فصل الشتاء ربيع العابدين ودفء المومنين
د. محمد بولوز
هوية بريس – الأربعاء 03 دجنبر 2014
المومن عابد لله على كل أحواله وفي كل أحيانه، يغتنم الفرص ويعبئ نقط قوته ويجتهد في تجاوز التحديات ويحذر من نقط ضعفه، حتى يقطع رحلة العمر بسلام فتعظم غنيمته وتقل خسارته ويكون من الفائزين، له إقبال وإدبار وحماس وفتور، ولكن لا يضيع رأس ماله من الفرائض والواجبات، فكيف يتعامل من هذه حاله مع فصل الشتاء الذي أظلنا؟ وما هو تصوره واعتقاده فيما يجري حوله في هذا الفصل؟ وكيف يملأه بالخير ويجعله زاده إلى آخرته؟
في تعاقب الفصول آيات وعبر:
للمؤمن في نفسه ومحيطه وما حوله آيات وعبر، يتفكر في الخلق والليل والنهار وأمر الفصول والصيف والشتاء والخريف والربيع فيزداد تعظيما لربه، لأنه رباه في كتابه بقوله سبحانه (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكَّر أو أرا د شُكوراً) (الفرقان:62) فقد جعل الله تعاقب الليل والنهار كما ذكر أهل التفسير لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل ومغير. ويستدلّ بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار، وقل مثل ذلك في تعاقب الفصول وما فيه من حكمة التدبير بما يصلح أمر الخلق، ويستحضر المومن أنه أياما مجموعة كلما مضى يوم ومضى فصل مضى بعضه حتى يذهب كله إلى ربه، فيبادر بالتوبة والتصحيح والمراجعة، ويحسن استثمار وقته لأنه يمر سريعا ولا يجد عنه تعويضا وينظم حياته فيه كما السنن الربانية في الزمن منظمة ومرتبة، ويرى في الشتاء رغم برده وأمطاره وعواصفه نعما جليلة في طياته فيشكر على وفرة الماء والزرع والثمر وغير ذلك من الدروس والعبر.
ربط الدنيا بالآخرة:
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قالت النارُ: ربِّ! أكل بعضي بعضًا. فأْذَنْ لي أَتَنَفَّسْ. فأَذِن لها بنَفَسَينِ: نفسٍ في الشتاءِ ونَفَسٍ في الصيفِ. فما وجدتُم من بَردٍ أو زَمهريرٍ فمن نَفِسِ جهنَّمَ. وما وجدتُم من حرٍّ أو حَرورٍ فمن نَفَسِ جهنَّمَ“، ففي البرد لا يشتغل فقط بدفع البرد باللباس والفراش والمأوى وإنما يزيد بالتوجه إلى ربه أن يحفظه من زمهرير جهنم، كما يتذكر في الصيف سؤال ربه أن يحفظه من النار، فتحضر الآخرة باستمرار في قلبه ووجدانه فيحسن الاستعداد للقاء ربه.
الشتاء خوف ورجاء:
فهذا رسول الله صلى الله عليه يعلمنا أن نمزج في فصل الشتاء بين الخوف من عقاب الله وعذابه وبين الرجاء في رحمته وسقياه، ونحن نعايش في هذا الفصل الرياح والأمطار والرعد والبرق ونستحضر أن هذه الأشياء جنود ربانية سقى الله بها وعذب، ويمكن تكون في الخير وتكون في الشر، فنلهج بالدعاء أن يكون الماء النازل غيث رحمة وليس مطر عذاب، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا عصفتِ الريحُ قال: “اللهمَّ! إني أسألك خيرَها، وخيرَ ما فيها، وخيرَ ما أُرسلت به. وأعوذُ بك من شرِّها، وشرِّما فيها، وشرِّ ما أُرسلت به“. قالت: وإذا تخيَّلتِ السماءُ، تغيَّر لونُه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر. فإذا مطرتِ سُرِّيَ عنه. فعرفتُ ذلك في وجهه. قالت عائشةُ: فسألتُه. فقال: “لعلَّه، يا عائشةُ! كما قال قومُ عادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قاَلُوا هَذَا عَاِرضٌ مُمْطِرُنَا“.
اللجوء إلى الله استسقاء للمطر وطلبا للصحو:
وإذا حل فصل الشتاء وشح المطر تعلم المومن اللجوء إلى ربه بالدعاء والاستسقاء وهيأ ما يستطيع من أسباب السقي والسدود والآبار وترشيد استعمال الماء وقلبه دائما معلق بالله، وإذا زاد الأمر على حده بما يهدده في نفسه ومصالحه طلب إلى ربه الصحو وتوجيه الأمطار إلى حيث لا تضره مع أخذه ما يمكن من الأسباب والاحتياطات، روى البخاري في صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أنَّ رجلًا دخَلَ المسجِدَ يومَ الجمعَةِ، من بابٍ كانَ نحوَ دارِ القضاءِ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قائِمٌ يخطُبُ، فاستقبَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قائمًا، ثم قالَ: يا رسولَ اللهِ، هلكَتْ الأموالُ وانقطَعَتْ السبلُ، فادْعُ اللهَ يغِيثُنا. فرفَعَ رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ يدَيهِ، ثمَّ قالَ: اللهمَّ أغَثْنَا، اللهمَّ أغِثْنَا، اللهمَّ أغِثْنَا. قالَ أنسٌ: ولا واللهِ، ما نَرَى في السماءِ من سحابٍ، ولا قَزَعَةٍ، وما بينَنَا وبينَ سَلْعٍ من بيتٍ ولا دَارٍ. قالَ: فطَلَعَت من ورائِهِ سحَابَةٌ مثلُ التُّرْسِ، فلمَّا تَوَسَّطَتْ السماءَ انتَشَرَت ثم أمْطَرَتْ. فلا واللهِ ما رأينَا الشمسَ ستًّا. ثمَّ دَخَلَ رجلٌ من ذلكَ البابِ في الجمعَةِ -يعني الثَّانِيَةَ- ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قائِمٌ يخْطُبُ، فاسْتَقْبَلَهُ قائِمًا، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، هلَكتْ الأموالُ، وانقَطَعَتْ السُّبُلُ، فادْعُ اللهَ يمسِكُهَا عنَّا. قالَ: فرفَعَ رسولُ اللهِ يدَيهِ، ثمَّ قالَ: اللهمَّ حواليْنَا ولا عَلَينَا، اللهمَّ علَى الآكَامِ والظِّرَابِ، وبطونِ الأوديةِ ومنَابِتِ الشجَرِ. قالَ: فأَقْلَعَتْ، وخَرَجْنَا نمشِي في الشمسِ”.
إسباغ الوضوء على المكاره والتمتع بالرخص المسنونة:
يعتني المومن في فصل الشتاء بالفرائض والواجبات قبل الإقبال على النوافل والمندوبات، فينظر في هذا الفصل وما فيه من فرص ومن تهديدات على أصل عبادته، ومما يصادفه البرد والإشفاق من مفارقة الفراش الدافئ، فيستحضر ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلُكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ؟ قالوا: بلى. يا رسولَ اللهِ! قال: إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ. وكثرةُ الخطا إلى المساجِدِ. وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ. فذلكمْ الرباطُ“. ولا شك مما يكره عند كثير من النفوس الاغتسال والوضوء في فصل الشتاء وخصوصا وقت الفجر، فوجب مجاهدة النفوس لأداء الفريضة في وقتها المحدد، ويستحضر المومن نعما كثيرة مرتبطة بفصل الشتاء تتجلى في رخص التيسير ورحمة الله بالناس في هذا الفصل كالتيمم بشروطه والمسح على الخفين والجوارب وجمع الصلاة للمطر ونحو ذلك فيزداد شكرا لله وحمدا للكريم المنان.
الغنيمة الباردة:
يتيح فصل الشتاء لما فيه من طول الليل وقصر النهار ودخول مبكر للبيوت للكثيرين فرصا عديدة في سبل الخير والإكثار من النوافل وصلاة الليل وصيام النهار وقراءة القرآن والاستزادة من المطالعة وكتب العلم ونحو ذلك، فقد وصف غير واحد من الصحابة صوم الشتاء بأنه الغنيمة الباردة منهم عبد الله بن مسعود وعامر بن مسعود وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله، قال ابن رجب رحمه الله في كتابه “لطائف المعارف” في المجلس الثالث الذي خصصه لفصل الشتاء: “إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، كما ترتع البهائم في مرعى الربيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء، بما يسر الله فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام. (…) وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن، وقد أخذت نفسه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه، وراحة بدنه”.
ثم أورد ما كان ابن مسعود رضي الله عنه يردده عند قدوم الشتاء حيث يقول: “مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام”، وقول عبيد بن عمير لمن حوله عند قدوم الشتاء: “يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرءوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا، قيام ليل الشتاء يعدل (أي يساوي) صيام نهار الصيف، ونقل بكاء معاذ عند موته وقوله: إنما أبكي على ظمأ الهواجر (أي فوات الصيام في الحرّ) وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلقَ الذكر”، وقول يحيى بن معاذ: “الليل طويل فلا تقصّرْه بمنامك والإسلام نقيّ فلا تُدنسّه بآثامك”.
التراحم المناسب:
ومما يجلب حرارة الإيمان في برد الشتاء أن يشعر المومن بالفقراء والمحتاجين والمشرّدين، ويستحضر أنه وإياهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى فيخرج ما تجود به نفسه من الثياب والفراش والطعام والأموال والسعي في توفير المأوى لمن لا مأوى لهم، ويذكر عن عمر رضي الله عنه إذا دخل الشتاء أنه يرسل للصحابة وغيرهم من الناس ممن انتقلوا من الحجاز ليسكنوا بلاد الشام ونحوها حيث البرد في الشتاء على غير ما تعودوه، فيقول: إن الشتاء قد حضر فتأهّبوا له أهبته من الصوف والخِفاف والجوارب، ففصل الشتاء فصل التفكر في الفقير والمسكين ومن تنقطع بهم السبل بالسيول والثلوج وغيرها، وفصل يفترض أن تنظم فيه قوافل الإحسان كما يفعل بعض الشباب المغربي المتدين في مبادرات إبداعية توصل البسمة إلى المناطق النائية والجهات المحاصرة بالثلوج رغم العراقيل والعقليات المتخلفة من بعض رجال السلطة من ذوي القلوب المتحجرة والذين يجعلون التهمة لصيقة بالمواطن حتى تثبت له البراءة.