الوساطة بين أدعياء الأمازيغية وخصومها
ذ. عبد السلام أيت باخة
هوية بريس – الأربعاء 22 أكتوبر 2014
الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا مقال متواضع، أحاول فيه بحول الله وقوته، أن أتطرق لموضوع حمي فيه الوطيس، وتجاذب الناس فيه أطراف الحديث، ما بين مشرق ومغرب، كل يدلي بدلوه، ويبسط حججه على قوله الذي يعتقد، وإني أرى أن غالب من تطرق لهذا الموضوع، لم يضبط نفسه بالضوابط العلمية، وإنما زل به قلمه من حيث يدري أو لا يدري فتكلم بالعاطفة، والعواطف – كما قيل في المثل – عواصف تعصف بصاحبها إن ركن إليها.
ولهذا أحببت أن أسطر هذا المقال تبصرة لإخواني الفضلاء بضوابط لابد منها حين الحديث عن الأمازيغية، وعنوانه كما ترى: (الوساطة بين أدعياء الأمازيغية وخصومها) اقتبست هذا العنوان من كتاب الإمام عبد القاهر الجرجاني “الوساطة بين المتنبي وخصومه” حين أفلح رحمه الله في الذب عن هذا الشاعر ووقف موقفا وسطا بين الغلاة المادحين، والجفاة الجارحين.
والموقف الوسط في كل مناحي الحياة فكرا وسياسة واقتصادا وتدينا أمر محمود مرغوب فيه، قال الله جل وعلا: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة الآية 8).
وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) (البقرة الآية 143).
وإني أعتقد بحزم جازم وجزم حازم أن الدارسين للقضية الأمازيغية، والمهتمين بها، لو كانوا وسطيين في طرحهم، لما احتجنا إلى كثرة الردود والتعقبات، ولما رأينا من الأمازيغ من يتعرض للإسلام في معرض الدفاع عن الأمازيغية، ولما رأينا بعض الناس ممن يدعي الإسلام يفتخر بالقومية العربية، مما يتنافى ومبادئ الإسلام الخالدة التي لا تفرق بين الناس بالنظر إلى لغاتهم وألوانهم وأجناسهم.
وتفريعا لما سبق أقول وبالله التوفيق، إن الموقف الحق الذي ينبغي أن يقفه جميع المغاربة تجاه القضية الأمازيغية، هو الموقف الوسط المبني على أصول متينة، أرى من وجهة نظري أنها تتمثل في ثلاثة أمور:
ـ أولا: وحدة الدين والمعتقد: أي أن الإسلام هو الذي يجمعنا على اختلاف لغاتنا وألواننا وأجناسنا، ومواطننا، وهو دين الجميع، وليس دين العرب كما يروج له بعض القوميين الذين أعمى الله بصائرهم وأبصارهم، فقد ساوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبي بكر القرشي، حتى قالها سلمان في عز وافتخار يترنم بها شعرا:
أبي الإسلام لا أب لي سواه***إذا افتخروا بقيس أو تميم
وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى) رواه أحمد (5/411).
ثانيا: وحدة الوطن والتراب: إن المغاربة جميعا، يجمعهم وطن واحد، ويجمعهم تراب واحد، عليه ولدوا وعليه يعيشون، وعليه يموتون، فلماذا نخرق سفينة نركب عليها جميعا بافتعال معارك عرقية طائفية، حول لغة ينبغي علينا أن نعتز بها وندرسها لأبنائنا، كما نعلمهم لغة الضاد، ولا يجوز أبدا أن نتنكر لها أو نقلل من أهميتها في وقت نرفع من شأن لغات أجنبية لا علاقة للمغاربة بها في قبيل ولا دبير، إن اللغة الأمازيغية جزء لا يتجزأ منا، من رفضها فإنما يرفض ذاته، والعجب كل العجب لمن لا يعرف لغة آبائه وأجداده، كيف يهرول ليتعلم لغة أعدائه وحساده الغربيين.
وأشير هنا إلى أن الوطن بوصفه ترابا، لا يكتسب قيمة إلا بقيمة من يسكنه ويعمره، وقديما قال القاضي عياض رحمه الله منبها إلى هذا الأمر:
وما شرف الأوطان إلا رجالها***وإلا فلا فضل لترب على ترب
ثالثا: عدم التفريق والتفضيل بين أبناء الأمة على أساس لغوي: إذ المصيبة العظمى التي يعيشها بعض شبابنا من المراهقين سنا وعلما، هي تفاخر بعضهم على بعض على أساس اللغة والعرق، وهو مسلك لا يقبله الدين، ولا يستسيغه العقل السليم، ذلك أن الدين لمن له أدنى اطلاع على أصوله، لا يميز بين الناس إلا بأمرين اثنين:
ـ الأول: التقوى، دليله قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات الآية:13).
ـ الثاني: العلم، ودليله قول الله جل وعلا: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) (الزمر الآية:9).
أما العقل، فإن الإنسان لو تأمل غيره ممن لا يعرف لغته، ووضع نفسه مكانه لبانت له الحقيقة، ولو كانت لغة تفضل كل اللغات لما اختلفت ألسنة الناس، ولكنها مشيئة الله في كونه، وآية من دلائل عظمته في خلقه.
قال الله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) (الروم الآية:22).
بعد هذا التأصيل، أدير رأس القلم لأثني بكلمة في غاية الأهمية، وهي أن موضوع الأمازيغية جانبت الصواب فيه طائفتان من الناس:
الطائفة الأولى: طائفة أدعياء الأمازيغية ممن جعلوا القضية مطية لتسويق الحداثة والعلمانية، والطعن في الإسلام، ومحاولة إقناع الناس بالحرب القائمة بين الإسلاميين والأمازيغية، وهم في حقيقة الأمر يريدون نشر الإلحاد وهدم قواعد الدين، والنيل من ثوابت الأمة المغربية، باسم الدفاع عن حقوق الأمازيغيين وتحريرهم من “الاستعمار الإسلامي” وإرجاعهم إلى أمجاد “كسيلة” والكاهنة “دهيا”…
ومن نظر في كتابات الأستاذ أحمد عصيد وأمثاله لظهر له الأمر واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار، وقد سمعته مرة بأذني يقول بصريح العبارة قبل إصدار مسودة الدستور في ندوة بمدينة إمنتانوت: “لا ينبغي أن يشار في الدستور إلى الإسلام، لأن ذلك يناقض ما يقرر من الحقوق والحريات” جهلا منه أن الإسلام هو الضامن لحقوق الإنسان، فلم تعرف الأنظمة البشرية قديما وحديثا مثله في صون كرامة الناس، وحفظ حقوقهم، حتى اعترف بذلك الغربيون أنفسهم، فهذا الفيلسوف “جورج برناردشو” يقول: (الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها، ولا نجد في الأديان حسناته، ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائماً، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعاً، إذ ضم سلمان الفارسي وبلالاً الحبشي وصهيباً الرومي فانصهر الجميع في بوتقة واحدة).
ويقول المستشرق “بارتلمي سانت هيلر”: (إن دعوة التوحيد التي حمل لواءها الإسلام، خلصت البشرية من وثنية القرون الأولى).
وإنما سقت هذين النموذجين لأني أعلم من الأستاذ عصيد ارتياحه لأفكار المستشرقين، أكثر من ارتياحه لكلام الفقهاء والعلماء من المسلمين.
إن هذه الطائفة من أدعياء الأمازيغية، اختلقوا لأنفسهم عقدة بين الإسلام واللغة، وحاولوا أن يجدوا لذلك موقعا ومحلا في أذهان الناس، والحق أن تلك العقدة لا محل لها من الإعراب، ولا يؤيدها الواقع العالمي، إذ إن كثيرا من دول الإسلام في شرق آسيا وغيرها، لا ينطق سكانها باللغة العربية، وليست اللغة الرسمية لبلادهم، فلماذا ظلوا متمسكين بدينهم؟؟ هذا سؤال محرج يحتاج أدعياء الأمازيغية إلى جواب عنه، ولا أظنهم يستطيعون.
الطائفة الثانية: خصوم الأمازيغية: وهم أناس يزعمون الدفاع عن اللغة العربية، ويرفعون شعارات القومية ويفتخرون بالعروبة، وغالبهم من أجهل الناس بلغتهم، ومع ذلك تراهم يستهزؤون باللغة الأمازيغية، ولم يعلموا أن الأمازيغ هم الذين خدموا اللغة العربية في المغرب، ولولاهم بعد الله لأصبحت كالأمس الذاهب، فهذا “ابن أجروم” الإمام النحوي المعروف صاحب متن الأجرومية، أمازيغي من صنهاجة، و”أجروم” أصلها: “أكرام” ومعناها: “الولي”.
وهذه مدارس سوس من قديم تعتني بعلوم اللغة العربية، اعتناء قل نظيره في ربوع المغرب، والأمثلة على ذلك كثيرة…
ومن عجائب هذه الطائفة ترويجها لفكرة أفضلية العرب على باقي الأجناس، وكون اللغة العربية أفضل اللغات، وأنها لغة أهل الجنة وما إلى ذلك من الأكاذيب التي لا دليل عليها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما يستدل به من الأحاديث من مثل: (حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق) و(أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي) لا تصح، بل لم يرد في فضل العرب حديث صريح صحيح، وكل ما ورد إما ضعيف أو موضوع، كما بين الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة.
ويرحم الله الإمام مَرعي الحنبلي حين قال: (فَمِن الغُرور الواضِح، والْحُمْق الفاضِح أن يَفْتَخِر أحُدٌ مِن العرب على أحد من العجم بِمُجرّد نَسَبِه، أو حَسَبِه، ومَن فَعَل ذلك فإنه مُخطئ جاهِل مغرور! فَرُبّ حَبَشِيّ أفضل عند الله من ألُوف مِن قُريش).
صدق رحمه الله، فمتى كانت الأنساب تحمي من العقاب، وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، في نار جهنم بنص القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم.
فدعاة القومية العربية من أبعد الناس عن الإسلام، بل هم في تاريخ الأمة لا يرفعون بتعاليم الدين رأسا، حتى قال شاعرهم -عامله الله بما يستحق-:
هيبوني عيدا يجعل العرب أمة***وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام عــلى كفــر يوحـــد بيننا***وأهــلا وســهــلا بـعــده بجهــنم
وقاء الآخر -بالهمزة لا باللام-:
آمنت بالبعث ربا لا شريك له***وبالعــروبة ديـنا ما لــه ثان
والذي أريد أن أخلص إليه من هذا كله، أن كلا الطائفتين، بعيدة عن هدي الإسلام، وإنما تتخذ لغتها مطية لتسويق الحداثة والعلمانية وطمس هوية المسلمين.
والموقف الوسط بين الطائفتين يتجلى في جعل الإسلام منهاج حياة لكل الناس على اختلاف لغاتهم، والحرص على تعميم اللغة الأمازيغية وتدريسها للناشئة كما تدرس اللغة العربية، وإعطاء مزيد من العناية لهذه الأخيرة، لأنها لغة القرآن والسنة، وبدونها لا يمكن لنا أن نفهم نصوص الشرع.
وينبغي كذلك تنبيه الناس إلى ضرورة تجاوز النعرات والعصبيات القائمة على أساس اللغة، لأنها معول مجاني لهدم أخوة المغاربة، وهدية ثمينة لأعداء هذا الوطن الحبيب.
وفي نهاية هذا المقال، أرجو أن أكون موفقا في هذه الوساطة، وأتمنى من أحبابي الأمازيغ، -وأنا واحد منهم- أن يدافعوا عن قضيتهم محترمين ثوابت الأمة، وعلى رأسها ديننا الإسلامي، فليس من لازم المدافع عن حقوقه أن يسب غيره، فلنكن دعاة إلى الإسلام كما كان أسلافنا ممن نشروا الإسلام، ورفعوا رايته في كل الميادين، من أمثال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، والإمام يحيى بن يحيى الليثي المصمودي راوي الموطأ، والإمام ابن أجروم وغيرهم كثير… فهؤلاء هم قدوتنا وفيهم يحق قول من قال:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم***إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.