التدين والفشوش.. الالتزام بالجميل
نجاة حمص
هوية بريس – الجمعة 31 أكتوبر 2014
“عطيني درهم باش نمشي نقرا ليك”! من منا كمغاربة لم يسمع بهذه الجملة، لابد وأن أحدنا سبق له وأن التقى بأ”تريكة” آخر زمن وسمع كلامهم اللي كله حكم ومواعظ تسيل من أفواههم مع سيل السوائل الحيوية و”إدام” المرق البايت، الذي جعلت منه الأم المسكينة سندويتشا تحفيزيا لطفلها الذي من عادته آن يستفيق “خاسرا”، لا رغبة له بالدراسة والتحصيل ولا بالنهوض حتى، وبعد مفاوضات ومهادنات يدخل فيهما الطفل بثقله كحلف الشمال الأطلسي، يضع الشروط والبنود، وها العار أن يقبل الصغير البريء بالذهاب إلى مدرسته، ظنا منه أن ما يقوم به يعني الآخرين قبل أن يعنيه..
كما يوجد الكثير من تلك النماذج التي تصنف ظلما وعدوانا في خانة الأطفال، فيه أطفال من نوع آخر، أطفال من حجم كبير، أجسام الفيلة وعقول العصافير، تلتزم بشرع الله “زعما”، ينتقلون من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين في رمشة عين، بلا علم أو معرفة، فقط تقليد بلا تدبر أو تمعن، تختصر مفهوم التدين في الالتزام الظاهر، إعفاء اللحية وحف الشارب، تقصير الثوب ووضع المسواك في الجيب، لكن الأخ الفاضل كلما رأى فتاة، صرخ “من قرنه” أن أبعدوا المتبرجة أو امنعوا خروجها إلى الشارع العام، “باش نلتزم ليكم”، يبحث بالفتلة والمنقاش عن مواطن الفساد، وينادي بضرورة غلق “البيران” والملاهي الليلية على قلتها وندرتها، وكلما نظر إليه ناظر تذمر من الغربة والقبض على الجمر، وكل من خالفه في مظهره فهو منحرف عن الطريق القويم.. ما يعني أن وفروا الجو الملائم لألتزم “لكم”، ولا واحدة تفكر في الخروج كما يحلو لها بل كما يحلو لي، وليغلق الكل فمه فلا يتكلم إلا كما أريد أن أسمع.. “باش نتدين ليكم”.
متى كان التدين بهذه السهولة، ومتى كنا “نتوحم” على مجتمعاتنا ووسطنا من أجل توفير الجو الملائم للالتزام، ألم يقل الله عز وجل: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ“.
ألم يسمعوا قط بقوله عز من قائل: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ“.
من قبل كان المسلمون الذين عرفوا الإسلام كما ينبغي، يتعاملون مع النساء بشكل عادي جدا، يلقون السلام عليهن، يتاجرون معهن، ولدينا أحاديث تبين كيف كان التعامل بين الصحابة والصحابيات، بين الأتباع والتابعات، كانت هناك صحابيات وتابعات حرفيات وبائعات، كانت هناك ممرضات وقابلات، بل وفيه علماء كبار كانوا يخصصون بعض الأيام للنساء كشقائق للرجال أولا، وكمكون فاعل وفعال في بناء المجتمع الإسلامي ثانيا.. كانت توجد أماكن لبيع الخمور وبيوت لبائعات الهوى، لكنها أغلقت في النهاية حينما أفلست بسبب قلة روادها وشيوع الهدى والنور..
أما اليوم فأصبحت المرأة تعامل كما في الديانة اليهودية، تعامل كنجاسة وكحفيدة من أخرجت “بونا” آدم من الجنة وتسبب بهبوطه إلى الأرض، فهي إذا كانت من غير حجاب، يطالبون بتحجيبها، إذا تحجبت فهذا حجاب متبرج عليها أن تلبس النقاب، إذا تنقبت عيناها فتنة، عليها الإسدال وتدبر أمرها في المشي والتنقل لقضاء الحوائج، وإذا أسدلت فجلبابها الطويل الفضفاض يفصل عظامها وهذا يجعل سعادة الرجل المبجل يتخيل شكل جسدها، إذن عليها أن تقر في بيتها ولا تخرج.. مما يعني وبالمختصر المفيد: إحياء شعيرة الوأد الحلال..
بالأمس القريب، لم يكن هناك هذا الهوس والخوف غير المبرر من الجنس الآخر، أما اليوم “قال ليك” ليس عليها أن تدرس، فالمدارس في هذا البلد السعيد مختلطة، وبما أن ما فيه إمكانية لفصل الجنسين وبما أن بعضهم يظن أن ما يجول في خاطره هو نفسه الذي يصول في بال بنات الناس، وجب بالتالي حرمان المجتمع من المعلمة والطبيبة والبائعة.. الخ، وبسبب هذا يقع أخونا في حيص بيص إذا مرضت زوجته أو أراد أن يعلمها أبجديات التعامل مع جلالته وفك رموز الكتب التي تعينها على القيام بنصيبها في المملكة السعيدة..
في الماضي كان المسلم إذا سمع من يهاجم الدين ويسب الله عز وجل أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة وأمهات المؤمنين، يشتد إيمانه ويزداد صلابة “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ“، يزداد حرصه على طلب العلم للردّ على الشبهات، معرفة النصوص التي اعتمد عليها في سمته وهديه ودله، التشبث بعلماء الأمة وركائزها، نجومها المنيرة وشموسها المضيئة، أما اليوم فأي شخص يغير على ثغور الأمة يتسبب أول ما يتسبب في هلاك بعض الملتزمين، فمن يهاجم الدين في أيامنا هذه هم أناس يستغلون الشبهات والشهوات، يتكلمون بعلم ودهاء فيرد عليهم بلا علم ولا تدبر، وبما أن معظم ملتزمينا يرون العلماء عملاء بلاط، فوقوعهم يكون سهلا جدا وسقوطهم مدويا، ما بين متابع قانونيا، ومنتكس عقائديا، ومنتحب “علاش يقولوا هاكدا”..
كونهم لا يعرفون كيف يرودون على المخالف ولا كيف يبطلون المزاعم، ولا كيف يضربون في مقتل فيصيحون “فزنا ورب الكعبة”.. لم يهتموا بما كان يهتم به من سلف: ربط العلم بالعمل لا يتجاوزون عشر آيات إلا بعد معرفة ما فيها من العلم والعمل. ليس كما يجري في عصرنا هذا، حفظ القرآن في أوقات جد قياسية، حفظ القرآن في 60 يوما أو في 90 يوما، والتنافس على عدد الكتب المنتقاة التي يتم تزيين الرفوف بها..
بالأمس وضع عبد الله بن حذافة السهمي في سجن قيصر الروم، ووضعت معه أجمل فتاة “رومية”، فما تحرك ولا تأثر رغم كونه شابا في عز شبابه، غائب عن أهله منذ فترة طويلة، حتى خرجت الغانية تشتكي منفعلة: “ما أدري أأنثى أنا أم ذكر..ا، وضعتموني مع ذكر أم حجر؟!“، أما اليوم فأول ما يبدأ به الأخ الفاضل هو الشكوى من المتبرجات والعاريات، كأول درجة في سلم التدين، وقد تناسى المسكين بأن الله عز وجل أمر بغض البصر لكنه لم يأمر بتغطية كل متعرية وحجب كل متبرجة، ومن همّه العفاف ويعرف أن عليه غض بصره لن يضيره أن يوضع وسط كومة من اللحم الأحمر أو الأبيض أو الأزرق، ، أما من يفتح عينيه على مصراعيهما كلما مر طيف أنثى، فيحرص على إعطاء النظرة الأولى حقها ومستحقها، وكلما توارت أنثى ظهرت أخرى وفوق كل ذي جمال جميل، وأخونا في الله “مكانك راوح” حتى إذا التقى بأصحابه اشتكى من كثرة المغريات وشدة الفتن، ولو جمع عينيه واشتغل بما ينفعه لكان أسلم وأكمل، واللي دق الباب فلينتظر الجواب..
أما أخونا اليوم فلو وضع مع فتاة “طرزانة” من أعماق الموزمبيق لتذرع بالفتنة ليأتي المنكر، حتى إذا سمع قصص الصحابة التابعين وشدة ورعهم لاعترض على مقارنته وهو المسكين الضعيف بأولئك الجبال الشمخ، لكنه لا يلبث إلا قليلا حتى يتقدم إلى فتاة وفي يده خاتما من حديد، بدعوى “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه“، وكأن دينه وخلقه مزممان عند كاتب عدل على جبينه، فالدين والخلق في قاموس حضرته هو المظهر..
فالحاصل أن ما يلاحظ على بعض ملتزمي اليوم لا يبشر بخير، فمن لا يقدر على الصمود أمام صورة فتاة محجبة لا تضع ما يستوجب الفتنة، كيف له أن يصمد في مواطن القتال وجبهات الجهاد؟ كيف له أن يثبت أمام عميلات الموساد أو باسيج إيران؟
بل وكيف سيصمد أخونا في الله أمام شبهات العلمانيين وتخاريف الروافض المجرمين؟ هل “سيعطيها” للبكاء والنحيب والشكوى والتذمر كلما داس له أحد على طرف؟ “شحال يقدو” يتجنب النساء ويهرب من مواجهتهن وكأنهن سيفتكن به إذا وقع بين أيديهن؟ هل الهروب هو الحل الوحيد أم المواجهة والقيام بأسبابها من غض للبصر، الصبر على الأذى، طلب العلم النافع وعقد الركب عند كبار العلماء الربانيين..
المرأة ليست الخطر الوحيد، ومن السهل تجنب الفتنة اللهم إلا من يبحث عنها، qui” cherche trouve” وسماع الأذى ليس شيئا غير اعتيادي، فبالأمس كان هناك من يمشط لحمه عن عظمه ولا يحيد عن عقيدته، وكان هناك من تسعر الأخاديد ثم يرمى فيها أعز الأشخاص لديه ثم يرمى هو الآخر ولا تهتز قناعته، وبالأمس كان هناك من يهجو ويهاجم ويتطاول ويتواقح لكن السلف كان منهجهم في الرد “الرد ما ستراه لا ما ستسمعه”..
ولم نرجع إلى الأمس، دعنا نبقى بالعصر الراهن، وجه نظرك إلى أرض الشام وانظر كيف يدفن الشاب حيا حينما رفض رفضا باتا أن يشهد أن بشار هو الله، والآخر أضرموا فيه النار وهو حي ثم ذبح وما حاد ولا تزعزع وهو يجود بالنفس الأخير، وانظر كيف يقتل الفلسطيني بالعراق على يد عصائب الإجرام وهو ثابت مرابط يأبى أن يشمت الرافضي من دينه وملته، وانظر إلى ذلك الشيخ العراقي السني المسن الذي رمي في الفرن ليحترق حيا وما نقموا منه إلا أن اسمه “عمر”.. “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ؟؟؟؟”.