ملامح من المشروع الكلامي لأبي الحسن الأشعري رحمه الله
ذ. طارق الحمودي
هوية بريس – الثلاثاء 25 نونبر 2014
قليل من المشتغلين بالعقيدة والفكر ينتبه إلى أن الفكر الكلامي قائم على مغامرة بنائية… وهي كونه مؤسسا على نظرية طبيعية اسمها «الجزء الذي لا يتجزأ» أو النظرية «الذرية» وتوابعها. والمغامرة أن فكرا بأكمله يبنى على نظرية طبيعية اكتشف اليوم أنها لم تكن صحيحة في كثير من جوانبها.
ومن ذلك مثلا أن الأشاعرة يقولون: إن من خصائص الجوهر الفرد التحيز بخلاف الاسم الذي سمته التركيب، واليوم نتحدث عن جزيئات لا تحيز لها، وهي عبارة عن طاقة كالفوتونات، بل إن الإلكترونات لها طبيعتان؛ طبيعة جسيمية وطبيعة تموجية، وقد أثبتت التجارب ذلك.
ومما اعتقده الأشاعرة ولا يزالون أن الجواهر كلها متماثلة، وهذا خطأ فقد اكتشف العلماء اليوم 18 جزيئا، بدءا بالإلكترون سنة 1897 مرورا بالكواركات العليا والسفلى المكونة للبروتونات والنوترونات والنوترينو والبوتونات إلى آخر جزيئة يعتقد العلماء أنها السبب في الكتلة الظاهرة للجسيمات الأخرى.. وهي بوزون هاكز (Boson de Higgs) أو ما يمكن أن يكون بوزون هيكز، وهو جزيئة بل مجال من الجزيئات اكتشف سنة 2012 في تصادم الجزيئات في مسرع كبير على الحدود الفرنسية السويسرية.
ويعرف قصدي إخواننا المتخصصون في الفيزياء، اليوم يتحدث العلماء على نموذج قياسي يعتبر كل هذه الجزيئات بلا كتلة، بل قد تغير مفهوم الزمان والمكان اليوم وصرنا نتحدث عن الحركات النسبية غير المطلقة، والزمن الفيزيائي والحقيقي، يتحدث العلماء اليوم عن تحول من كتلة إلى طاقة.. والأشاعرة لا يزالون على فكرة التجزيء، ففكرة التجزء شكل من أشكال الطبيعة الفيزيائية للأجسام وليست الشكل الوحيد.
ومثل هذا حديثهم عن الخلاء؛ فالعلم اليوم ينفي وجود فراغ أو خلاء كما يتصوره المتكلمون… فما يعتقده الأشاعرة خلاء هو نفسه مجال لمادة طاقية أو موجود تموجي؛ وهلم جرا.
هذه تفاصيل في غاية الأهمية، وهي توقع الفكر الأشعري كله في حرج شديد.. ويحاول بعض أنصار الفكر إيجاد مخرج من هذا المأزق لكنهم يفشلون، لأن الأمر تجاوز مجرد حبك فكري فالأمر كما يقال: علم.. ولا مجال فيه للمشاغبة.
جعل المتكلمون إثبات الجواهر والأعراض طريق إثبات وجود الله تعالى، وهي طريق منتقدة، لخلو القرآن والسنة مما يعضدها، وقد أنزل القرآن والعرب محاطون بفارس وفيها فلسفة الهند والفرس وبالشام ومصر وفيهما فلسفة أهل اليونان، وللفلسفتين من العمر أكثر من اثني عشر قرنا…!!! ومع ذلك لم يخاطب الله تعالى أهل الكفر بمثل هذه الأدلة، ولم يوجه المسلمين لاستعمالها مع أن الفلسفتين كانتا قائمتين في بعدها الطبيعي على نظرية الجزء والجواهر والأعراض، فقد كانت فلسفة اليونان معروفة بنظريتها الذرية وكانت فلسفة الفيشيشيكا الهندية التي أسسها الحكيم (كَنْدا) كما في كتاب (esquisse d’une histoire de la philosophie indienne) قائمة على مبادئ علمية شبه (الذرية الواقعية)، وترى أن الذرات تختلف بحسب المادة التي تكونها.
وكانت فلسفة النيايا فلسفة منطقية بامتياز شبه المنطق الأرسطي.. وتقول بالنظرية الذرية المستوحاة من الفيشيشيكا!!! ولو كان دليل الأعراض والجواهر صحيحا وكافيا لما تأخر القرآن عن ذكره، ولكن القرآن أسس لأدلة أخرى غيره هي أقوى وأصدق وأنسب للفطر البشرية… ومنها دليل الإبداع ودليل العناية، وهما دليلان توافق ابن رشد الحفيد في مناهج الأدلة وغيره كابن القيم على النص عليها، واحتجوا لها بمثل قوله تعالى: [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ] (إبراهيم:32-33).
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (4/133): «وهو تعالى يكرر هذين النوعين من الاستدلال في القرآن».
وما يحاوله بعض المتكلمين، ويبدؤون فيه ويعيدون فالقرآن أوسع منه وأقوى، ولذلك قال ابن القيم في “بدائع الفوائد” (ص:134): «وإن كل متكلم ومستدل ومحاجج بالغ في تقرير ما يقرره وأطال وأعرض القول فيه فغايته إن صح ما يذكره أن ينتهي إلى… بعض ما في القرآن».
وهذا الذي ينبغي أن يبنى علم الكلام على قواعد القرآن ومناهجه وطرقه في الحجاج والبرهنة لا من غيره… فهو كتاب الله، وفيه يدل الله على نفسه، أو يمكن أن يكون أحد أدل على الله من نفسه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فلنرجع الفكر الأشعري إلى أصله، وهو الذب عن العقائد السلفية، وكونه آلية للذب يجعل لنا الحق كل الحق في إعادة النظر فيه تجديدا وتصحيحا والله المستعان.
ولعل أبرز كتاب أبان فيه أبو الحسن عن حقيقة مشروعه الكلامي هو كتاب (رسالة إلى أهل الثغر)، فقد بدت ملامح التوفيق بين التأسيس على النصوص والبناء الحجاجي واضحة فيه، وعليه ينبغي العمل، فهو جامع لطريقتيه في «الإبانة عن أصول الديانة» و«استحسان الخوض في علم الكلام»، وهو ما ينبغي الاهتمام به، ومحاولة استنباط معالم مشروع أبي الحسن منه ومما يشابهه.
يحزنني أن أرى أن غالب من ينتصر للفكر الأشعري يصر على إبقاء ما كان على ما كان.. إلى غير إعلام لاحق… وليس هذا من النبل في شيء، فالعقلاء من الباحثين لا يفتؤون يحثون الدارسين على فهم مشروع أبي الحسن الكلامي، ويدعون إلى إعادة الألفة بين النصوص والحجاج، لأنها هي نفسها الطريقة السلفية، التأسيس على النصوص واستعمال الحجاج الكلامي الصادق المستمد من الكتاب والسنة في الرد على الخصوم، وهي طريقة أحمد بن حنبل، وهو مقصود أبي الحسن من انتسابه إليه.
لقد استعمل الإمام أحمد في رده على الجهمية صنوفا من الحجاج الكلامي العقلي القرآني، وكان بذلك ربما أصلّ لأبي الحسن رحمه الله، في استعمال الحجاج للذب عن العقائد القرآنية والنبوية. وقد نبه ابن تيمية إلى هذا فقال في درء تعارض العقل والنقل: «والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة».
وقال قبل ذلك: «وأحمد أشهر وأكثر كلاما في أصول الدين بالأدلة القطعية، نقلها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك، والموجود في كلامه من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة»، هذا خلاف ما يزعمه بعض أتباع الفكر الأشعري من أن الطريقة السلفية طريقة نصية بحتة، والقارئ لكتاب «الرد على الجهمية والزنادقة» يفهم ما أقصده.
وعودا على بدء، فكتاب رسالة إلى أهل الثغر من الكتب التي تظهر فيها غالب ملامح المشروع الكلامي عند الأشعري في الصورة التوفيقية التي أرادها، ولعل أحسن من عبر على هذا الأستاذ الدكتور جمال البختي وفقه الله في مقاله في مجلة الإبانة: «أما ما يقترحه ويعتمده الأشعري في منهجه الاستدلالي، وما يرى أنه منهج السلف، فهو المنهج الذي ينطلق من [الوحيٍ] وما تضمنه من [أصول عقدية وجدلية]».. فتأمل.
تجديد علم الكلام يعني مراجعة اصطلاحاته، ومفاهيمه ومعلوماته الطبيعية، بغير هذا، سيكون ما يفعله بعض الناس من مدح للأشعرية بقصد الإبقاء على الموجود كدفن الحي تحت التراب.
لا يفهمن أحد أنني أطعن في أحد، فكثير من ضعافي النفوس من أهل التعصب قد يبادر إلى المفرقعات النميمية إنما قصدي أن توجه الطاقات إلى التجديد والإصلاح، عوض الإصرار على التقليد والتعصب.
وأرى والله أعلم أن الالتفاف حول هذا مما يعين على تحقيق الأمن الفكري والمصالحة بين المتخاصمين، نتفق جميعا على ضرورة إعادة النظر في الفكر الأشعري على طريقة التجديد والإصلاح.
ولذلك فمن مقترحاتي أن تقام ندوات مثل: «تجديد الخطاب الكلامي الأشعري… المقاصد والآليات» ولا يستدعى له إلا أهل الخبرة في الشأن بشرط الموضوعية والصدق. ومن أراد معرفة المقاصد الكبرى لمشروعية المشروع الكلامي ومعالمه عند الأشعري فلينظر مقال أستاذنا الدكتور جمال البختي في مجلة «الإبانة» الصادر عن مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية التابعة للرابطة المحمدية للعلماء (ص:17 إلى 71).