الانقلاب على الذات
ذ. لحسن غمادي
هوية بريس – الاثنين 02 شتنبر 2013م
عندما تصاب أمة من أمم الأرض بداء فقدان الذات، فأول أعراضه التي تظهر على مخيلتها، وأكبر مشكلة تسيطر على عقليتها، هو الانبهار القاتل بما عند غيرها، والتنكر لما في أيديها، لتتسلق بعد ذلك في سلم الاستمداد غير الواعي من قيمها، وتتدرج في منعرج الاستيراد غير المرغوب في نظمها وأفكارها، وتسعى جادة وجاهدة من أجل تطبيق برامجها ومناهج تعليمها، بل تسير خلفها وتقتفي آثارها لدرجة أنها لو دخلت جحر ضب لتمنت الدخول معها.
والتنكر للذات والانقلاب عليها جملة وتفصيلا، والانسلاخ من أصالتها وأصولها، وقع منذ أن تدخلت اليد البشرية في تغيير الفطرة الإلهية، التي عليها فطر النفس الإنسانية، قال تعالى: “واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين”، وسبب ذلك الخلود إلى الأرض واتباع الهوى، فكان أخزى صورة يمكن أن يتصور بها كل منقلب على ذاته ومنسلخ عن هويته وحضارته، أن مثله “كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث”، فيا لها من صورة بشعة لنكران الذات والانقلاب عليها.
إن الدين الإسلامي ما كان يوما حجرة تقف في وجه من يريد الاستفادة مما عند الآخر فيما يتعلق بنظم الحياة، ومجالات وطرق الإبداع فيها، ولن يكون أبدا حجرة صماء تعترض طريق من يبتغ الإطلاع على ما بأيدي الحضارات الغربية من علوم وتكنولوجيا، ودقائق إلكترونية، ولا دليل أدل على ذلك من الإشارة الفارسية التي أشار بها سلمان على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في قضية حفر الخندق، فلم يتم رفض الفكرة لأنها وليدة أرضية غير إسلامية، أو نبتة زرعت في بلاد شركية لا إيمانية.
إن المشكلة بيننا وبين أولئك القوم وأقصد كل من رضع من أثداء الحضارة الغربية، وتشبع بالأفكار العلمانية، وبهرته النظريات الإلحادية، تكمن في كونهم أرادوا منا أن ننسلخ من حضارتنا، ونلقي بديننا وراء ظهورنا، ونتنكر لذاتنا وهويتنا، ونحتقر تاريخنا، ونرمي تراثنا، لننساق حول قفة أزبال من الأفكار التي أتونا بها، فنقبلها بعجرها وبجرها، خيرها وشرها، بمالها وما عليها، من غير تمحيص ولا تصفية ولا تحقيق.
إن العلمانية بمفهومها العام لا يراد فها إلا مصطلح اللادينية، أو الدنيوية، المضادة لكل مدلول ديني، أو ما يمكنه أن يمت بصلة إلى ما هو سماوي، رباني.. أما تلك المصطلحات التي يريد التدليس بها علينا بعض من خدعوا بها من قبيل (SECULARISME)، أو أنها مشتقة من العلم فلا أساس لذلك من الصحة وهذا يدركه من درس جذور العلمانية وأصولها، وبالتالي فدعوى علمنة الإسلام، أو إسلام بمنظور علماني، هي دعوة ملغومة، باطلة هدفها التدرج من باب -تمسكن حتى تتمكن-، لأنه وبكل بساطة، العلاقة بين الإسلام والعلمانية هي علاقة تضاد ليس إلا.
ألا يفهم القوم أن بلدنا عريق بإسلامه، معتز بدينه، مفتخر بعروبته، مختلف في لهجاته ولا مشكل لديه، أمازيغية كانت أو ريفية أو حسانية أو شرقية أو غربية، له قيم تحكمه، ومبادئ تضبطه، ودستور -القرآن والسنة- يوجهه، رغم كيد الكائدين عن طريق فتنة شبابنا وشاباتنا، ومحاولة نشر الرذيلة بين ذوينا وأهلينا، والتشجيع على الممارسات الإباحية والأفعال الإجرامية الانحلالية.
لقد تبث بما لا مجال للشك فيه أنه لا يخلو زمان من صنفين من الناس، يعيشان في صراع دائم بينهما، وتدافع حول أفكارهما، الأول باختصار مناصر للالتزام الطيبات في الحياة، والثاني متمرد على الدين والقيم، يدعو للاستمتاع بكل شيء حتى بالخبائث، فتحصل لدينا في كل جيل أنصار للحق، وحماة الفضائل، ودعاة الباطل وعشاق الرذائل.
إنه يوجد بيننا شرذمة من الناس قليلون لا يهدأ لهم بال، ولا يرتاح لهم ضمير، إلا أن يروا الشباب المسلم ذكورا وإناثا في الشوارع متسكعين، وعلى حافة الطرقات سكارى وحيرانين، وعلى ضفة الحانات والخمارات مصطفين، وداخل العلب الليلية قابعين، تحت مسميات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، كالحرية، وحقوق الإنسان، والقيم الكونية، والمثل العليا، وكأن ديننا وحضارتنا وتراثنا وتاريخنا عار عن هذه القضايا، فلا حرية فيه، ولا مثل عليا، ولا قيم كونية، ولا حقوق إنسانية، فيا للعجب!!
والسؤال الذي يطرح نفسه، منذ أن رفع هؤلاء القوم تلك الشعارات البراقة في بلدنا، ما الإضافات النوعية التي أضافوها لنا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وتربويا؟ وما المكانة التي أصبحت تتبوأها المرأة جراء صنيعهم؟ هل صرنا نضاهي الصين في تكنولوجيتها، أو ألمانيا في صناعتها، أو تركيا في تكتيك ونهج سياستها، أو اليابان في مناهج تعليمها؟؟
ألم نجن وراء تلك الأفكار الهدامة إلا مزيدا من التشتت الأسري، والانحراف الخلقي، والتفكك المجتمعي، والتخلف التربوي التعليمي، والشذوذ الجنسي، والكبت الانفجاري؟؟
إن كتاب ربنا وسنة نبينا فيهما من عناصر القوة والصلاح ومقومات الحياة، ما يجعلنا نستمد منهما كل ما يمكن أن نقيم به حياتنا من قيم، وقوانين، وأنظمة وتشريعات تشمل جميع مناحي الحياة، فإذا كان لدعوى أبيقور في العصر الروماني (ق4 ق م) ما يبررها والتي أعلن فيها على الملأ ضرورة فصل الدين عن الحياة، نظرا لظلم الكنائس، وتسلط قساوستها عليهم، ولكون آلهتهم الوهمية المزعومة لم تستطع بطبعها لتشرع لهم شيئا يتعلق بحياتهم، فقد بات من اللازم عندهم أن يتقدم للقضية بشر متألهون يضعون للناس ما ينظم حياتهم ويضبط علاقاتهم، ولكن الأمر عندنا نحن معشر المسلمين يختلف عنهم جملة وتفصيلا، فديننا أسمى وأشرف بأن يوضع في محل المقارنة، وموضع القياس، بإسقاط تلك المفاهيم العالقة بأذهانهم على ديننا الإسلامي الحنيف الذي شمل جميع المجالات، وفيه كل شاذة وفاده عن الحياتين الدنيوية والأخروية، وهذه المسألة يدركها من له صلة بنصوص الشريعة وأدلتها.
وليعلم من لا يعلم، أن التقدم العلمي، والتطور التكنولوجي، وتحقيق النجاح السياسي، والاكتفاء الذاتي، لا يتوقف على اتهام رسالة نبينا بالإرهابية ، أو الطعن في ثوابتنا الدينية، والتشكيك في مسلماتنا الإيمانية.
وبالتالي فنحن لا نرفض نقل تكنولوجيا يابانية، ولا سياسة تركية، ولا صناعة ألمانية، مع احترام خصوصية بلدنا، وتقاليدنا وأعرافنا، وإنما نرفض رفضا باتا وقاطعا، ونواجه بكل ما أوتينا من فكر وثقافة كل من يدعونا إلى نبذ ديننا وقيمنا وراء ظهورنا، والانسلاخ من ديننا والانقلاب على حضارتنا وذاتنا.