ولكن الوعاظ في الرشيدية لا مساجد لهم؟؟
الحبيب عكي
هوية بريس – الثلاثاء 25 نونبر 2014
ينعقد عندنا في مراكش نهاية الشهر الجاري نونبر 2014 المنتدى الدولي الثاني لحقوق الإنسان، وسيحضره من مختلف بقاع العالم حوالي 5000 سيد وسيدة منهم كبار شخصيات العالم من الرؤساء السابقون والحقوقيون البارزون والفعاليات المدنية المعروفة، ليتنادوا حول مختلف حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والثقافية وغيرها رصدا ومناقشة وملاحظات وتوصيات، ومن الغريب أن يكون بلدنا كالعادة هو بلد هذه الاستضافة العالمية الإشعاعية الكبرى في محاولة منه كالعادة لتسويق صورة مشرقة حول الوضع الحقوقي في البلد والذي يجمع المتتبعون بأنه رغم ما يعرفه من تطورات إيجابية ولاشك، لازالت عندنا مع الأسف خروقات جسيمة مؤسساتية قانونية أحيانا وذاتية مزاجية شططية في الغالب، وكلها في الأول وفي الأخير تعكر صفو هذا التطور وتشوه صورتنا الحقوقية عبر العالم وبكل مجانية مع الأسف؟؟
ومن ذلك مثلا ما يعانيه العالم القروي والريفي بصفة عامة من هضمه في حقوقه التنموية والبنيات التحتية اللازمة للانفتاح وجودة الحياة، ومن ذلك ما يعانيه المجتمع المغربي الشبابي المعاصر من انعدام جودة التعليم والصحة وانحصار فرص التشغيل والسكن والاستقرار رغم ارتفاع تكاليف الحياة، ومن ذلك أيضا ما تعانيه بعض الفئات من تناقضات صارخة ضد القوانين والحقوق كبعض الناشطين السياسيين والنقابيين والجمعويين المدنيين وخصوصا من المعارضة السياسية المحاصرة والمهمشة، وهناك فئات الأساتذة المحرومون من الاشتغال في ظروف تربوية مناسبة لمصالحهم قبل كل شيء، ومحرومون من الترشح لمناصب الحراسة والإدارة التربوية والإعارة للمصالح الخارجية وتدريس أبناء الجالية وكل ما هو ملزم للحصول على الإجازة، ومحرومون من متابعة الدراسة الجامعية للحصول على هذه الإجازة، وبالتالي محرومون كغيرهم من الترقي الاجتماعي أضف إلى ذلك ما يخطط ضدهم للمساس بمكتسبات التقاعد.. . ، وكل هذا ضد المنظومة الحقوقية وما تسعى إليه من جودة الحياة؟؟
لقد كنت مدعوا لحضور هذا المنتدى الدولي لحقوق الإنسان بمراكش بصفتي المدنية، ولو تمكنت من إجابة الدعوة لكانت أجل قضية سأثيرها وأول فئة سأدافع عنها فئة طالما أثارت استغراب الجميع وما يزال، فئة مهضومة الحقوق طوال حياتها ولا تزال، ألا وهي فئات الوعاظ في المساجد وخاصة مساجد إقليم الرشيدية في الجنوب الشرقي للمملكة، وأملي أن الموضوع سيثار بشكل قوي ولا شك بما له ارتباط جسيم بين الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي والمحلي القومي والمواثيقي الدولي وما يرتبط بهما من ارتباطات مشوهة عنيفة تقض مضجع العالم؟؟
المساجد وما أدراك ما المساجد، بيوت الله العامرة في الأرض، منارات الهداية من الضلالة وينابيع الرحمة والإيمان الفياضة وفضاءات العبادة والطمأنينة والأمن الروحي للمواطنين والسعادة، المؤسسات العلمية والتعليمية الوحيدة التي تجمع الناس مهما اختلفت ألوانهم وتضاربت مشاربهم، والمؤسسة الوحيدة التي يبنيها الناس ويسهرون على تسييرها وتدبيرها الذاتي حتى إذا ما بخلت الدولة عن توفيرها وعجزت أوقافها عن تدبيرها؟؟
والمساجد بما هي رمز الحضارة الإسلامية المعطاءة والعمارة التاريخية المتميزة الفريدة، أصبحت اليوم مع الأسف تعاني ليس من عددها الذي هو أقل من الحاجة، ولا من تشويه بناياتها وأماكن إقاماتها والذي أصبح في العديد من الحالات في مجرد مآرب (garages) أو منازل غير مكتملة البناء، كما تعاني من هزالة تجهيزاتها التي أكل عليها الدهر وشرب، ومن منح تسييرها وإكفاء القائمين عليها رغم روحهم التطوعية والتعبدية، مما يطرح علينا بجد سؤال المساجد والأمن الروحي والاجتماعي للمواطنين كحق من أهم الحقوق، في أيادي من وإلى أين؟؟
ولعل أخطر ما تعانيه مساجدنا هو الحرب المعلنة من أجل إفراغها من المحتوى وعرقلة رسالتها التاريخية الروحية والعلمية والاجتماعية، حتى أن بعضها أصبح مجرد قاع صفصاف خاوية اللهم من بعض روتين الصلوات اليومية، وكلنا يتذكر انتفاضة الأئمة في شوارع العاصمة بعيد الأيام الفبرايرية الصاخبة، وربما لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر، وفعلا تحققت للأئمة بعض المكاسب من الزيادة في الإكراميات رغم هزالتها ووعود بالسكن والتغطية الصحية وغيرها فصمت الأئمة وعادوا قانعين في هدوء إلى مساجدهم، لتقود فيهم الوزارة الوصية حملة ملاحقات وتقليم أظافر بتوقيفات تعسفية واتهامات مجانية لازالت وسائل الإعلام الرسمية تعتم عنها في حين أن المكتوبة والإلكترونية لازالت تفضحها كل يوم هنا وهناك؟؟
وقد تعرضت لهده الارتجاجات بعض المجالس العلمية فأوقف سبعة من رؤسائها في ظروف غامضة ودون مبررات، وأكبر من هذا حملة توقيف الوعاظ خاصة في بعض الأقاليم الرشيدية نموذجا وقد أوقف فيها أزيد من 130 واعظ كانوا يمارسون وعظهم منذ سنوات بإجازة من المجلس العلمي المحلي وفي خط مشهود لهم فيه بالوسطية والاعتدال والالتزام بالمذهب والثوابت، مما جعل الغموض يحيط بالملف ويزيد من تساؤلات رواد المساجد والرأي العام المحلي بصفة عامة، خاصة وأن هؤلاء الوعاظ الضحايا كانوا يتمتعون بقبول واحترام عام، وتوقيفهم خلف فراغا فظيعا في مهام الوعظ بالإقليم لم يعوض إلى اليوم؟؟
السؤال الأن:
1- كيف بالإسلام الذي ما فتئ يحرر الشعوب، وأحكامه القضائية تكون شعبية ويتداولها الناس في علنية بينهم فيقبلونها أو يرفضونها، لازال بعض المسؤولين في القرن الواحد والعشرين يتصرفون باعتباراتهم الذاتية وكأن المؤسسات مؤسساتهم لا يساءلون أو يحاسبون عنها، أقالوا من أرادوا أو شغلوه؟؟
2- “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا”، فلماذا تريد بعض الجهات خوصصتها؟؟ قد يدعي المدعون أسطوانتهم المشروخة بأنهم إنما يريدون حماية المذهب والحفاظ على الخط الرسمي، فمن حرف هذا الخط ولم يثبت على الوعاظ ذلك، ثم خط المسؤولون هل هو الدين الحقيقي أم مجرد أفهامهم التي لا يفهمها غيرهم؟؟
3- أو يدعي المدعون أنهم إنما يريدون تطهير المساجد من السياسة والسياسيين لتحييدها كفضاءات تعبدية روحية فحسب، فهل مساجدنا في خطها الرسمي محايدة فعلا، وهل تغيب السياسة عن أي شيء في حياتنا، والسياسة الشرعية كما يقال “ما ينفع الناس وإن لم ينزل به وحي أو قال به رسول”، ومن غريب الصدف أن يستضيف المغرب نهاية شهر نونبر الجاري 2014 في مراكش المنتدى الدولي لحقوق الإنسان، يناقش فيه أزيد من 5000 مدعو ومدعوة مختلف الحقوق السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية في العالم، في حين أن مثل هذه المجالس المحنطة وكأنها من تصرفاتها الرعناء لا تعرف البتة شيئا اسمه الحقوق؟؟
4- وقد يدعي المدعون أنهم إنما يريدون أن يحموا المساجد من التطرف، وهذه تهمة مجانية لمساجد الإقليم هي منها براء، ثم لماذا قد طفح التطرف بكل الملل والنحل حتى أصبح “داعشيا” بغيضا لا يبقي في الأبدان ولا يذر في الأديان، أليس إغلاق المساجد في وجه العلماء العاملين المقبولين من ساهم في شيوع هذا الانحراف العقائدي والسلوكي الخطير؟؟
5- هل فات المدعون أن الوعظ رغم أهميته الفكرية وأدواره التربوية والتذكيرية، ما هو إلا باب بسيط من أبواب العلم والمعارف الدينية والتي لا يستقيها الناس اليوم من المساجد والوعاظ وحدهم، أكثر مما يستقونها من المكتبات والقنوات، فها أنتم قد أغلقتم المساجد فمن يغلق لكم المكتبات والقنوات والشبكات وهي لا تلبث تنبت كل يوم كالفطر؟؟
6- وقد يدعي المدعون أنهم سيعوضون من أوقفوهم بغيرهم من الوعاظ، طبعا دون اختيار الناس، فهل يقبل وعظ واعظ والناس له كارهون؟؟ ثم ها هو الوعظ يا سادتي الكرام؟؟ الوعظ في اعتقادي روح الدين والعصر، والالتزام والأخلاق وحاجات الناس ومستجداتهم وفق روح الدين والعصر، ولا يمكن لأي واعظ كان من كان أن يعظ فيسمع خارج هذه الروح وخطابها؟؟
7- وقد يقول قائل أن حرب التوقيفات إنما هي في عمقها التفاف لإبعاد أبناء الحركة الإسلامية عن ما فتح لهم من المساهمة في تأطير الحقل الديني، رغم وسطيتهم واعتدالهم وقبولهم بكل الشروط والتوجهات الرسمية، بل وفرضها على أعضائها الاختيار بين منابر الخطابة وكراسي الوعظ في المساجد وبين الترشحات والانتخابات مع أحزابهم السياسية، أليس هذا مصادرة باسم الدين لحق وحرية الأشخاص كمواطنين، وأليس أكثر من ذلك مصادمة لاختيار الدولة والاستثناء المغربي في دمج الحركة الإسلامية في الحياة السياسية والدينية وغيرها؟؟
8- ورغم ذلك فأبناء الحركة لم يحركوا ساكنا في هذا الصدد، ولم يدافعوا على حقهم في المساهمة في التأطير الديني الرسمي، ولم يدافعوا على حق أعضائهم الأكفاء وغيرهم ممن اختارهم الناس لوعظهم وتربيتهم والصلاة بهم، فهل ترضى الحركة بما فتح لها من فتاة في بعض المجالات على حساب كرامة من يستبد ضدهم من الناس؟؟ هل تتكرر بيننا وفي الألفية الثالثة فظاعة(la déchirure)، الشريط السينمائي الذي نادى فيه النظام الشيوعي هناك في الكومبودج أيام حرب الخمير الحمر ضد التدخل الأمريكي في فيتنام سنوات السبعينات (75-79)، نادى على كل المثقفين ليلبوا نداء الوطن ويقدموا خدماتهم الجليلة لأبناء الشعب وثورتهم الملتهبة في أمس الحاجة إليهم، فلما برزوا كلهم قام بقطع رؤوسهم وتصفيتهم وإبادتهم إبادة جماعية فظيعة وبكل همجية وبرودة، لتبقى الثورة بمجرد الأميين والمتخلفين والمتعصبين من وقود الحرب وبيادق السلطة المتطرفة والنظام المستبد هناك، والغريب أن يقع ذلك هناك باسم الشيوعية ويقع هنا باسم الإسلام ومجالسه العلمية التي تريد وعظا بلا أساتذة محنكين ولا دكاترة جامعيين وتدعي الانفتاح على الطاقات ورموز المجتمع؟؟
9- هل نحن في حاجة إلى اجتهاد معاصر يمنح الناس حق اختيار المسؤولين كيفما كانوا أو لما رشحوا، كيف لا وكل المرشحون لمختلف الوظائف لهم مساطير اختيار إلا في المجال الديني، وكل المسؤولون يحاسبون على انجازاتهم وأخطائهم إلا في هذا المجال أيضا، فالولاء يغطي على كل شيء؟؟ وإلا فمن كان أولى بالتوقيف نظرا لما أفرغ منه مساجد الإقليم من الوعاظ (130) وأغلق فيه من روضات التحفيظ (50)، بل حتى بعض أعضاء مجلسه العلمي وبعض موظفي إدارته حسب ما تناقلته الأنباء والمواقع، في ضرب سافر ومجاني للعمق التاريخي والحضاري لتافيلالت العالمة ما جعل من المدينة وحدها استثناء من بين كل المدن أو تكاد، ولا داعي لفتح ملف فقر مساجد المنطقة والقيمين عليها بقدر غنى أوقافها الذي لا يزال ريعا وسحتا لفلان وعلان ولم يستطع مجلسنا الموقر تحريكه ولا نظارته؟؟ أليس كل هذا بسبب هذا المسهول الذي ولا محالة ستزول أيامه الكئيبة ويفرغ كرسيه الوثير وتسحب منه سيارته الفاخرة وهاتفه المهني لأنها لو دامت لأحد ما وصلت إليه؟؟
10- أخيرا وعودا على بدء، لماذا مساجد الرشيدية يطرد وعاظها؟.. لماذا مساجد الرشيدية تحطم مناراتها وتحرق حصائرها وتطفأ أنوارها وتغلق أبوابها؟ ليبقى المصلون فيها وجها لوجه مع منعها الفكري وخرابها الروحي؟؟ في الوقت الذي تنال فيه كل الخلائق حقوقها المشروعة وغير المشروعة حتى الشواذ وّعبدة الشيطان وهم يجهرون بانحرافاتهم العقدية والسلوكية والشهوانية ويدعون أنهم أحرار وأدرى بدنياهم أقرهم أم لم يقرهم المجتمع على ذلك، لا يليق أن يضيق على الوعاظ تحت أي مبرر كان فما بالك أن يوقفوا ويطردوا ويسكت على ذلك وفيه الحق الديني والأمن الروحي للمواطنين؟؟ “الحق ما عم وانتشر لا ما خص وانحسر.. الحق ما عمه الله وانتشر لا ما خصه البشر وانحسر“، فاتركوا المساجد لله، فالوعظ في مساجدنا أعقل من هواجسكم وتوجساتكم السخيفة، وأعقل من ادعاءاتكم وأغراضكم وحروبكم الخفية والمعلنة وتصفية حساباتكم العرقية الضيقة؟؟ أتركوا المساجد لله فالمواطنون المغاربة أعقل من أن يفتى عليهم بغير وجه حق، أو يفرض عليهم بغير وجه حق، أو يغرر بهم أو غير ذلك مما تتصورون وما إليه تطمحون، “فهذا الدين حر ولن يقيده أحد إلا تجاوزه.. إلا تجاوزه“؟؟