محرم وعاشوراء
د. رشيد نافع
هوية بريس – الخميس 30 أكتوبر 2014
شهر «محرم» سمي بذلك لكونه شهرا محرما، وتأكيدا لتحريمه لأن العرب في الجاهلية كانت تتقلب به فتحله عاما وتحرمه عاما.
ولقد سمَّى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح المحرَّم “شهر الله”، وإضافته إلى الله تدلُّ على شرفه وفضله وتعظيمه فإنَّ الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواصَّ مخلوقاته، كما نسب محمداً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- إلى عبوديَّتِه، ونسب إليه بيته وناقته.
قال الحسن البصري: “إن الله تعالى افتتح السنة بشهر حرام -أي المحرم- وختمها بشهر حرام -أي ذي الحجة- فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم.. وكان يسمى شهر الله الأصم، من شدة تحريمه”.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل” رواه مسلم، فلما كان هذا الشهر مختصَّاً بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصِّيام من بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى؛ فإنَّه له من بين الأعمال، ناسب أن يختصَّ هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه، المختصِّ بهِ، وهو الصِّيام.
وللصيام في شهر الله المحرم مزية
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم” رواه مسلم.
وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله.
وقد ثبت إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان ولعله لم يوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه قاله النووي رحمه الله.
والله جل في علاه يصطفي ما يشاء من الزمان والمكان كما اصطفى سبحانه مكة والمدينة واصطفى رمضان ويوم عرفة ويوم عاشوراء وذلك راجع إلى جود الله وإحسانه.
ويوم عاشوراء “من أيام الله” فهو يوم عظيم، نجى الله فيه موسى عليه الصلاة والسلام وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله ونحن نصومه تعظيما له، زاد اﻹمام أحمد في روايته: “وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا”.
وكونه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه. وغرق فرعون وقومه؛ فلما ثبت في صحيح الإمام مسلم وغيره:
عن ابن عباس رضي الله عنهما ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة. فوجد اليهود صياما، يوم عاشوراء. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا اليوم الذي تصومونه؟”، فقالوا: “هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه. وغرق فرعون وقومه. فصامه موسى شكرا. فنحن نصومه”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فنحن أحق وأولى بموسى منكم” فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
ولعظم هذا اليوم فقد بوب البخاري في صحيحه: باب: “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ“، وبوب البخاري رحمه الله أيضا في صحيحه باب: قوله: “وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى“، وقال تعالى: “وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ“.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به فسألهم عن السبب فأجابوه فأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيدا وأمر الناس بصيامه وظاهر هذا أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام قاله ابن حجر رحمه الله.
وقد كان صيام عاشوراء واجبا فلما فرض صيام رمضان بقي صيامه مستحبا ونسخ الوجوب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” رواه مسلم. وهذا من فضل الله تعالى وكرمه علينا أن يكفر صيام يوم ذنوب سنة. والله ذو الفضل العظيم. ولا تغتر بهذا! واعمل وارج ثواب الله وخف عقابه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط وكذا الحج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه” (“الاختيارات”، ص:65).
وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم وتاسوعاء هو اليوم الذي قبله ويستحب صومهما جميعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع في العام الذي بعده مخالفة لليهود لكنه مات صلى الله عليه وسلم قبل أن يفعل ذلك وقد صحَّ عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما موقوفًا: “صوموا التَّاسع والعاشر وخالفوا اليهودَ” رواه عبد الرزاق في مصنفه.
أما حديث: “صوموا قبلَه يومًا وبعده يومًا” فقد أخرجه البزار والبيهقي وسنده ضعيف.
قال العلامة ابن القيم في تهذيب سنن أبي داوود: “يصام يوم قبله أو يوم بعده” (3/324)، قال ابن حجر: “ولأحمد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا: “صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، صوموا يوما قبله أو يوما بعده“، وهذا كان في آخر الأمر… وهذا الحديث أورده الحافظ مرفوعا وسكت عنه في الفتح وفي تلخيص الحبير وأورده ابن القيم مرفوعا أيضا وسكت عنه في الزاد رحمهما الله؛ لكن قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: “رواية أحمد هذه ضعيفة منكرة من طريق داوود بن علي عن أبيه عن جده، رواها عنه ابن أبي ليلى” ورجح الإمام الألباني رحمه الله أيضا ضعف هذه الرواية وأوردها في ضعيف الجامع الصغير.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع والعاشر معا وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.
فطوبى لمن طلب الأتمَّ وكان شُغْلَ نفسِه الأهمَّ.
محدثات في عاشوراء
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما يفعله الناس في يوم عاشوراء من الكحل، والاغتسال، والحنَا، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك… هل لذلك أصل أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، لم يَرْد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا صحيحاً ولا ضعيفاً، ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، وأمثال ذلك… ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم: “أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة” ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب”..
ثم ذكر رحمه الله ملخصاً لما مر بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك فقال: “فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية.. وإنشاء قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن، والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين… وشر هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرجل الفصيح في الكلام، فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشر بالشر، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور ويوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يُفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتما يقيمون فيه الأحزان والأفراح، وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية).
فاحرص على صيام يوم عاشوراء مع اليوم الذي قبله ولا تسوف ولا تكسل إذ كان السلف يصومون يوم عاشوراء حتى في السفر، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما إذ رمضان له عدّة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان إنه هو الغفور الرحيم.