوقع مع الدعاء بقلة الحسدة لا مع الدعاء بكثرتهم.
وإذ أقف بالقارئ على حكم هذا «الحديث»: «اللهم كثر حسادنا»، فإنه يحسن بي أن أذكر الهدف من هذا المقال، وهو يتوزع بين ثلاثة أمور؛
أولها، وهو الأهم، أن الخطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالخطأ على باقي الناس، ونسبة الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس كنسبة الكلام إلى سائر الناس، فكلامه وحديثه عليه الصلاة والسلام وحي من الله سبحانه وتعالى، ولهذا وجب التنبيه والدفاع عن حمى الشريعة حتى لا يضاف إلى الإسلام ما ليس منه وينسب إلى الرسول الكريم ما لم يقله، وخصوصا إذا وجد ممن ينسب إلى أهل العلم من يأتي بالمتشابهات لتصحيح المنكرات.
والأمر الثاني: أن الإنسان أيا كان فهو معدن الخطأ أو النسيان، والخطأ الذي وقع -وإن كان عظيما- يمكن أن يصحح، ولكن أن ينبري بعض العلماء للدفاع عن الخطأ فهذا مزلق خطير ينبأ بشر مستطير، ومن صوره، أنه سيدفع بعض شباب الأمة، وخصوصا المتدين منهم، إلى فقدان الثقة في العلماء الحقيقيين، واستعارة بدائل أخرى قد تقذفهم في أمواج الانحراف الفكري والتربوي.
والأمر الثالث: أن الأعراف الرسمية جرت على أن خطابات الملوك والرؤساء، وكلمات الشخصيات المؤثرة والمؤطرة للشعوب من الأمور الجليلة الخطيرة التي يُستعد لها، معنى ومبنى، لا لتكون في مستوى الحدث فتؤدي وظيفتها التأثيرية والإقناعية والتأطيرية فقط، بل ولتنأى عن أسباب الالتباس واحتمالات القراءات المتعددة، لما في ذلك من خطورة الفتنة بالتأويل أو بالزيغ والتضليل.
وغني عن التذكير، أن هذا يتطلب استحضار الكفاءات الحقة، والبطانة الصالحة التي تدل على الحق، وإنها لسنة حميدة أن يؤسس الخطاب الملكي على هذا النهج، وإني لأظنه كذلك، إلا أن الجهة التي تولت مسؤولية الدلالة على الحق فاتها خطورة وحساسية رمزية المرجع (السنة)، ورمزية القائد (الملك) في هذا الوطن، وينبغي أن تكون يقظة وحذرة لأن ضمان الوحدة الوطنية في ضمان عدم العبث بالرمزيتين، وتعريضهما لقيل وقال في زمن اللغط والجدال، والله وحده هو الموفق للصواب.