الدبّ عن السنة في مقابل البدعة أفضل من الجهاد
ذ. محمد بوقنطار
هوية بريس – الإثنين 17 نونبر 2014
ربما احتجنا إلى أن نذكر في بداية مشوار هذه السطور بالتنبيه على أن قول من قال أن الأشاعرة وافقوا المعتزلة في جملة من المسائل في مقابل ما سجل عليهم من مخالفات بالتفصيل لأهل السنة، أنه قول يلزم منه ذكر أن قضية هذا الخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة المحضة هو خلاف لا يمكن اختزاله كما هو الغالب على تصور الخائضين عند ذكر التمشعر في مسائل الصفات فقط، بل يجب أن يكون المقصود عند التطرق إلى هذا الخلاف وتوصيف حجم الفجوة بين هذا النوع من الاعتقاد وسبيل الحق هو التعرض ابتداء إلى الحسم في مسألة التلقي عند القوم والرد إلى مصادر الأخذ والاعتبار لديهم.
إذ من حسنات هذا الحسم التعجيل بإسقاط قناع دعوى نسبة الكثير من رسوم وأعيان أهل العلم والرسوخ إلى معتقد الأشعرية، سيما وأن الالتباس واقع بالنظر إلى حقيقة وجود بعض أهل العلم وقد وافقوا القوم في قولهم في الإيمان أو تأويل بعض من الصفات في بعض شروحاتهم على الصحاح أو المساند أو السنن، وكان المشهور مع هذا الشذوذ على مستوى منهجهم في الاستدلال اعتقادهم بالكتاب والسنة وتحكيم فهم سلف الأمة لهما.
ولعل الإنصاف هنا ألا ينسب الرجل منهم فيقال فلان أشعري، بل قد يقال: أن فيه أشعرية، وإلا فالأشاعرة لا يستدلون بالكتاب والسنة في مقابل تحصيلهم الاعتقادي، بل مدار الأمر عندهم الاستدلال بالقواعد المنطقية والأصول الفلسفية، فلا يكمل إيمان المكلف بله إسلامه إلا باستعمال هذه القواعد ومطالعتها وتحقيقها واكتساب مهارة النظر بها على الحصر، بل ذكروا أن الصلاة وسائر قوانين الشريعة لا يعتد بقيام المرء بها إلا بعد معرفته ربه بدليل العقل، وأول الفروض عليه النظر في الأدلة ليعرفه بعد سبق شك ولذلك متى ما اشتغل بالفروع قبل إحكام الأصول لم ينتفع بشيء في مقام الامتثال.
ولعلنا نستحضر عند هذا المنعرج ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض عن الإمام ابن حزم إذ قال:
«وأما الأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم، وتقشعر منه جلود أهل الإسلام؛ وتصطك منه المسامع؛ ويقطع ما بين قائله وبين الله وهو أنهم قالوا: لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ… ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم؛ فقالوا غير مساترين: لا يصح إسلام أحد إلا بعد أن يكون بعد بلوغه شاكا غير مصدق».
ثم عقّب قائلا: «وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم، إنه لا يكون أحد مسلما حتى يشك في الله عز وجل وفي صحة النبوة وفي هل رسول الله صادق أو كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء، إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر، ولا يصح التصديق إلا بالجحد، ولا يوصل إلى رضا الله عز وجل إلا بالشك فيه، وأن من اعتقد موقنا بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو وأن محمدا رسول الله وأن دين الإسلام دين الله الذي لا دين غيره فإنه كافر مشرك».
ثم استطرد موقعا على هذا البغي بغير حق قائلا: «نعوذ بالله من الخذلان فوالله لولا خذلان الله -الذي هو الغالب على أمره- ما انطلق لسان ذو مسكة بهذه العظيمة».
وهب ببرهان الافتراض أن الإيمان لا يكمل والإسلام لا يصح إلا بعد استعمال النظر والاستدلال بقواعد أهل الكلام على مذهب الأشاعرة ومناهج أصولهم من جوهر وعرض وحدوث، فمن الذي منع النبي عليه الصلاة والسلام في مقام البيان والتبليغ بضابط الاستقامة على وفق الأمر أن يستعمل دليل الأعراض وتعلقها بالجواهر وهو الذي أمره ربه جل جلاله إذ قال: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته».
إن التسليم بصحة هذا الافتراض وفي ظل انعدام وغياب هذا النمط من الفكر وعدم ورود ملحظه في دعوة النبي صلوات ربي وسلامه عليه لا من طريق تواتر ولا آحاد ولا مرفوع من أثر صاحب ولا من وجه صحيح أو حتى سقيم، تسليم يجعلنا أمام تحصيل حاصل مفاده أن النبي وحاشاه ما امتثل أمر ربه فما بلغ إذا رسالته نعوذ بالله من الكذب على رسوله.
يضاف إلى هذا كبيرة اتهام التعبد أخذا بظواهر النصوص على وفق أن الله خاطبنا بما أراد إفهامنا خلافه، أليس هذا من جنس نصب الفخاخ وضرب الشراك لتترادف زلات العباد ويدفع المكلفون بالوحي لا بغيره صوب الكفر فتتحرك آلة التأديب والعقاب قدرا لا شرعا، وظلما لا عدلا في تقابل يقدح أول ما يقدح في حقيقة وصف القرآن بالتيسير لمن أراد أن يتدبر فيذّكر ويعتبر وما يلزم من هذا التيسير بالنسبة للألفاظ، وبه تم ويتم الحفظ للمعاني فيتسنى الفهم وللأحكام وبه يتم مقصود الامتثال ويكتمل الإيمان، تصديقا بالجنان، وقولا باللسان، وعملا بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص باتباع الهوى وإقعاد الشيطان، وأين هذا من زعم القوم في الإيمان وحصره في مجرد التصديق؟
ولا غرابة بعد إخراج العمل من مسمى الإيمان أن يتخذ القوم توحيد الألوهية ظهريا، إذ التوحيد عند الأشاعرة كما هو المشهور أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا نظير له، ولا عجب في ظل هذا الإلغاء أن تعج المجتمعات التي ينتشر فيها التمشعر ويدفع به إلى الأمام بدعم رسمي لكثير من تجليات الشرك، وأن تتناسل في سوق تدينه البدع والمحدثات، ويئن التوحيد وأهله تحت وطأة سدنة الشرك وحراس المشاهد ومرابطي القباب والأضرحة ومؤسسي الموالد الحائفة، وربما في غير حاجة وبكل تجرد وتوقف نقلنا قول من ذهب إلى ربط كبيرة مخالفة الأشاعرة لأهل الأثر في باب الصفات بارتفاع حالات الانتحار داخل المجتمعات التي تعتقد بعقيدة الأشاعرة مبررا ما ذهب إليه بضعف وازع التوكل على الله إذ التوكل ثمرة من ثمرات إثبات حقيقة الصفات والتعبد بظواهر معانيها.
ولعلنا في ذيل مشوار هذه السطور نحتاج إلى أن نستدرك افتراضا على من رمى جهد المقل في هذا المقام وكونه ساعيا بهذا الجهد إلى النفخ في موقد الشقاق وبؤرة الافتراق واستثارة الفتنة، بدل السعي في صوب الاجتماع في دائرة قليل اتفاق والمعذرة في دائرة كثير اختلاف، ولا شك أن الأصل المنشود والواجب المطلوب هو توحيد صفوف المسلمين وجمع كلمتهم واعتصامهم جميعا بالعروة التي لا انفصام لها وحبل الله الذي أمرنا بالعض عليه تجنبا للفرقة والافتراق حيث أمر سبحانه: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» وحذر سبحانه من الافتراق وقال: «ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات».
ولكن وما أثقل الاستدراك على النفس في مثل هذه المواطن بعد ذكر ما سبق من الحواضن.. فأي حبل هو موضوع الاعتصام وقد ألقى الكل بحباله وتخيل فيها السعي المحمود وادعى الاستئثار بالحق وظن ما ضده هو الباطل، وما دونه غثاء لا مكث له في الأرض ولا انتفاع للناس به، ويا ليت هذا الاستئثار احتمى بقلعة الكتاب والسنة ولكنها الأهواء تحكمها الأهواء وتتجارى بها الأهواء.
فهل يكون السكوت والحال هذه من فضة أو ذهب كما هو مضرب الأمثال؟ وهل ينفع مواراة الخلاف والظهور للعدو بمظهر الوحدة والائتلاف؟
حتى إذا ما تحركت الأرض من تحت أقدامنا أتى الله على بنياننا من القواعد فخر علينا السقف وتداعت علينا جدران الشبهات وكنا حينها لقمة سائغة لكل متربص، ذلك أننا قوم لم نتعاون على البر والتقوى وتعاونا على الإثم والعدوان بدعوى الخوف على الأمة من داء الافتراق، ذلك الخوف الذي لم يكن صنيع ولا دأب سلفنا الذي رفع عقيرة التصدي في غير تشظي لكل دخيل ومحدث حتى كان يحيى بن يحيى يقول «الدب عن السنة أفضل من الجهاد».