العقيدة الزَّبيديّة
ذ. طارق الحمودي
هوية بريس – الخميس 06 نونبر 2014
بسم الله الرحمن الرحيم، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم مؤديا أمانة التبليغ أتم أداء، وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فكان حيا أمانا لأمته من الضلال والانحراف، وبعده كان أصحابه أمنتها إلى حين، ومرت القرون الثلاثة الخيرة، وانزاحت أستار العصمة، وتسلل إلى الأمة التكلف والإحداث في دينها، وظهر فيها علم الكلام والفلسفة، فأفسد كثير منه عقائد الناس وتوحيدهم، وأصاب بياضها سواد، إلا صبابة من أهل العلم والإيمان، وقفت عند الحد، وراعت الحرمة، ووفت بالعهد، جريا على طريقة القرون الأولى ومن تلاهم من أئمة الدين المتبعين.
وقد تولى علم الكلام كبر هذا الانحراف حين تحول من منافح عن التوحيد إلى منتج للعقائد الكلامية المنطقية، وقد تنبه بعض فضلاء المذهب الأشعري إلى الضرر الحاصل من تسويد بياض العقائد في عقول الناس به، فدعوا إلى تخفيف العبء ورفع المؤنة، وكان منهم العلامة مرتضى الزبيدي اليمني[1]، فقد ضمن شرحه على الإحياء رسالة مختصرة في المعتقد، تقرب من أن تكون على هدي السلف، سوى مواضع شابها تكلف، وقصدي بنشرها تنبيه إخواننا ممن خرجوا بعلم الكلام عن طوقه، أن يحملوا الناس على سلامة المعتقد، وأن يردوهم إلى الكتاب والسنة.
وقد استللت المعتقد، وعلقت عليه تعليقات قليلة ليناسب نشره في صحيفة، وسميتها (العقيدة الزبيدية) نسبة إلى مصنفها، والله الموفق للصواب.
يقول المرتضى الزبيدي:
خاتمة الفصول، ذكرت فيها عقيدة مختصرة لي أحببت إدراجها هنا اقتداء بالأئمة الأعلام وإشارة برزت لي بإلهام في المنام أسأل الله تعالى أن يتقبلها مني بمنه، ويحلني بها في أعلى الفردوس مع أمنه وهي هذه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، الحمد لله رب العالمين، مدبر الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على رسوله محمد النبي الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الأكرمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فهذه جملة عقائد الدين، وأركان عموده المتين، ومدارها على ثلاثة، الإيمان والإسلام والإحسان، لحديث جبريل عليه السلام المخرج في الصحيحين، فأول ما يجب على المكلف الإيمان[2]، وهو التصديق الباطني بكل ما جاء به النبي مما علم بالضرورة إجمالا في الإجمالي، وتفصيلا في التفصيلي، والإجمالي لابد منه لصحة الإيمان ابتداء، كأن يقول: «آمنت بالله كما هو بأسمائه وصفاته»، والتفصيلي يشترط فيه الدوام، والأعمال مكملات[3].
والمؤمَنُ به خمسة في الحديث المذكور، الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وزيد في بعض الروايات والقدر خيره وشره، فالإيمان الواجب أولا على كل عبد لله هو التصديق بالله تعالى بأنه واحد أحد، لا شريك له موجود، ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، منفرد بالقدم بصفاته الذاتية والفعلية، فصفة فعله التكوين[4]، وصفات ذاته حياته وعلمه، وقدرته وإرادته، وسمعه وبصره وكلامه، حي عليم قدير، والكلام له باق، سميع بصير[5]، ما أراد جرى، أحدث العالم باختياره، منزه عن الحد والضد والصورة[6]، لا يكون إلا ما يشاء، لا يحتاج إلى شيء، وهو حليم عفو غفور.
والإيمان بالملائكة بأنهم أمناؤه على وحيه، وبالكتب المنزلة بحقيقة ما فيها، وبالرسل بأنهم أفضل عباد الله، وباليوم الآخر بشرائطه وتوابعه، وأوله حين قيام الموتى، وما بين ذلك إلى وقت الموت فهو البرزخ، والإيمان بالقدر بأن كل ما كان ويكون فبقدرة من يقول للشيء: «كن فيكون»[7].
وأما الإسلام فهو التسليم الظاهر لما جاء من عند الله على لسان حبيبه صلى الله عليه وسلم، وهو الشهادتان للقادر عليهما، وأقام الصلاة بشروطها وأركانها، وأداء الزكاة بشروطها وأركانها، وصوم رمضان بشروطه وأركانه، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا بشروطه وأركانه.
وأما الإحسان فأن تعبد الله كأنك تراه بغاية المراقبة ونهاية الإخلاص، والتمسك بالتقوى، فإنه السبب الأقوى، فالإيمان مبدأ، والإسلام وسط، والإحسان كمال[8].
والدين الخالص عبارة عن هذه الثلاثة، هنيئا لمن صح إسلامه، ونال من الدين أدنى نصيب، أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام وحج وزار الحبيب، فهذا جملة ما يجب اعتقاده في أصول الدين، وما عدا ذلك خوض فيما لا يليق، والبحر عميق، والسفر طويل، والزاد قليل.
فعليكم إخواني بدين الأعراب والعجائز[9]، هدانا الله وإياكم إلى الطريق الأقوم والإثابة بأسنى الجوائز، هذا وقد جف عرق جياد الأفهام، وقطعت صحاري الطروس[10] مطايا الأقلام، واستراح العقل عن نكر الاستنهاض، واعشوشب روض الآمال وارتاض، بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء لخمس بقين من شهر رجب سنة 1197 هـ بمنزلي بسويقة لالا[11].[12] انتهى.
[1]– هو محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني أبو الفيض الزبيدي الملقب بالمرتضى، أصله من العراق، ولد بالهند ونشأ بزبيد في اليمن، رحل إلى الحجاز وأقام بمصر، وكان مقدما عند أهل المغرب خاصة، من كتبه (تاج العروس في شرح القاموس) و(إتحاف السادة المتقين) وغيرها، وتنظر ترجمته في أعلام الزركلي (7/70).
[2]– عرفه المصنف بتعريفه المقابل للعمل الظاهر، وإلا فالإيمان جملة قول وعمل كما صح عن الأئمة كمالك في قوله: «الإيمان قول وعمل»، فالعمل من حقيقة الإيمان الشرعية، ويدخل تحت العمل أعمال القلوب والجوارح، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} البقرة؛ والمفسرون متفقون على أن المقصود بالإيمان هنا صلاة من صلوا إلى بيت المقدس وماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة.
[3]– المكملات نوعان، مكملات واجبة ومكملات مستحبة.
[4]– وتحتها الخلق والرزق والتدبير.
[5]– صفاته أكثر من هذه، وأسماؤه كذلك، إنما نبه بالبعض عن الكل.
[6]– الأولى ترك إطلاق هذه العبارات، فلم ترد لا في كتاب ولا سنة ولا قول أحد من سلف الأمة.
[7]– لقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} سورة النحل.
[8]– عكس بعض العلماء هذا، فجعلوا الإسلام مبدأ والإيمان وسطا.
[9]– قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين(1/132): «قس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا». ثم يفصل القول في مضرته ومنفعته…فيقول (1/136): «أما مضرته: فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم…فهذا ضرره في الاعتقاد الحق..أما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف».
[10]– جمع طرس قال الزبيدي في تاج العروس: «الطِّرس، بالكسر: الصحيفة».
[11]– حي من أحياء القاهرة، وهذا يعني أنه كان يشرح الإحياء في مصر.
[12]– إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (2/286-287/مؤسسة التاريخ العربي/ط1414-1994).