تازمامارت.. قصة مأساة أولاد الشعب
نجاة حمص
هوية بريس – الأربعاء 19 نونبر 2014
طلبت مني صديقة لي مرافقتها لشراء كتاب يؤنس رحلتها اليومية إلى العمل؛ دخلت المكتبة أتفحص الكتب بغير اهتمام، كتب عن الحلويات والأشعار وبعض الروايات المغربية التي أمتعض من مجرد النظر إلى أسماء أغلفتها، خاصة ما يسمى بـ”محاولة عيش”..
وفجأة وقع بصري على كتاب “تازممارت.. الزنزانة رقم 10” تسمرت أمام الكتاب، وقد كنت ومنذ سنوات أتتبع بشغف برنامج “شاهد على العصر” لاسيما شهادة السيد أحمد المرزوقي، بطيبته وهدوئه وسماحته، حتما لن تكون القراءة كالسماع، حتما ستكون هناك تفاصيل وجزئيات، صرخت لهفتي بداخلي في جدل، فتحت محفظة نقودي وقارنت ما بقي من “التقضية” الأسبوعية، بثمن الكتاب، كان ما يزال معي ما يكفي لاقتنائه، فرحت وأنا عائدة إلى البيت أتوق وأتلهف شوقا لالتهام صفحاته..
لهفتي بدأت تخبو شيئا فشيئا وأنا أتنقل من صفحة إلى أخرى، حل محلها التقزز حتى أصبحت أقرأ على مضض، كرهت الاستمرار بقدر ما عشقته، ذقت ذرعا حينما وصلت للفصل الذي يذكر تفاصيل تنفيذ الانقلاب، الذي خطط له اعبابو وصديقه المذبوح، امتعضت وأنا أقرأ غدر اعبابو بأصدقائه وتصفيته لحساباته مع أعدائه ومخالفيه، خاصة وقد أجاد السيد المرزوقي في وصف تصفية اعبابو للسيد أبو الحمص، تحسرت وأنا أقرأ كيف تم التخلص من مائة واثنا عشر تلميذا من تلاميذ اهرمومو بعد استسلامهم.. لم تكن الكتب التي تناولت الحدث، قد ذكرت ما حصل لأولئك المساكين المغرر بهم، بقدر ما تفننت في وصف ما حدث للمدعوين وكبار القيادات والجنرالات، بينما غض الكل الطرف عما حدث لـ”ولاد الشعب”..
حينما وصلت لفصل المحاكمة، تذكرت ما يتسم به القضاء المغربي، وما ورثه عبر العصور والعقود، تبرئة الذئاب وتجريم الأبرياء، قاض بلا ضمير ومحامون مغلوب على أمرهم، متهمون استسلموا للنوم وقد سمحت لهم فترة المحاكمة بأقصى ما كانوا يحلمون به، ملبس نظيف، ضمادات للجروح، كراسي للجلوس، وتوقف حصص الضرب والتعذيب..
كانت الأحكام قاسية، خاصة وقد أصدرت في حق من كان ينفذ الأوامر ولا يعلم مرمى ما يريده الكبار، كانت السنوات توزع في كرم حاتمي على المتهمين، تساءلت: أين هي تلك الأحكام الآن وأطفال المغرب تغتصب طفولتهم وبراءتهم ثم يحكم من أجرم في حقهم بشهور معدودات بين المساجين المتعطشين لتفريغ نزواتهم المنحرفة، فيكمل الخنزير ما بدأه بالخارج ويزداد عدد المصابين وتكثر الأمراض في جسد البلد، تكسر قاعدته ويصاب عمود المستقبل بالتسوس..؟
أين هي تلك الأحكام يا ترى والقاتل في أرض المغرب يتوعد ضحيته “نقتلك ونمشي على بوك 5 سنين ونخرج” يخطط لما بعد القتل، بكل ثقة وأمان، وكأن المقتول في أرضنا مساو للذبابة..؟
بل، وأين هي تلك الأحكام في بلد يغرف فيه السارق أموال المواطنين صباح مساء ويكدسها في بنوك الخارج، حتى إذا طالب المواطنون باستعادة الأموال التي ستنفس القيد عن رقبتهم، يشهر في وجوههم شعار “عفا الله عما سلف” وجيب المواطن فيه الخير والبركة..؟
تأثرت لإعدام كبار جنرالات المغرب، وأصدقهم حتى أنهم وفي مرمى النيران كانوا يهتفون بحياة ملك البلاد، طبعا ما شفع لهم ذلك، بينما النطيحة والمتردية انسلت من بين المتهمين وعهد إليهم من بعد تسيير أهم مؤسسة في البلاد.. المؤسسة العسكرية.
وصلت للفصل الذي يذكر فيه السجين السابق، السجن ومديره وحراسه، تصورت السجن وزنزاناته، تخيلت وجوه المختطفين وهم يرمون وراء الأبواب المتينة لذلك المكان الرهيب، انتقال من مدرسة عسكرية ومكان في المجتمع إلى مجرد أرقام، مجرد قنينات كوكاكولا كما كان يسميهم مدير السجن، هو مأمور بجمع “الشقوفة” كلما انكسرت منها واحدة، تقززت من وصف الطعام المخصص لهم، لكني تذكرت الطعام الذي يخصص للعساكر، خاصة أولئك المرابطين على “السمطة”، تذكرت ما ترويه بنات “العساكرية” عن معاناة آباءهم، وكيف تقتل فيهم الإنسانية شيئا فشيئا، فيصبح الواحد منهم محتقرا لذاته، فاقدا لثقته بنفسه، كيف لا وقد سلب إنسانيته وكرامته شيئا فشيئا؟!..
أما حينما وصلت للفصل الذي يذكر الوفيات، فلم أملك دمعي، بكت عيني لمعاناة من كان يصرخ طالبا النجدة فيضرب برأسه الجدار، حتى إذا سمع مدير السجن وهو يتوعد بمعاقبة الكل بذنب الواحد، صر على أسنانه لكبت الألم، وأي ألم ذلك الذي يجعل المرء يضرب الجدار برأسه باستمرار؟.. رحماك يا الله..
بل أي ألم ذلك الذي عاناه من قلبه أصحابه فسقطت قطعة من لحمه، وكم عانى من خرج عظم من خلال لحمه المصاب بالغرغرينة؟ وأي صدمة تلك التي جعلت ذلك المسكين يفقد عقله فلا يغفر له ذلك شيء، بل يترك في زنزانة ضيقة حتى يقضي نحبه؟ وما الذي لاقاه ذلك المشلول الذي كان يعاني لوحده، في الظلام الدامس والصمت القاتل؟..
أي قلب ذلك الذي يسمع صرخات إنسان يتعذب فيقهقه ضاحكا؟ وأي شخص ذلك الذي يمد الكأس لسجين وحالما يفرح المسكين يضرب الكأس فيتحطم بين أسنان السجين وتسيل دماءه بينما السجان ينتفض ضاحكا في جنون؟..
كان أولئك المساكين يعذبون في تازمامارت لأنه لم يكن لهم ظهر يستندون إليه، لم يكن لهم شوكة تؤرق الآخر، كانوا من أبناء الشعب المغربي البسيط، غالبيتهم كان يعيل أسرا من الطبقة الكادحة، حتما غيابهم لم يكن ليسبب أي مشاكل..
وأنا أعيد قراءة الفصل الذي يذكر ذلك السجين المشلول، تذكرت أبي رحمه الله وكيف تسبب له المرض بالشلل، فكان أن اخترنا الاحتفاظ به في البيت، لخدمته وحتى لا يصبح مجرد نزيل في مستشفى يصرخ الممرض على المريض كلما قضى حاجته أو تململ طلبا واستجداء لتغيير وضعه..
تذكرت كيف كان المسكين يلمع وجهه فرحا كلما دخلت البيت بنت من بناته، وكم كان يفرح كلما ضممت يده أو أحطت رأسه بذراعي، تذكرت حينما كانت تهاجمه تلك النوبات وكيف كان يشد على يدي وكأنما يطلب الأمان والحماية مني، لا أتصور أبي يعاني لوحده، كما لا أتصور من هو بمثل حالة أبي وكيف يمكن أن يصمد في غياب من يحبهم، تخيلت “الشيباني” مكان ذلك السجين “عزيز القوم” الذي أهين وعذب، نفضت رأسي لأطرد تلك الفكرة، كانت مجرد الفكرة تخيفني.. بل ترعبني.
الفصل الذي ذكرت فيه الوفيات، كان يلزم فيه الكثير من الكلام، والكثير من التفاصيل، فلحظة الموت ومعاناة الإنسان المحتضر تحتاج لكثير من الحكي، تذكرت لحظة ولادة قطة كانت لأختي، وكيف كنا نخصص لها سطح المنزل، لكنها حينما أحست بالمخاض وبقرب الموت، جاءت تتمسح فينا، لا تطب شيئا إلا أن تبقى معنا ووسطنا، لا تريد أن تقضي تلك اللحظات وحدها، لا تريد أن تقابل وجه الموت الكريه بمفردها، لم تكن تريد ماء ولا طعاما، بل ترغب بأن تستأنس بأصواتنا ولمسات أيدينا..
كانت تلك مجرد قطة.. فما بالك بإنسان يا إنسان؟
تذكرت لحظة موت أبي، كنت أعرف أنه في تلك اللحظة يحتاج للحنان والتشجيع، كنت أشد على يده مشجعة، رغم تلك الرعشة التي تنتابني، كنت أضمه وأجاهد لأهيئ له الوضعية التي تريحه، كان ثقيل الوزن بسبب الشلل، كنت أبشره بأن لحظات الاحتضار تلك مجرد نوبات وستنتهي، كما انتهت من قبلها نوبات..
كنت أغرق وجهه بالدمعات وأبتسم له مطمئنة، ونسيت أني كنت في أشد حالات الخوف، كنت أخطط معه لما بعد الشفاء، فيهز رأسه نافيا، وذلك أشد ما كان يحطمني، كنت أقف لأزيد من ساعة وأنا أحمل السيروم الطبي لتغذية عروق جسمه الهزيل..
يا إلهي.. لا أتخيل لحظة احتضار أولئك المساكين، في زنازين مظلمة، منفردة، باردة في الشتاء وبلا غطاء، ساخنة في الصيف وبلا ماء، كم كانوا يحتاجون إلى من يجلس بجانبهم ويشد على أيديهم لمساعدتهم على العبور إلى العالم الآخر؟ كم كانوا يحتاجون إلى من يمسح على رؤوسهم في حنو، لإبعاد المخاوف عن عقولهم وأرواحهم؟ كم كانوا بحاجة إلى من يردد لهم الشهادتين؟..
كم كانوا بحاجة إلى مصباح علاء الدين، وإلى ثلاث أمنيات، لابد أن أمنيتهم الأولى كانت التواجد بين ذويهم في لحظات حرجة كتلك؟..
كم كانوا بحاجة إلى وجوه أحباهم، آباءهم وأمهاتهم؟ لابد أنهم كانوا على استعداد لدفع ما بقي من ثواني أعمارهم لرؤية وجوه الغوالي..
لابد أنهم دفنوا من غير كفن، وبلا تغسيل، وحتما لم تقم لهم صلاة ولا رفعت من أجلهم أكف ولا دعوات..
لابد أنهم حفروا لهم حفرا عميقة، رموا فيها ثم أثقلوا القبر بأحجار ضخمة جامدة، في محاولة لحبس روح ذلك السجين المغلوب على أمره، فلا تقطع المسافات بلا إذن، بحثا عن الأحباب، لتطوف بهم في لهفة وشوق..
لابد أنهم كمموا أفواههم بعد موتهم، حتى إذا وجدت رفاتهم يوما ما لم تستطع البوح ما جرى وكان..
لابد وأنهم ختموا على جباههم، ممنوع الاقتراب، لذلك وعوض أن يفخر آهل الناجين بنجاتهم، كانوا خائفين من العدوى، الملاحقة..
أما أهل الموتى فكتموا الصرخات وجففوا الأعين من الدمعات، فالبكاء عليهم كان سياسة، ومن يقترب من السياسة مصيره محسوم، لم تنصب للمساكين خيم العزاء، ولا صلوا عليهم صلاة الغائب من الدهماء..
رحم الله ضحايا تازمامارت..
أولاد الشعب..