ذكرى الاستقلال.. قراءة في مشاورات «إكس ليبان»
إعداد: نبيل غزال (أسبوعية السبيل)
هوية بريس – الثلاثاء 18 نونبر 2014
لماذا اخترنا هذا الملف؟
اخترنا هذا الملف كي نسلط الضوء -ولو بشكل سريع- على مرحلة تاريخية عصيبة عاشها المغاربة؛ وكان ولازال لها الأثر البارز فيما نعيشه اليوم من أحداث..
إنها مرحلة حري بكل من يسعى إلى فهم واقعه وإصلاح ما فيه من خلل وتشوهات أن يقف عندها مليا..
تلك هي مرحلة مفاوضات «إكس ليبان» التي دعا لها رئيس الحكومة الفرنسية «إدكار فور» في غشت 1955م وحشد لها ممثلي الاتجاهات المغربية جميعا.
ففي سنة 1954 إبان الاحتلال؛ لم تكن الحالة التي وصلها المغرب تطمئن الفرنسيين؛ كما قال روم لاندو في تاريخ المغرب في القرن العشرين، لأن أعمال العنف تعاقبت بانتظام، ولم يكن أحد يعرف عنه الميول للفرنسيين يأمل أن تطلع عليه شمس يوم جديد، وكذلك لم يكن باستطاعة المستوطن الفرنسي الذي يسكن بالبادية -على مسافة من المدينة- أن يتنقل دون سلاح.
كما أن مقاطعة البضائع الفرنسية كانت تشتد باستمرار، وأعمال تخريب ممتلكات الفرنسيين والخونة كانت منتظمة في حدوثها. وارتفعت عمليات الجهاد ضد العدو الفرنسي بشكل بارز؛ خاصة بعد نفي الملك محمد الخامس.
وقد كانت الآلة الإعلامية الغربية حينها تشوه صورة المقاومة بشكل فج؛ واعدى المراسل الخاص لجريدة وال ستريت جورنال النيويوركية مثلا في رسالة من المغرب أن القومية المقرونة بالعنف أحب إلى الأهلين من الحركة السلمية التي سبقتها، وأنه: (عندما أخذ الحزب باللجوء إلى الإرهاب مؤخرا صارت له قاعدة شعبية واسعة).
كما ظهرت خلال هذه الفترة الدعوة بشكل علني وسافر إلى تبني اللادينية؛ خاصة في المجال السياسي، الأمر الذي قبله رد من بعض الوطنيين والغيورين على عقيدتهم الاسلامية.
فلا يمكننا من خلال وريقات هذا الملف أن نغطي كل ما حف هذه المرحلة من ملابسات، ولا أن نقف على كل ما تلاها من تداعيات، لكن يكفينا أن نثير فضول القارئ وننوره ببعض المعلومات، وندفعه إلى مزيد بحث وسؤال حول هذه المفاوضات.
مفاوضات «إكس ليبان».. التاريخ والفكرة
كانت الهزيمة التي منيت بها القوات الفرنسية في ديان بيان فو خلال سنة 1954م سببا إلى عقد اتفاقات جنيف (استقلال الهند الصينية)؛ وفي ذلك الخضم جاء «بيير منديس فرانس» بحل للأزمة الفرنسية التونسية بمنحه الاستقلالية الداخلية للوصاية على العرش، ومع مستهل نونبر 1954م بدأ عصيان في المقاطعات الجزائرية الخاضعة للإدارة الفرنسية، وباتت القضية المغربية قنبلة حقيقية، كان من تجلياتها الانتفاضة التي اندلعت بمناسبة الذكرى الثانية لنفس السلطان بـ«فليب فيل» في الجزائر وبين الأمازيغ في الأطلس المتوسط؛ خنيفرة ووادي زم سقط فيها عشرات القتلى من الأوربيين؛ ليُنتقم لهم بقتل الآلاف من المغاربة.
وفي 22 غشت دعا رئيس الحكومة «إدكار فور» ممثلي الاتجاهات المغربية جميعا إلى المشاركات في محادثات «إكس ليبان»؛ حيث فرض الوطنيون أنفسهم بكونهم المحاورين الحقيقيين الوحيدين، ثم كان التوصل في 28 غشت إلى اتفاق يقضي برحيل بنعرفة وضرورة إرجاع محمدا الخامس إلى باريس، درءاً لتفجر الحكومة الفرنسية.
وكان الوفد الفرنسي المفوض الذي حضر مناقشات «إكس ليبان» يتكون من «إدكار فور» رئيس الحكومة، وبيناي وزير الشؤون الخارجية والجنرال «كوينغ» وزير الدفاع و«روبير شومان» و«بيير جولي»، بينما كان الوفد المغربي يتشكل من 37 شخصية كان من بينهم مبارك البكاي والحاج الفاطمي السليماني، والحاج محمد المقري إضافة إلى ممثلي الأحزاب عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازيدي وعمر بن عبد الجليل والمهدي بن بركة من جانب حزب الاستقلال وعبد القادر بن جلون وأحمد بنسودة وعبد الهادي بوطالب ومحمد الشرقاوي من طرف حزب الشورى والاستقلال، إلى جانب الشخصيات السياسية وجد بعض العلماء كالسيد جواد الصقلي وحميد العراقي.
كان المخطط الذي خرجت به مفاوضات «إكس ليبان» ينتظر لكسب الشرعية القانونية، المصادقة من طرف سلطان المغرب الشرعي. فمادام أن السلطات الفرنسية قد وقعت معاهدة الحماية مع السلطان في شخص مولاي عبد الحفيظ سنة 1912، فقد كان لزاما عليها من الناحية القانونية أن يتم التفاوض على مبدأ الاستقلال مع الملك محمد بن يوسف.
أرسل الجنرال «كاترو» في مطلع شهر شتنبر إلى «أنسيرابي» لانتزاع الموافقة من السلطان المخلوع على اتفاقات «إكس ليبان» وهو ما كان، واستقال ابن عرفة في 01 أكتوبر تاركا مكانه لذلك المجلس الخرافي (مجلس العرش) الذي ضم الباشا الكلاوي والصدر الأعظم المقري ومبارك البكاي ممثلا للسلطان، وقد أدى انقلاب الباشا الكلاوي إلى جانب السلطان إلى التسريع من وثيرة الأحداث، فقد طالب حزب الاستقلال في 26 أكتوبر بالعودة الفورية لمحمد بن يوسف إلى العرش، وما أن عاد إلى «نيس» في 31 أكتوبر حتى بدأ الإعداد للمفاوضات مع الحكومة الفرنسية.
وقد أدى قرار الإقامة العامة بنفي السلطان محمد بن يوسف، والذي تم في فترة متزامنة مع مناسبة الاحتفال بعيد الأضحى، إلى انتشار سخط عارم وسط الشعب المغربي، واجه السلطان محمد الخامس هذا الحدث الأليم الذي وقع في التاريخ الوطني المغربي بعزم وثبات معتمدا بعد الله تعالى على إيمانه وإخلاص شعبه الوفي الذي لم يقبل أبدا أن يبعد عنه الأب الروحي للوطنية المغربية. وفي 06 من نونبر انطلقت المفاوضات في «لاسيل سان كلو» للاتفاق على إقامة –تبعية متبادلة- مع فرنسا.
وفي هذا السياق، اندلعت أحداث دموية في العديد من المدن والبوادي؛ وأمام هول وشراسة المقاومة، لم يجد الفرنسيون بدا من الرضوخ لفكرة إعادة السلطان الشرعي محمد بن يوسف إلى بلده والعدول عن فكرة إبعاده عن العرش. وفي هذا الإطار عاد الملك إلى أرض الوطن في 16 نونبر 1955 ليعلن بذلك بداية أفول الاستعمار وبزوغ شمس الاستقلال.
وعاد السلطان إلى المغرب في 16 نونبر 1955م، وهب لاستقباله ما يزيد على 300.000 من المناضلين الوطنيين في مطار الرباط سلا، وقد نادى السلطان في خطاب العرش ليوم 18 نونبر بـ(انتهاء عهد الحجر والحماية)؛ وبزوغ فجر الاستقلال والحرية.
وفي 07 دجنبر 1957 تشكلت أول حكومة للمغرب المستقل برئاسة الضابط الأمازيغي مبارك البكاي، الذي سبق أن كلف بترأس المفاوضات على الاستقلال، ثم كان في انهيار السلطة الإدارية واندفاع جيش التحرير المغربي ما عجل بإلغاء معاهدة فاس.
فكان التوقيع على معاهدة الاستقلال في 02 مارس 1956، وألغيت الحماية الإسبانية على شمال إفريقيا في 07 أبريل بعده. (انظر: تاريخ المغرب منذ الاستقلال؛ بيير فيرموريين ترجمة عبد الرحيم حزل).
الخطابي يحث الشعب المغربي على متابعة النضال ويحذر المؤتمرين في «إكس ليبان» ود. المنجرة يصف المفاوضات بـ«الخيانة»
بعد أن أصبح الوجود المباشر لفرنسا في مستعمراتها أمرا مكلفا، خصوصا بعد هزيمة الجيش الفرنسي في معركة ديان بيان فو في مايو 1955، وإعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية ابتداء من 1954، وتزايد الغضب الشعبي بالمغرب الذي بدا جليا في عدة مناسبات أبرزها 20 غشت 1955، سارعت فرنسا إلى فتح مفاوضات بخصوص استقلال المغرب. واعتمدت باريس خطة تقضي بفتح مفاوضات في كل من تونس والمغرب مع حلفاء محليين لبناء نظام سياسي يحفظ مصالحها ونفوذها هناك، لتركيز قوتها العسكرية بالجزائر.
فاقترح رئيس الحكومة الاشتراكي «بيير مونديس فرانس» الاستقلال الذاتي على تونس وقبلت. ولإجهاض تنامي خلايا المقاومة لجيش التحرير المغربي جهز الاحتلال الفرنسي مفاوضات «اكس ليبان» مع المغاربة.
لم يكن جيش التحرير والمقاومة المسلحة راضيين عن مفاوضات إكس ليبان التي اعتبروها مشلولة بسبب الحضور القوي للجانب الفرنسي في المفاوضات من خلال المغاربة المتعاونين مع سلطات الحماية، واعتبارها مفاوضات في صالح فرنسا وعلى مقاسها. وفي اليوم الذي تمت فيه المفاوضات وصفها الدكتور المهدي المنجرة بـ«الخيانة»، وصرّح بذلك في مكان غير بعيد عن جامعة السوربون.
وحسب عبد الهادي بوطالب فقد تم الاتفاق في هذه المفاوضات على سحب محمد بن عرفة بسلام إلى حيث يشاء وإنشاء مجلس حفظة العرش وتعيين السلطان محمد الخامس لحكومة مفاوضة بعد انتقاله من مدغشقر إلى فرنسا.
وقد تميزت فترة التي عقبت لقاء إكس ليبان باختلاف في الرؤى حول من يكون في وصاية العرش بين الوطنيين من جهة والفرنسيين من جهة ثانية. وأخيرا تم التوصل إلى اتفاق أفضى إلى تعيين الصدر الأعظم المقري، والباشا الصبيحي والقبطان الطاهر أوعسو والباشا البكاي. وقد عين هؤلاء الأشخاص رسميا في 15 أكتوبر 1955 وفي 24 من نفس الشهر والسنة.
وغير التهامي الكلاوي موقفه وأعلن اعتراضه القوي على تعيين مجلس الوصاية على العرش وأيد رجوع الملك محمد الخامس إلى عرشه. وفي 3 من نونبر 1955 قدم مجلس الوصاية استقالته إلى الإقامة العامة وفي 16 نونبر 1955 كان هبوط طائرة محمد بن يوسف بمطار الرباط سلا.
في 7 يناير 1956 نشرت صحيفة «كفاح المغرب العربي»، الصادرة باسم أنصار جيش التحرير في المغرب العربي من دمشق، رسالة للزعيم عبد الكريم الخطابي تحت عنوان: «بطل الريف يحذر المتخاذلين ويدعو الشعب لمتابعة النضال».
«…وقد اقتدت جماعة الرباط بجماعة تونس المستسلمة فأبرزت اتفاقية إكس ليبان إلى حيز العمل والتنفيذ، وأخذت تناور وتدلس وتغري الشعب المغربي بالكلام المعسول. وهي سائرة في نفس طريق اتفاقية تونس وستطالب المناضلين بإلقاء السلاح، بعدما طلبت منهم الهدوء بحجة أن المفاوضة لا تكون إلا في الهدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السلاح وتسليمه لهذه الجماعة الرباطية الجالسة على عروشها حين يتفرغ الأعداء للقضاء على الجزائر.
فحذار من السقوط في الفخ المنصوب، وإننا على يقين من أن الشعب المغربي سوف يستمر في الكفاح والنضال إلى أن يخرج من بلاد المغرب بل من شمال إفريقيا كلها آخر جندي فرنسي يحمل السلاح من جماعة المستعمرين.
أيها الإخوان دعاة الهزيمة موجودون في الأقطار الثلاثة من بلادنا، فلا يجوز بأي حال من الأحوال بأن يسمح لهم أن يثبطوا من عزائمنا أو يوهنوا من عقيدتنا في الكفاح الشريف.
فالنصر حليف المناضلين في سبيل الحق. وإننا لا نريد أن تفوت هذه الفرصة من غير أن نلفت نظر الشعب الفرنسي إلى أن إهدار كرامة الشعوب ليس من شيم الأمم المتمدنة، ولا من خصال المؤمنين بالأديان السماوية.. وبالله التوفيق». عبد الكريم الخطابي.
«الاحتقلال» أو الاستقلال داخل التبعية
بقلم: أحمد السالمي
كلمة «الاحتقلال» التي عَنْوَنَّا بها هذا المقال هي من صياغة البطل الريفي المجاهدِ محمد بن عبد الكريم الخطابي، كلمةٌ مركبة تركيباً مزْجيّاً من «الاحتلال» و«الاستقلال».
فهي بتركيبتِها وغرابَتها تدل على شك الخطابي في حقيقة ما حصَّل عليه المغاربة المفاوضون في «إكس ليبان»، وتَدلُّ على إنكار الخطابي لاستحواذ الحزب الوحيد، الفارضِ وحدانيتَه بالعنف، على حد تعبير الحاج أحمد معنينو رحمه الله.
فهذا الاحتقلال الناقص الذي حصل عليه المغرب بعد التشاور مع جماعة حزب الاستقلال، وجماعة المحايدين المعتدلين، وجماعة ابن عرفة، وجماعة العلماء، وجماعة الشوريين، وجماعة اليهود، وجماعة المستعمرين الفرنسيين، ووفد الحكومة الفرنسية، والاتفاق الذي وقع عليه وفد حزب الاستقلال المفاوض كان يقضي بضمان استقلال المغرب داخل الاستعمار، أو ما كان الفرنسيون يسمونه آنذاك «الاستقلال داخل التبعية»، استقلال يضمن مصالح فرنسا في المغرب لمدة مائة عام كما صرح بذلك أحد المؤرخين، استقلال مغرب منزوع الصحراء وموريتانيا والصحراء الشرقية، استقلال خيب آمال العلماء والوطنيين والمخلصين لوحدة هذا الوطن من شنقيط إلى طنجة ومن توات إلى المحيط، استقلال أطلق فيه الموقعون على اتفاقه رصاصة الرحمة على الشريعة الإسلامية وأداروا لها ظهورهم حتى يرضى عنهم «إدغار فور» وحلفه.
إن هذا الاحتقلال الذي حصل عليه المغرب أفرزته مشاورات «إكس ليبان» الذي كان سببها الأهم في قبول فرنسا المفاوضات -حسب كل المؤرخين- هو رغبتها في تقويض مخطط مكتب المغرب العربي بقيادة عبد الكريم الخطابي الذي فرَّ من قبضة الفرنسيين عندما رست السفينة التي كان محتجزا على متنها في «بور سعيد»، واستقر في القاهرة بالديار المصرية، وهناك حرر «ميثاق 47» الذي نص بنده الثاني على ضرورة مواصلة الكفاح حتى تحرير المغرب العربي الكبير.
إن الموافقة على هذا الاحتقلال خيانة ثانية لأمة المغرب العربي الكبير بعد خيانة تونس ويقول الخطابي عن هذا الخذلان: «أليست مفاوضات إكس ليبان (بين الوطنين المغاربة وفرنسا) واتفاقيةَ جي مولي وبورقيبة (في مفاوضات استقلال تونس) هي التي كانت في حقيقتها مؤامرةَ القضاء على البلاد، نجح فيها العدو وعملاؤه بتخدير الشعب التونسي والمراكشي حتى يطمئن للاستقلال المزيّف، هذا الاستقلال الفارغ الذي يجب أن نطلق عليه الاحتقلال».
وبعد هذه الخيانة للأمة المغربية يأتي الدور على تنفيذ المخطط الاحتقلالي للتخلص من كل أعداء فرنسا في المغرب الذين يطالبون بالتخلص من تركة الاحتلال الفرنسي بصفة نهائية فشيدت مراكز التعذيب في الضيعات والكهوف والغابات لتصفية رجال جيش التحرير والوطنيين الرافضين للاحتقلال الناقص الأطراف الملتبس المعالم.
يقول الخطابي في رسالته للوزاني: «والغريب أن جل هذه الضحايا كانت في مقدمة العاملين الذين ساهموا بنصيب وافر في الجهاد ضد الاستعمار، ومن أجل تحرير البلاد من الاستعباد، وأخيراً كان جزاؤُهم «جزاءَ سِنمَّارَ»، ومن الغريب أيضا أن نرى الآن المسؤولين تجاهلوا حلّ هذه المشكلة التي تعتَبرُ من أهم المشاكل التي تحقق الاستقرار، وتُوَطِّدُ الأمن».
إلى أن يختم رسالته بتذكيره للوزاني: «باستئناف الجهاد والنضال حتى تُطرد الجيوش الفرنسية المعتدية على بلادنا، فسيروا على بركة الله، وشجعوا العاملين في هذا السبيل».
لكنّ جيش التحرير الذي كان يعلق على جهاده الآمال، ما لبث أنْ تمّ احتواؤُه وحلُّ نظامه وإخماد جذوته، وتصفية عناصره بالترغيب والترهيب، وخلى الجو لأبناء فرنسا ليفعلوا في البلاد ما تمليه عليهم حكومتهم الفرنسية.
أبو بكر القادري*: علال الفاسي كان مع المقاومة المسلحة وضد مفاوضات «إكس ليبان»
هل صحيح أنه بسبب تشكيلة الوفد المغربي الذي ذهب ليفاوض في «إكس ليبان» كان علال الفاسي ضد هذه المفوضات والظروف التي تمت فيها؟
هذا صحيح؛ لقد كان علال الفاسي أولا ضد مفاوضات إكس ليبان خشية ألا تؤدي إلى تحقيق الاستقلال وتحقيق الوحدة المغربية ولم يكن ضد الوفد الاستقلالي، فالسي علال الفاسي لا يمكنه أن يكون ضد عبد الرحيم بوعبيد أو ضد عمر بن عبد الجليل أو اليزيدي أو ابن بركة… ولكنه كان ضد أشخاص لم يكونوا أهلا ليضمهم الوفد المغربي ممثلين للقواد والباشوات وما شابههم، من الذين قاوموا محمد الخامس وحاربوه فكرةَ الاستقلال، ولذلك كان يرفض إكس ليبان والتفاوض الذي جرى فيها.
ما هو المشروع الذي كان يدافع عنه بدلا عن «إكس ليبان»؟
استمرار المقاومة المسلحة وإنشاء جيش التحرير وتكثيف المواجهة وكان يفكر في أن يستمر النضال على مستوى المغرب العربي ككل إلى أن يضطر الاستعمار للركوع، ووقتها ستتم المفاوضات لكن بشكل جدي وفي إطار تكون الحركة الوطنية هي التي تقود فيه المفاوضات وألا تكون في الوفد مثل تلك العناصر التي ما كان ينبغي لها أن تفاوض باسم المغرب، لأنها عبر إكس ليبان حولها الاستعمار إلى قوة مؤثرة في المغرب بعد حصوله على الاستقلال.
ولكن لماذا ظل علال الفاسي هو الوحيد من بين قادة حزب الاستقلال الذي يرفض مفاوضات «إكس ليبان»؟ ولماذا لم يؤازره في موقفه هذا قادة آخرون؟
قيادة الحزب قررت أن تزاوج بين المقاومة والنضال وبين التفاوض، وعندما تدخل إلى معمعة التفاوض فإنك تجد نفسك مطوقا ببعض الالتزامات، فنحن في المغرب كنا نفكر بالإضافة إلى وضعنا الداخلي في الاستفادة من مساندة أحرار فرنسا الذين كانوا يساندوننا في معركتنا من أجل الاستقلال، ففرق كبير بين الظرف الذي نعيشه الآن ونصدر فيه الأحكام كيف نشاء، والظروف كما كنا نعيشها بضغوطاتها ومتغيراتها. لقد كنا نراعي التوازنات في المغرب وفي الخارج، فلكل حدث تاريخي ظروفه التي تؤدي في بعض الأحيان إلى حدوثه رغما عن إرادة كثير من الناس.
بعض المحللين والمؤرخين يعتبرون أن مفاوضات «إكس ليبان» كانت سهلة بالنسبة للوفد المغربي المفاوض، لأنه تمكن بسرعة من إقناع الفرنسيين بأن عودة محمد الخامس ضرورية لإمكانية وقوع تفاهم بين المغرب وفرنسا.. سؤالي هو هل فعلا كانت مفاوضات «إكس ليبان» سهلة وبسيطة؟
عندما نفي محمد الخامس رد الشعب المغربي على نفي الاستعمار له بجميع الوسائل، لقد حدث رد فعل شعبي لم يكن الاستعمار يتوقعه، وحدث ذلك بأمر وتوجيه من حزب الاستقلال، واندلعت المظاهرات، وتوزعت الوفود المغربية في الخارج، وفتحت لها مكاتب للتعريف بالقضية الوطنية، واندلعت بعد ذلك المقاومة المسلحة في المدن المغربية، ثم في البادية. هل كان لكل هذه التحركات صدى وتأثير على طاولة المفاوضات أم لا؟
في اعتقادي لا يمكن لعاقل أن ينفي وجود تأثير على مجرى التفاوض بين المغرب وفرنسا نتيجة الأحداث التي كانت تقع في المغرب، ولأن حزب الاستقلال كان في نشأته ملكيا، ومتشبثا بسلطان البلاد، باعتباره يمثل رمز وحدتها وسيادتها، ونظرا للمكانة الدولية التي كان الملك يتمتع بها، والتي تعززت بتضحيته بعرشه في سبيل استقلال المغرب، فإن الوفد المغربي الذي كان في إكس ليبان شدد على ضرورة عودة محمد الخامس إلى أرض الوطن ليكون التفاوض معه، لتشييد أسس علاقة سياسية بين المغرب وفرنسا يحصل بموجبها المغرب على استقلاله.
لقد سعى الاستعمار إلى خلط الأوراق لحظة عزمه التفاوض مع المغرب، وأخذ يستقدم إلى طاولة المفاوضات عناصر لم يكن لها أي وزن في الساحة السياسية الوطنية، وبسبب ذلك شدد حزب الاستقلال على ضرورة ألا يكون هناك تفاوض إلا بإشراف محمد الخامس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كتاب: أبو بكر القادري سيرة ذاتية في حوارات صحفية؛ ط 1422/2001.
وهو أحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، ومن رجالات الأدب والفكر والوطنية في المغرب، والمجاهدين الذين وسموا الحركة الوطنية والتحريرية بعطائهم. وأحد أبرز المقاومين للظهير البربري الذي أصدرته فرنسا. وقد أسهم سنة 1934 في إحداث كتلة العمل الوطني٬ ثم جمعية الشباب المسلم، كما شارك في تأسيس الحزب الوطني سنة 1937 وحزب الاستقلال سنة 1944. وتوفي رحمه الله في 02 مارس 2012.
مؤتمر «إكس ليبان» والبوادر الأولى للادينية السياسية في المغرب
عرفت المفاوضات التي تمت بين سلطة الاحتلال الفرنسي وممثلي الأحزاب الوطنية المغربية والقوى الحية والطائفة اليهودية بمدينة إكس ليبان بفرنسا في 22 من غشت 1955م، حدثا بارزا في التاريخ السياسي المغربي، حيث تم ولأول مرة التصريح باللادينية واللائكية في العمل السياسي المغربي.
وأعلن عبد القادر بنجلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال والناطق الرسمي باسمه لوكالات الأنباء أن الحزب الذي يمثله حزب لاديني علماني، وبالنظر إلى خطورة هذا المعطى الجديد والدخيل في الوقت نفسه على مبادئ حزب الشورى والاستقلال، فإننا نحتاج إلى شخص من أهل الدار، ومن داخل الحزب، ولم لا من مكتبه السياسي أيضا، ليخبرنا كيف تم بين عشية وضحاها الإعلان عن تبني النظام السياسي لدولة الاحتلال والتنكر للنظام الإسلامي الشرعي للبلد الذي قاتل المجاهدون والفدائيون من أجل استرجاعه واستعادته.
وقد وجدنا ضالتنا عند الدكتور إدريس الكتاني العضو السابق بالمكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال؛ الذي وثق في كتابه «المغرب المسلم ضد اللادينية» الصادر في محرم 1378هـ/1958م بعض تفاصيل ما وقع في مفاوضات «إكس ليبان»؛ وأخبرنا عن الوفد الصهيوني الذي حضر على وجه السرعة المفاوضات؛ وأيضا كيف طالب الناطق الرسمي باسم حزب الشورى والاستقلال بتبني العلمانية.
قال د. إدريس الكتاني: «امتلأت مدينة إكس ليبان الفرنسية بوفود ممثلي الأحزاب الوطنية والعلماء والمخزن (حكومة المغرب الصورية) والإقطاعيين والخونة والطائفة اليهودية، كما حضرت وفود فرنسية مختلفة من المغرب إلى جانب الخبراء والفنيين والمساعدين الفرنسيين الذين كانوا يقومون بالاتصالات الشخصية مع أعضاء الوفود، لتمهيد الجو واستكمال المعلومات التي كان الوزراء الفرنسيون في حاجة إليها.
ولم يكن من الغريب أن تمتلئ إكس ليبان بالصحفيين ومندوبي وكالات الأخبار لمتابعة الأحداث، ولكن الذي أدهشني -وقد حضرت المؤتمر كملاحظ لوجودي بلوزان وقتئذ- أن يطير من أمريكا إلى إكس ليبان وفد عن (الوكالة اليهودية) ليتابع أشغال المؤتمر في عين المكان ويشارك بدوره في حل المشكلة المغربية».
ولم يكد ينتهي المؤتمر حتى بدأ السيد عبد القادر بن جلون رئيس وفد حزب الشورى والاستقلال بالمؤتمر والناطق باسمه -وكان يتألف من ثلاثة أعضاء آخرين من المكتب السياسي للحزب هم السادة محمد الشرقاوي وعبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة- بدأ يعطي تصريحات وأحاديث لمراسلي الصحف، كان يهتم فيها على الخصوص بالتنصيص على نقطتين رئيسيتين في نظره:
الأولى: أن الشورى والاستقلال حزب لاديني (لائكي) ولذلك فهو ديمقراطي تقدمي عصري.
والثانية: أن اليهود المغاربة يجب أن يشاركوا في إدارة الدولة المغربية وفي الحكومة الوطنية المقبلة التي ستنبثق عن حل المشكلة المغربية.
وكانت في طليعة الصحف التي نشرت هذه الأحاديث «الابسيرفاتور» البريطانية و«فرانس أبسيرفاتور» الفرنسية.
وقد أشار الدكتور إدريس الكتاني إلى أن: «مبادئ الحزب كانت كلما طبعت أو نشرت أو ذكرت في الخطب والمحاضرات منذ تأسيس الحركة القومية سنة 1937 حتى تاريخ انعقاد مؤتمر إكس ليبان 1955 تتضمن مبدأين أساسيين هما «الإسلام» و«العروبة» ولكن تصريحات السيد عبد القادر بن جلون التي أدلى بها للصحف في باريس وإكس ليبان مؤكدا فيها أن حزب الشورى والاستقلال (حزب لاديني) كانت تعني عنده وجوب التشطيب على المبدأين السابقين».
انتهت محادثات إكس ليبان ليستأنف فيما بعد ذلك بباريس بين الحكومة الفرنسية وممثلي حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال وبعض المستقلين، وانتقل إلى باريس أيضا وفد «الوكالة اليهودية الصهيونية» ليتابع هو الآخر تطور المفاوضات عن كتب، وليتأكد من نجاح «مساعيه الحميدة» في حل المشكلة المغربية.
..وفي أوائل نونبر 1955م كنا في باريس بمناسبة استقبال جلالة الملك محمد الخامس يوم عودته من مدغشقر، عندما دعونا للغذاء معنا بالفندق الكبير وفد العلماء الشوريين السادة حماد العراقي وشقيقه الشهيد عبد الواحد العراقي وعبد الله الداودي وعبد القادر بن شقرون ومحمد الزيزي وادريس السميرس، وكان معنا على المائدة السيد عبد القادر بن جلون الذي انتهز هذه الفرصة فأخذ يعدد محاسن النظام اللائكي ويقول: «إن أول دستور للدولة المغربية الديمقراطية المستقلة يجب أن ينص على أن الدولة لائكية»، فعارضته بشدة مستدلا بأن الشعب المغربي شعب مسلم فخور بالإسلام، ولذلك سوف يرفض مبدأ فصل الدين عن الدولة؛ ولن يؤيد الحزب الذي يريد سلوك هذه السياسة أو فرضها بالقوة كما حدث في تركيا وإن من الخير لنا أن نبتعد عنها، وكان يؤيدني في هذه الآراء جميع العلماء المذكورين.
… كنا نجتاز في المغرب وقتئذ انقلابا تاريخيا في حياتنا، ما في ذلك شك، وكنا نعيش بداية ثورة، ولقد كنت من عشاق الثورات، ثورات الشعوب على الاستعمار، وعلى الإقطاعية والرجعية، وعلى الفساد والفوضى، وعلى الاستغلال والاستعباد، وعلى الضعف والتخاذل والتفرقة، كنت ثائرا على هذه العناصر الهدامة ولا أزال، ولكن لم يخطر في بالي قط أن أثور على نفس المبادئ التي عشت عليها منذ عشرين عاما داخل الحزب والتي هي جزء أصيل من كيان الشعب المغربي، بل هي المادة الخام التي صيغ منها هذا الشعب منذ أكثر من اثني عشر قرنا».
عقب هذا التحول الخطير داخل حزب الشورى والاستقلال اختار الدكتور إدريس الكتاني الاستقالة من الحزب وكتب «المغرب المسلم ضد اللادينية» الذي يعتبر رسالة استقالة ووثيقة تاريخية مهمة تؤرخ للمرحلة.
حوار جرى سنة 1955 حول تبني اللادينية في العمل السياسي
في أوائل نونبر 1955م «كانت الأحداث السياسية.. في قمة عنفها خصوصا بعد رحيل بن عرفة إلى طنجة وتأليف مجلس حفظة العرش واندفاع الشعب المغربي في مظاهرات هائجة جارفة، مطالبا بعودة جلالة الملك إلى العرش، ورغم عودتنا جميعا من باريس فإنه لم يتح لنا أن نتحدث في موضوع (لادينية الحزب) بصفة رسمية، بل أحسست أن هناك تملصا من إثارة هذا الموضوع في كل مرة حاولت فيها ذلك.
وفي إحدى جلسات المكتب السياسي أثرت المسألة فجرى بيني وبين صديق من مشايعي عبد القادر بن جلون الجدل التالي:
قال: إننا حزب ديمقراطي سياسي لاديني وبهذا الاعتبار قبلنا دخول اليهود معنا في الحزب، ودخلوا فعلا وغدا يدخل معنا مسيحيون مغاربة إذا وجدوا.
قلت: إن دخول اليهود معنا قبلناه باعتبار أنهم مغاربة لهم ما لنا من الحقوق وعليهم ما علينا من الواجبات اتجاه الوطن، وفيما يرجع لمسألة الدين فإن القاعدة الطبيعية بيننا وبينهم هي قاعدة القرآن: (لكم دينكم ولي دين)، وهي أعدل قانون نزل من السماء لإقرار سياسة (التعايش السلمي المشترك) بين سكان الأرض، وبناء على ذلك فإن دخول اليهود في حزب إسلامي لا يعني بحال من الأحوال حسبما أعتقد ولا يستلزم أن يتجرد الحزب من مبادئه الإسلامية ويصبح (حزبا لا دينيا) لينسجم مع اليهود فنحن عندما نجتمع داخل الحزب لنتحدث في السياسة ونتخذ قرارات وطنية لا نتجرد عن ديننا أبدا، لا نحن ولا اليهود، والوجود الديني يظل قائما معنا داخل الجلسة ولا نتركه خلف الباب في انتظار خروجنا، ومن البديهي أن الأمر عندما يتعلق الأمر بمسألة إسلامية فهو موجه للمسلمين لا لليهود وكذلك العكس، أما إذا كانت المسألة وطنية بحتة فهو موجه للمسلمين واليهود على السواء.
قال: ولكن الحكومة لا يمكن أن تكون دينية في النظام الديمقراطي الحديث، وفيها وزير أو أكثر تختلف ديانته عن الآخرين، فإذا قلنا إنها إسلامية فهذا يستلزم أنه إذا ما يؤذن مؤذن العصر مثلا والحكومة منعقدة يجب عليها أن توقف الجلسة، وتنهض حالا لأداء الصلاة بجميع أعضائها؛ حتى الوزير اليهودي أو المسيحي.
قلت: إنك تتحدث كما لو كانت المشكلة تطرح الآن لأول مرة بيننا؛ مع أنها أثيرت منذ عشرات السنين في الدول العربية الإسلامية، ووجدت حلها سريعا، واتضح أنها ليست مشكلة، وهذا الحل مقتبس من قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) كما أسلفت، وهذا يعني أن الأمر بالصلاة أو الصيام أو الحج مثلا وجه للوزراء المسلمين دون غيرهم، ولم يحدث قط أن ألزم وزير مسيحي بالذهاب صلاة الجمعة بصحبة رئيس دولة إسلامية، كما أنه لم يخطر ببال الحكومة المغربية اليوم أن تطلب من الدكتور ابن زاكين أداء صلاة الجمعة مع جلالة الملك أو أن تمنعه من أداء صلاته بالبيعة يوم السبت، فالعبادات في كل دين خاصة بأصحاب ذلك الدين، والإسلام نفسه لم يجبر في يوم من الأيام اليهود أو النصارى باتباع شعائر المسلمين، اللهم إلا إذا أسلموا…
كان من الواضح أننا لم نعالج في هذه المناقشة -التي لم تطل بفضل تدخل أعضاء آخرين تعمدوا تحويل الموضوع ليلا يحتد الخلاف- إلا بعض مظاهر المشكلة، ولكن الذي أقلقني هو ما كان يبدو من أن مبدأ (النظام اللاديني) قد تسرب إلى أعضاء آخرين عن اقتناع أو تحزب أو عدم إدراك لخطورته، بحيث أصبحت أرى جانب معارضته الذي أمثله ضعيفا في المكتب السياسي، وإن كان قويا داخل الحزب» المغرب المسلم ضد اللادينية، د. إدريس الكتاني.