مقتطفات أدبية للهجرة النبوية
هوية بريس – بوجمعة حدوش
الثلاثاء 11 نونبر 2014
بلغ الأذى منه مبلغه، عاده قومه وبالغوا في إيذايته والنيل من أصحابه، كان يُحزنه أن يرى أصحابه منهم من يقتًّل، ومنهم من يعذب، ومنهم من يُنكّل به ولا يستطيع فعل شيء، لكنه كان يعلم أن ربه معه، لن يتركه لن يتخلى عليه أبدا، زادوا في غيهم وطغيانهم، فكروا في حصاره، فعلوا ذلك، ثلاث سنوات وهو محاصر في شعب أبي طالب، وهو صابر محتسب، حتى قدّر له ربه أن يخرج منه..
انتهى الحصار لكن لم تنته الآلام، لم ينته الحزن، آه، ابتلاء جديد، عمه أبو طالب على فراش الموت، عمه الذي كان سنده بعد الله سبحانه، كان حصنه الحصين، لكن عمه على غير ملته، ذهب إليه لعله يُنقذه من النار، “أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله”، لكن مشيئة ربه قضت أن يموت على غير ملته، آه، كم هي صعبة عليه هذه اللحظات. حزِن على عمه، وما كاد يخرج من الحزن عليه حتى منيّ بابتلاء آخر، وفاة أعز الناس على قلبه، أحبهم إليه زوجه خديجة، التي كانت تؤنس، تصبره، تحبه أشد ما تحب المرأة زوجها، ما زال يتذكر يوم نزل من الغار خائفا وجلا فلم يجد حينئذ من يؤنسه ويقف بجنبه غير هاته التي صعد روحها الطاهر إلى ربها.
صبر على مصابه وأكمل مسيرته الدعوية، ذات يوم ذهب إلى الطائف، ماشيا على قدميه، يريد قومها لعلهم يدخلوا في دينه، دين الحق، فلم يُجبه لذلك أحد، ويا ليتهم قنعوا بذلك، لكنهم استهزأوا به وأغروا به أطفالهم وعبيدهم وسفهاءهم، فتبعوه يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة. لم يكن أحد منهم يعرف قدره ولا منزلته ولا شرفه ومكانته، ولو عرفوا ما فعلوا، أو ربما عرفوا وتجاهلوا ذلك، لكن لحسن حظهم أن من صفاته الرحمة. فقد أتته قوة من ربه تخيره في أن يفعل فيهم ما يشاء، لكن لم تخطر له خاطرة الانتقام إطلاقا، بل دعا ربه أن يكون منهم من هم خير منهم، وعاد أدراجه إلى موطنه.
إنه يعيش أياما صعبة حقا، وفاة عمه، وفاة زوجته، تكذيبه من أهله وعشيرته وقومه، استهزاؤهم به، ومع ذلك كان دائما قويا، لم يشك يوما أنه على غير الحق، أو أن ربه قلاه، كان يعلم أن أصحاب الحق هكذا يعاملون، وأن الباطل مهما انتفخ، سيأتي يوم ينتصر فيه الحق، كانت تلك عقيدته.
في هذه اللحظات الصعبة والإيمان الراسخ بربه، أتته هدية عظيمة من ربه، وليس أجمل من أن تأتيك هدية من ربك، لقد أراده ربه أن يقوم برحلة تُنسيه كل مآسيه، رحلة قصيرة فيها من الأنس والخير مالا يُحصى عده، إنها رحلة الإسراء والمعراج. ركب براقه البرّاق الجميل المسرع فأسرع به إلى بيت المقدس، وهناك صلى إماما بالأنبياء، نعم أنت الإمام رغم ما فعله بك قومك، لا يعرفون قدرك، لابأس ربك يعلم قدرك. صعد به البراق إلى السماوات العلى، حيث التقى ببعض إخوانه الأنبياء، فرح كثيرا بملاقاتهم، وأكثر ما أفرحه وأسعده وأنساه كل الصعاب التي حصلت معه في دعوته هو أن ربه أراده أن يكون قريبا منه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، آه، ما اسعده في هذه اللحظات إنه مع حبيبه مع مولاه، نعم كان يعلم علم اليقين أن ربه سينصره، وها هو بريق النصر يلوح له في الأفق. سيعود الأن إلى قومه وبداية النصر مرسومة بين عينيه، بل يراها رأي العين.
في يوم من الأيام وهو في مكة جاءه قوم من يثرب، كانوا قد التقوا به من قبل، ووعدوه أن يأتوه في الموسم القادم من الحج، جاءوا وقد أرادوا أن يبايعوه، فبايعوه وعادوا إلى موطنهم وفي قلوبهم من السعادة والحب والوفاء له ما لا يصفه واصف، وذهب معهم سفير الإسلام للقيام بالدعوة هناك. وفي الموسم الآخر من الحج جاء من يثرب إلى مكة نفر كثير ممن أسلم، وهم يتساءلون: “إلى متى نتركه يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف”، فعزموا على أن يذهب معهم إلى يثرب، وفي إحدى لقاءاتهم به وإصرارهم على هذا الأمر، شرح لهم العباس: وكان ممن حضر، ووضح لهم أن ما تعزمون عليه فيه خطر كبير، فإن كنتم على قدر المسؤولية فذاك، وإلا فاتركوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. وقد كانوا حقا على قدر المسؤولية ومستعدين للتضحية.
بدأت طلائع الهجرة تلوح في الأفق، يا الله سيترك موطنه سيترك أحب البلاد إليه، بدأ المسلمون يهاجرون، يتركون مصالحهم وأموالهم وراءهم، سرا يهجرون، متخفين يسرون، علّهم ينجون من بطش قومهم، إلا رجلا قويا اسمه عمر، لم يهاجر سرا ولا خفية، هاجر جهرا، ذهب إلى قومه وأخبرهم بأنه مهاجر، فإن كان منكم من يريد أن تثكله أمه وييتم ولده وترمله زوجه فليتبعني إلى ذلك الوادي، هه، لم يتبعه أحد.
تفاقم الخطر على القوم، “قريش”، خطر يهدد كيانهم، كيف يمكن القضاء على هذا الخطر؟ عقدوا برلمانا عاجلا لمناقشة المستجدات، وفي البرلمان وجوه كثيرة معروفة ونواب قبائل، تكامل الاجتماع، بدأ عرض الاقتراحات والحلول، نخرجه، ننفيه، نحبسه في الحديد ونغلق عليه الباب، رفض البرلمان هذه الاقتراحات، لكن بعد ذلك وافق أعضاء البرلمان على اقتراح خطير، نصه: أن يجتمع من كل قبيلة شابا يُعطى له سيف مسموم فيضربوه ضربة واحدة ثم يقضوا عليه، فيتفرق دمه في القبائل.
بدأ تنفيذ القرار الصادر من البرلمان، فتم تطويق منزله ليلا، وكان يعلم بمجريات الأحداث وما أقدموا على القيام به، ومع ذلك لم يخف ولم ينزعج إطلاقا، فرحلته إلى ربه مازالت بين عينيه، والنصر كانت تلك بدايته، واليقين يملأ فؤاده، فلماذا يخاف وربه ناصره ومؤيده. طلب من ابن عمه أن ينام على فراشه، ففعل، خرج واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة تراب فجعل يذره على رؤوسهم، وذهب إلى حال سبيله، والقوم في مكانهم ينتظرون خروجه، حتى جاء أحدهم يخبرهم بما فعل بهم، تعجبوا لذلك، دخلوا بيته، وإذا بالخيبة تتجلى لهم، هذا ابن عمه نائم في فراشه.
غادر هو وصاحبه من بيت صاحبه إلى غار يسمى غار ثور ونام فيه، وقرر القوم في جلسة طارئة أن تكون جميع منافذ مكة تحت المراقبة المسلحة الشديدة، ومكافأة لمن يأتي به حيا أو ميتا، تبعه القوم يبحثون عنه، يا ألله إنهم على باب الغار، يقول صاحبه لو أن أحدهم طأطأ بصره رآنا، لكن لمن يُقال هذا، ألهذا الذي امتلأ قلبه يقينا وأملا؟ ألهذا الذي لم يشك لحظة في أن ربه معه ناصره، “ما ظنك باثنين الله ثالثهما” الله دائما معه لن يتركه أبدا، فليمضي حيثما أراد وأينما شاء.
وقفت دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات القوم، خرج هو وصاحبه والتقوا بدليل ماهرا بمعرفة الطرق، يا ألله لن يكون مطاردا من بعد اليوم، ستكون له دولة دينها الرسمي الإسلام، سيعيش فيها أهلها في حب وسلام، سيعيشون تحت ظلال دولة الإسلام دولة الحق والشريعة والعدل.
زحف المسلمون في المدينة لملاقاته واستقباله، ما أشد فرحتهم حينما يرونه، ها هو لقد اقترب وصوله، وصل، طلع البدر علينا، طلع نوره الوضاء، ليس في المدينة يوم أفضل من هذا اليوم، ولا أجمل، في هذه اللحظات اختلطت دموع الفرحة بمشاعر الوفاء والحب، تعانق مع أحبته فرح بهم وفرحوا به، أحسنوا ضيافته، أحبهم كثيرا. هذا هو بلده الجديد وهؤلاء قومه، لقد أكرمه ربه بكل هذا، ومن اليوم هذه دولته دولة الإسلام، دولة ينعم فيها أهلها بتحكيم شرع ربهم فيها. وهكذا كانت هجرته فتحا عظيما عليه أعزه الله بها وأتباعه وأذل بها أعدائه.