دور المدرس في الاستقرار الاجتماعي
د. محمد أبوعام*
هوية بريس – الخميس 27 نونبر 2014
أدركت الدول الراقية قيمة عمل المعلم الاجتماعية، وشعرت بأن رقي الشعوب وتقدمها، واستقرار النظام فيها إنما يقوم على المدرسة، وأن المعلم هو القوة الكبيرة الفعالة في هدوء واستمرار كل تقدم اجتماعي يقوم على أساس وطيد من الخلق الرصين والعلم الصحيح.
عرف له ذلك أيضا كل مفكر فلجأ إلى المدرسة يتخيرها وسيلة لتحقيق كل ما يدعو إليه من إصلاح شامل، وعرف له ذلك الساسة والزعماء فاعتمدوا على المعلمين في تدريب التلاميذ على حسن التفكير واتزانه، وعلى التعاون الاجتماعي، والعناية بمصلحة الجماعة.
كما عرفه له علماء الشريعة فوجدوا فيه عاملا قويا للتربية الأخلاقية، والسمو بالفرد من الأنانية والمادية، إلى الفضائل السامية، فالمدرسة أملهم جميعا في تحقيق ما يرمون إليه من إصلاح.
ولم ذلك كله؟
لأن المعلم يتناول أفراد الشعب كله وهم في سن الطفولة حيث المرونة والقابلية للتشكيل والتغيير فيتسنى له أن يعدل سلوك تلاميذه، ويعلي من غرائزهم، ويكون في نفوسهم الميول النافعة والصفات التي تقتضيها الحياة الاجتماعية الناجحة السعيدة.
الشائع بين الناس أن عمل المدرس محصور في تزويد التلاميذ بالمعلومات المختلفة، ولذا يقدرون قيمته ومهارته في فنه بمقدار ما يحصله تلامذته من العلم على يديه، فمعيارهم في التقدير نجاح التلاميذ في الامتحانات. لذلك تجد المدرس يهمل كل شيء اسمه تربية ويوجه عنايته إلى حشد المعلومات في عقول التلاميذ، لأن هذا هو الذي يحاسب عليه، والذي تتوقف عليه أجرته. ولذا كان يضحي بالتلاميذ وشخصياتهم وميولهم على الامتحان!
ولكن التعليم وإن كان أظهر أعمال المدرس ليس في الواقع أهمها قدرا، فهو ليس سوى وسيلة من وسائلها، وإنما عمل المدرس أسمى من ذلك وأشق، وله قيمته الكبرى للمجتمع وللأفراد.
إن شخصا هذه قيمته، وذاك عمله الهام، وجب أن يكون محل عناية خاصة من الدولة، فتحسن اختياره أولا، ثم تعنى بإعداده الإعداد الفني لمهنته الخطيرة.
فمسؤولية الدولة في اختيار المدرسين وإعدادهم كبيرة حقا، وفعلا قد أدركت كثير من الدول مسؤوليتها هذه أمام الأجيال المقبلة، فلم تعد تترك أمور تربية الجيل المقبل وتثقيفه للمزايدات السياسية والمصادفات والارتجالية والهوى، بل صارت تشرف مباشرة على تكوين من ستعهد إليهم هذا الأمر الخطير، وتدريبهم عليه خير تدريب. بل وتكلفهم وتنفق عليهم أثناء هذا التدريب النفقات الكثيرة، ولذلك كان لزاما عليها أن تختارهم من خيرة شبانها وصفوتهم الممتازين عقلا، وصحة، وأخلاقا.
فمدارسنا بحاجة إلى جيش من المعلمين لا إلى أفراد أقلاء. فليس كل امرئ يصلح أن يكون مدرسا ناجحا في عمله ومؤتمنا عليه، فقد يكون المرء شاعرا أو رياضيا، ولكنه لا يستطيع أن يعلم غيره نظم الشعر أو الرياضة.
فالمدرس يجب أن تكون له شخصية تتوافر فيها عدة صفات معينة قبل أن يختار لاحتراف مهنة التعليم، وأن يدرب التدريب الكافي قبل أن يعهد إليه تربية النشء وإعدادهم للرجولة والحياة.
إن الأمة التي تسمح للعاجزين -نفسيا وثقافيا وتربوياـ على تربية أبنائها وبناتها، أمة تنتحر عقليا وثقافيا.
إن نوع المدرس الذي تختاره الدولة لتربية جيلها المقبل يجب ألا يكون نصيبه من العناية والاهتمام بإعداده أقل من نصيب القائد والضابط والمهندس والأطر العليا للدولة.
فكل من يريد إن يكون مدرسا يجب أن تتوافر فيه صفات خاصة، واستعدادات وميولات معينة، حتى يستطيع أن يقوم بالتربية على وجهها الأكمل ويؤتمن على تكوين الجيل المقبل وتوجيهه نحو الحياة الفاضلة، ومجمل هذه الصفات هي كالآتي:
– محبة الأطفال والعطف عليهم
من أفضل الصفات التي يجب أن تتوافر في المدرس الصالح -وبخاصة من يتولى التدريس في المدارس الابتدائية والأولية ورياض الأطفال- أن يكون محبا للأطفال، كثير العطف عليهم، قادرا على مشاركتهم وجدانا وميولا، يفرح معهم ويحزن لمتاعبهم إذ بذلك يجتذب محبتهم وطاعتهم، ويستطيع أن يتفهمهم، ويسهل عليه تعليمهم وتربيتهم التربية الصحيحة أما من يرى نفسه عاجزا عن محبة الأطفال، غير قادر على فهمهم والصبر عليهم، فسرعان ما تصبح حياته عبئا ثقيلا على نفسه وعلى تلاميذه، لخلوها من كل راحة ومسرة واطمئنان.
– الحزم والكياسة وحسن التصرف
وهي رأس مال المدرس في توجيه التلاميذ ومعالجة أمورهم، ففي كل يوم تصادفه صعوبات جمة وعقبات عدة، ومواقف كثيرة تحتاج إلى حسن التصرف للتغلب عليها من غير أن يصطدم مع الأطفال، أو يقسو عليهم، فينفرهم منه، وبذلك لا يستطيعون الاستفادة منه، بل على العكس يندفعون إلى الاستخفاف به، وبالعلم الذي يدرسه، فيكون سببا في فشلهم وفي حياته.
وبالحزم يمكن للمدرس أن يتغلب على كل ما يقابله من تلك الصعوبات اليومية المختلفة من غير عنف، فلا يبدو للتلاميذ قاسيا متشددا، ولا ضعيفا لينا كثير التساهل، بل يضع كلا من الشدة واللين في موضعه، فالمدرس الحكيم الحازم أفيد في التربية من المدرس الأخرق الغزير العلم، الواسع الاطلاع.
ويتصل بالحزم صفات أخرى لا غنى للمدرس عنها كسعة الصدر، والبشاشة والأدب في المعاملة، واحترام شخصية التلاميذ.
– ضبط النفس وكظم الغيظ
كثيرا ما يحدث في الفصل من التلاميذ ما لا يرتضيه المدرس ولا تقره قوانين التربية، ونظم المدرسة، فيغضب ويصخب ويخرج به غضبه إلى أن يتوقف عن التدريس، فيظهر أمام الأطفال بمظهر لا يرتضيه له أحد. وبذلك يضيع وقتا كبيرا على نفسه، وعلى التلاميذ.
هذا، وإن الأطفال سرعان ما يعرفون حدة طبعه، فيتخذونها وسيلة للعبث به ومضايقته ويضيع وقت الدرس إذا كانوا لم يعدوا له المطلوب منهم.
فالمدرس الصالح حليم، واسع الصدر، قادر على كبح جماح نفسه إذا استفزه الغضب وقادر على الغضب أيضا وقت اللزوم من غير تكلف، أو تصنع. وضبط النفس شيء غير يسير، يمكن أن يأخذ المدرس نفسه ويروضها عليه تدريجيا.
ومن جهة أخرى، فلضبط النفس قيمة كبيرة في طريقة التدريس نفسها. فقد يكون المدرس غزير المادة متحمسا لها، فيدفعه تحمسه واهتمامه إلى أن يحاول أن يغمر التلاميذ بكل شيء يعرفه هو، ويعمل لهم كل ما يستطيع أن يعمل، على حين أنه يجب عليه ألا يخبرهم إلا بما لا يمكنهم الحصول عليه بأنفسهم من الكتب، أومن الخبرة الشخصية، أو بأبحاثهم.
– روح الفكاهة
إن جد المدرس ورزانته لا يمنعه أن يكون طيب النفس، حلو الحديث خفيف الروح، يفاكه تلاميذه ويمزح معهم حيث يستدعي المقام المزاح، فذلك شيء لا يكره في المدرس بل يستحب منه. وإن من المربين من يرى روح الفكاهة من ألزم الصفات للمدرس، لأنه بها يستطيع أن يتغلب على كثير من الصعوبات اليومية، وينظر إلى الحوادث الصغيرة التي تصدر من التلاميذ من جانبها السار المضحك، فينجي نفسه وتلاميذه من ظروف كثيرة مضايقة ومعطلة للعمل.
على أنه ينبغي ألا يجعل المدرس المزاح والنكات دأبا له وعادة. فذلك يجرئ التلاميذ عليه ويقلل احترامهم له، فتزول هيبته من نفوسهم وتصبح دروسه مزاحا وهرجا، فلا يستطيع ضبط فعله ولا تعليم تلاميذه.
– فهم الحياة الاجتماعية ومطالبها
على المدرس أن يعي أنه يعيش في مجتمع معقد متعدد النواحي والمظاهر، آخذ في التغيير والتطور والترقي. فمن واجبه أن يلم بمطالب ذلك المجتمع ومشاكل الحياة الاجتماعية فيه إلماما كبيرا، حتى يستطيع أن يرشد تلاميذه ويهديهم إلى أن يسلكوا السلوك الاجتماعي، كما يستطيع أن يختلط مع الناس وزملائه، ويعيش معهم في غير اصطدام أو نفور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خطيب مسجد الخير بالمحمدية.