البرلمان وجريدة الصباح واللباس الأفغاني
ذ. إبراهيم الطالب (مدير أسبوعية السبيل)
هوية بريس – الإثنين 20 أكتوبر 2014
نشرت يومية الصباح في العدد المزدوج الصادر نهاية الأسبوع المنصرم خبرا يفيد أن رئيس مجلس النواب أعطى «تعليمات صارمة للمسؤول الأول عن أمن البرلمان بمنع أي شخص يرتدي اللباس الأفغاني و«الفوقيات» و«التشاميرات» من ولوج المؤسسة التشريعية التي تحولت، في عهد حكومة بنكيران، إلى محج للعديد من النشطاء والمتعاطفين مع «بيجيدي» الذين يفدون عليها من مختلف المدن».
وعلى فرض أن الخبر صحيح -رغم الكذب المتواتر عن هذه اليومية-، فلا غرابة أن نرى مثل هذه القرارات في ظل الإفلاس السياسي للنخب البرلمانية، والتردي المزري في أداء أغلب البرلمانيين، الأمر الذي جعل الطالبي العلمي يلجأ إلى إصدار قانون أقل ما يوصف به أنه تَعَدٍ سافر على حقوق المواطنين وحرياتهم في اللباس، فصدق عليه المثل الذي أبدعه المغاربة حين قالوا: «الراعي مْلِّي ما يلقى ما يدير كيقطَّع نعالتو ويعاود يْخَيّطْها».
قطعا، المغاربة لا يقصدون الراعي الذي يستفيد من الرعي الحكمةَ والصبرَ والحنكة في سياسة ما يرعاه من خلال البحث عن منابت الكلأ الطيب ومناهل الماء العذب، بل يقصدون الراعي الذي لا يفهم وظيفته ولا يهتم بما يرعاه، الأمر الذي يفوت عليه الاستفادة من عمله.
صحيح أن القرار -على فرض صحته- فيه إيجابيات لا تنكر خصوصا ما تعلق منها بمنع قلة الأدب والمظاهر المسيئة داخل القبة، إلا أنه يبقى من غير المقبول منع ولوج المواطنين إلى مؤسسة عمومية بسبب لُبسهم لأزياء معينة خصوصا إذا لم تكن مخلة بالحياء أو خادشة للذوق العام.
لن نغرق في نقاش جزء القرار المتعلق باللباس، لأننا لم نستطع التأكد من صحة الخبر، لكن مع ذلك أحببنا أن نتخذه مدخلا -ما دام قد انتشر في الناس- لنقاش مسألة اللباس، خصوصا وأن الجريدة التي أوردت الخبر استغلت المناسبة للاستهزاء بالصلاة ولباسها، رغم أنه ليس للصلاة زي مخصوص، لكنها حماقة العلمانيين التي أعيت من يداويها.
قالت يومية الصباح: «تحول فضاء البرلمان، في أكثر من مرة، إلى ما يشبه «المصلى»، حيث يطغى لباس التعبد والصلاة على اللباس الرسمي، الذي يليق بمؤسسة تشريعية تزورها باستمرار وفود برلمانية ودبلوماسية من مختلف بقاع العالم.
كما أن بعض الزائرين الذين يرافقون نوابا لا يحترمون حرمة المؤسسة، وذلك من خلال ارتدائهم ثيابا غير محترمة، الأمر الذي أغضب رئيس مجلس النواب، وجعله يتخذ، لمناسبة افتتاح البرلمان.. مجموعة من الإجراءات، أبرزها أناقة الهندام، سواء تعلق الأمر بالنواب أو الموظفين والموظفات أو الزائرين والصحافيين».
صحفيو هذه الجريدة طاروا بهذا الخبر ونفثوا كعادتهم كل مشاعر الحقد والكراهية ضد الإسلاميين، والشعائر الإسلامية، وافترضوا للصلاة هنداما، وللبرلمان هنداما، وجعلوا هندام الصلاة لا يليق الدخولُ به إلى المؤسسة التشريعية، بينما لو قال فقيه أو عالم إن البدلة -التي تعتبر عندهم زيا رسميا- لا يليق أن يدخل بها المواطن إلى المسجد، لرأيت الرغوة تخرج من بين شفاههم ولأرعدوا شجبا وسبا واستهزاءً، ولقالوا إن اللباس حرية فردية مضمونة بالمواثيق الدولية، ولا يقيدها القانون ولا تخضع لضوابط، ولطالبوا بإقالة وعقاب العالم والفقيه الوهابي الخارج على المذهب المالكي والإسلام المغربي لأنه تجرأ على الفتوى التي ينظمها الدستور ويوكلها إلى المجلس العلمي الأعلى.
وكلنا يتذكر الحملة التي شنتها الجرائد العلمانية على الرئيس الأسبق للمجلس العلمي للدار البيضاء السيد رضوان بنشقرون عندما ألقى خطبة الجمعة حول العري على الشواطئ واللباس الفاضح في الشوارع، والتي لم ينسها له مَن أقاله عندما استنكر استقدام المغني «مَلِك» الشواذ اللواطيين إلى مهرجان موازين.
هذه اليومية التي ما فتئت تنشر -خصوصا على مؤخرتها- منذ صدورها صورا عارية مخلة بالشرع والقانون والعرف والذوق العام، لا تمل من التحرش بالمنتقبات والمحتجبات، والرجال الملتحين، معتبرة أن اللباس الطويل كالأقمصة البيضاء المنتشرة في المحلات التجارية على طول المغرب وعرضه لباسا أفغانيا، بل توسع بعض المتنطعين من غلاة العلمانيين في بعض الجرائد وقال إن الحجاب لا علاقة له بالإسلام بل عرفه المغرب والعالم بعد الثورة الخمينية!
فلماذا هذا العداء لزي معين رغم أن المغاربة لم يعد لهم عرف مستقر في اللباس؟ في الوقت الذي لا يتحدث فيه الإعلام عن العري الفاضح المهيج للغرائز والمشجع على الاغتصاب والتحرش والفساد.
ولماذا ينعتون القميص بأنه أفغاني رغم أنه يصنع بالصين، ورغم أن المغاربة تلقوه بالقبول لأنه أرخص ثمنا من الجبادور أو القميص المغربي المطرز؟
ولماذا ارتبطت الحملة على اللباس بمرحلة ما بعد أحداث 11 شتنبر 2001؟
فقد ركز الإعلام بعدها بمختلف أشكاله على النقاب والحجاب واللحى ولباس الملتحين، وتضمنت الكثيرُ من المواد الإعلامية عبارات تقدح في المواطنين الذين يلبسون الأقمصة البيضاء التي غالبا ما يجلبها الحجاج هدايا لذويهم ومعارفهم وتتهمهم بأنهم يخالفون العرف المغربي، وكأن «الميني جيب» و«كيلوط» و«الجينز سْليم» هو الموافق للعرف المغربي.
من يرى صور الزعماء في أواسط القرن الماضي وهم يرتدون العمامة والجلباب المغربيين ومن تحت الجلباب تبدو ربطة العنق وجزء من البدلة التي جلبها المحتل الفرنسي إلى المغرب (انظر صورة علال الفاسي المشهورة)، يلمس أن الزي المغربي قد تعرض لتجاذب قوي بين أصالته وعراقته وما يحمله من معاني الستر التي دعمتها الخصائص المطلوبة لستر العورة في الفقه الإسلامي، وبين ثقافة اللباس الغربي الوافد والذي أعطته الإدارة الفرنسية صفة «الرسمية» من خلال فرضه على الموظفين المغاربة، وقلدها فيه المستغربون ممن خلفهم بعد الاستقلال التوافقي.
إن ربط اللباس التقليدي باللباس الأفغاني هو محاولة لشحن مخيال المغاربة والتأثير عليهم من خلال الربط التعسفي بين اللحية واللباس التقليدي والجهاد الأفغاني، حتى تسيطر على الناس قناعة بأن كل من يرخي لحية ويلبس قميصا هو إما مع تنظيم القاعدة أو مع طالبان، وما دام الجهاد قد ربطته الآلة الإعلامية العلمانية بأفغانستان وطالبان والقاعدة فقط، فإن التعامل مع الملتحين الملتزمين بلبس الأقمصة والجلابيب خطر على كل من يتعامل معهم.
كل هذا هو محاولة لعزلهم عن المجتمع وشيطنتهم، حتى يتم الحد من تنامي مظاهر الرجوع إلى النقاب واللحية والحجاب واللباس التقليدي، بوصفهما مؤشرات قوية وعميقة تدل على تمكن التدين «الاجتماعي» من سلوك المواطنين، بحيث استطاع تغيير سلوكيات استمرت لعقود طويلة.
كما يدل استئناف ارتداء النقاب والجلباب وإرخاء اللحى على استرجاع الدين لمكانته كمؤطر لثقافة اللباس في بعدها المتعلق بالهوية والتاريخ.
ما يعني في النهاية أن قوة الانبهار التي كانت لثقافة المحتل الفرنسي بدأت تنهار بشكل ملفت، الأمر الذي جعل المغاربة الرجال الذين حلقوا لحاهم يكفون عن استعمال آلات الحلاقة الغربية واقتصارهم في استعمالها على تطبيق السُنّة النبوية المتعلقة بأحكام حلق العانة، وبدلا عن نتف شعر الإبط.
كما جعل النساء المغربيات اللائي نزعن عنهن الحايك ثم الجلباب وتخففن من اللباس بشكل فاحش، يرجعن هن أيضا، إلى النقاب والحجاب بعد تنامي ظاهرة الرجوع إلى الدين، الأمر الذي يعتبره العلمانيون نكوصا ورجعية.
رجوع المغاربة إلى تطبيق ما يرونه دينا على مستوى ثقافة اللباس، لم يستسغه دعاة العلمانية وسدنة معابد التغريب، واعتبروه إيذانا بفشل مشروعهم الثقافي والفكري، فشنوا الحروب تلو الحروب خصوصا بعد تفجيرات الدار البيضاء الآثمة، حيث أصبحت كل من تلتزم النقاب والجلباب وكل من يلتحي ويلتزم لبس الگندورة أو القميص، مستهدفا باللمز والغمز بل الاتهام المباشر، حتى أصبحت مصالح الأمن تحت الضغط العلماني في زمن الخوف بُعيد سن قانون الإرهاب تقتاد الملتحين والمنقبات إلى مخافر الشرطة للتحقيق معهم وإنشاء ملفات البحوث حولهم، استنادا على أزيائهم ومظاهرهم، دون أن نسمع أو نقرأ للعلمانيين كلاما يشجبون فيه هذه الممارسات بل دعوا مباشرة الأمن إلى منع الحجاب والنقاب.
مواقف العلمانيين هذه تعطي اليقين أن أبرز ما يميز الحالة التي توجد عليها نخبتنا المستغربة في الإعلام والثقافة هو انفصالها عن الواقع الذي يفترض أنها مكلفة بعلاج أمراضه وحل مشكلاته، سواء في ذلك النخب العلمانية التي تتباكى على مصالح البلاد وحقوق وحريات العباد أم «الخبزاوية» التي لا يهمها إلا مصالحها وتحقيق امتيازات لها ولذويها.
فبدل الاهتمام بمعضلات الصحة والتعليم ومحاربة هدر المال العام والتصدي لتنامي مظاهر الفساد بكل أصنافه، نراهم يَعْلقون بأقمصة وجلابيب الملتحين والمنتقبات.
إن انفصال النخب المستغربة المشتغلة بالإعلام والثقافة عن واقع المغاربة سببه هو تعالي الأطروحة العلمانية عن معاناة الناس الحقيقية واهتمامها بميتافيزيقا الفكر الديمقراطي المتطرف، ونضالها الوهمي في ساحات الحريات الفردية التي غالبا ما تقصرها على المطالبة باحترام البهيمية المهربة من الفكر الغربي المناقض للطبيعة البشرية -حالة الحق في الزنا، وممارسة الشذوذ نموذجا-.
هذه النخبة تشتغل بشكل كاريكاتوري بائس مضحك، وتستورد مطالب من بلاد الاسكندنافيين والسويسريين لإرضاء صناديق المنظمات المانحة، وتجعلها قسرا مطالب لمغاربة كريان طوما وكريان سونطرال بالبيضاء، ودوار لاحونا، ودوار الحاجة بالعاصمة، وقرية أولاد موسى وحي سيدي موسى بسلا، وقرية با محمد، واخميس الزمامرة وزحيليگة.
فمثل هذه المناطق والأحياء تمثل الغالبية الساحقة من المواطنين الذين يفضل الواحد منهم بيع سنوات من عمره المستقبلية لو كانت بيده، للحصول على دواء لأمه المريضة المعاقة القابعة في غرفة «قصديرية» مهترئة، لا ماء فيها ولا شمس.
لكن رغم أن العلمانيين قلة لا تمثل المغاربة، إلا أنها قلة نافذة مدعومة بالنفوذ داخليا وبالمال خارجيا، هذا بالإضافة إلى عشرات المراكز الأجنبية التي تمول نشاطاتهم ومنشوراتهم، دعما لمشروع علمنة المغرب، للحيلولة دون سقوطه في أيدي الإسلاميين -زعموا-.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.