هل صحيح أن العلمانية لا تحارب الأديان؟
د. محمد وراضي
هوية بريس – السبت 06 دجنبر 2014
أثار انتباهي وأنا أتصفح جريدة “هسبريس” الإلكترونية مساء الأربعاء 26 نونبر 2014م مقالا عنوانه: “هل العلمانية تحارب الأديان؟”. فكان أن قرأته، وكان أن عزمت على تذكير صاحبه، وعلى تذكير قرائه بأن مناقشة ما لم يتطرق إليه، أو ما تم له إغفاله، هو مرتكز ما دارت حوله أفكاره.
أقصد مفهوم “العلمانية” التي بالغ في تمجيدها! وكأنها حولت العالم كله إلى جنة! فيها يتمتع كافة سكان الكرة الأرضية بالنعيم الدائم! بعيدا أن أوجهها القبيحة التي حولت العالم برمته إلى أوضاع، لم تعرف البشرية نظائر لها في عصر من العصور! وموصوفاتنا هنا لا تتجه صوب الماديات، إنما تتجه صوب المعنويات التي يختزلها مسمى القيم الكونية المزعومة! هذه التي لا تخفي همجية العلمانيين منذ ما يعرف بعصر الأنوار.
تكفي الإشارة هنا إلى التمييز العنصري الذي تجسد قبل كل شيء في استعباد السود واعتبارهم مجرد حيوانات للقيام بالأشغال الشاقة. ففي عام 1787م نقل 100 ألف عبد أسود إلى بلدان أوربا من بلدان أفريقية المستعمرة! وتقول التقارير القديمة: إنه بين عام 1511، وعام 1789م، نقل حوالي 50 مليون عبد إلى أوربا والأمريكتين! وكانوا يعاملون كما تعامل الدواب! والتمييز العنصري في قاموس العلمانية والعلمانيين لا يزال يفعل فعله في الدول العلمانية المتنطعة! وهذا منا يحتاج إلى التفاصيل التي تبرز همجية العلمانيين دعاة العصرنة والحداثة والتقدمية والقيم العالمية الموحدة للعيان!!! فإلقاء نظرة واحدة على ما يجري في عالم مطلع الألفية الثالثة يوضح ما نريد توضيحه في المقبل من المقالات!
وبعيدا عن مواجهة سخرية الكاتب ممن يدعي الإشفاق عليهم من خصوم العلمانية على حد زعمه. أسأله عما تعنيه العلمانية عنده؟ وعما تعنيه عند غيره من مؤيديه ومن مرافقيه على درب نفس امتداحها؟ وهذا المفهوم هو الذي كان عليه أن يوضحه، بدلا من تخطيه وكأنه أصبح من البديهيات أو من المسلمات، بينما هو في الواقع مفهوم غامض يجهل الكثيرون حقيقته! نقصد مدلوله الديني والسياسي والتاريخي!
تاريخيا عرف الغرب العلمانية قبل سيدنا عيسى وبعده وأثناء اعتناق مواطنيه للنصرانية بعد قرون من ظهورها، كما عرفتها أجزاء أخرى من العالم بكامله. فالإنسان بعيدا عن الأديان السماوية، كان يحتكم لتنظيم مجمتعه إلى الأعراف والتقاليد وإلى القوانين التي تواطأ عليها، أو تواضع عليها أبناؤه. بغض النظر عمن وضعها من أولئك الأبناء اللامعين المبدعين. ولا نحتاج هنا إلى إطالة الكلام بخصوص مصر الفرعونية، وكيفية إدارة شؤونها كدولة. ونفس الشيء لا نحتاجه بخصوص الكلدانيين والأشوريين. فحضارة كل منهما تجاوزت الآفاق إلى ما وراء نهر دجلة والفرات. وبناء حضارتهما قائم على ضوابط قانونية وضعية. وما قيل عن هاتين الدولتين، يقال عن البابليين الذين اشتهر من ملوك دولتهم سرجون الأول الفاتح، وحمو رابي الذي ترك كتابات وقانونا على جانب عظيم من الأهمية.
وبالانتقال إلى الغرب، نكون قد انتقلنا إلى اليونان شعب العلم والفن والحضارة والفكر. فقد كان أشهر المصلحين في أثينة هو صولون الذي خفف عن الشعب الضرائب. وسبيتراتس الذي شجع التجارة والملاحة. وكليبتانيس الذي حول حكومة أثينة إلى حكومة شعبية، وقسم السكان إلى عشائر، فأصبح لأثينة عشر قواد ومجلس شيوخ ومجلس قضاة ومجلس شعب.
دون أن ننسى الرومان كشعب الفتوح والتدبير، والآثار الخالدة التي لا تزال إيطاليا وغيرها من الدول الغربية تزخر بها. بل إنها لا تزال ماثلة أمامنا في بلادنا نفسها. إنها في مدينة وليلي القديمة التي تشهد بأن الرومان كانوا هناك منذ قرون. مع التأكيد على أن للرومان قوانين ظلت حية يجري العمل بها قبل الإسلام وبعده. فصح بأدلة قاطعة كيف أن العلمانية هي السائدة في العالم القديم، منظورا إليها عبر دول حضارتها المادية والمعنوية لا تزال ماثلة أمامنا. وسيادة العلمانية تعني سيادة قوانين، لم يكن وراء تفعيلها دين سماوي يذكر. حتى اليهودية التي كان من المفروض أن ينفذ أتباعها الأحكام التي جاءت بها التوراة، لم تكن لها فرصة مواتية لبناء دولة تدرك أوج الدول التي أشرنا إلى بعضها، وإن لم نقف قليلا عند الفرس الذين قارعوا الرومان في حروب دامية، والذين خلفوا من الآثار العمرانية ما يثير إعجاب زوارها وإن تهدم بعضها أو آل إلى السقوط.
ومتى صح أن كل الدول التي ذكرناها موجزين، بنت حضارتها على أسس علمانية، منظورا إلى القوانين السائدة فيها، فإن أوربا بعد أن تسلحت بالمسيحية في صورتها الكهنوتية، تخلفت وتراجعت عن التقدم في مختلف الميادين؟ نتساءل: هل الغرب الأوربي كان يطبق المسيحية بعد أن انتقلت إليه لكون الإمبراطور قسطنطين (306-337م) قد اختارها لنفسه ولشعوب إمبراطوريته، خاصة وأن قسطنطين قام بخطوتين على جانب كبير من الأهمية: الأولى اعترافه رسميا بالديانة المسيحية. والثانية نقله عاصمة الإمبراطورية من روما القديمة إلى روما جديدة، شيدها على ضفاف البوسفور. وكان أن قام بإصلاحات من جملتها التفرقة بين السلطتين: الحربية والمدنية.
ثم كان أن انتصرت المسيحية -بعد صراع مرير- على الوثنية. “مما استلزم قيام تنظيم للعلاقة بين الكنيسة من جهة، والدولة والمجتمع من جهة أخرى، ذلك أن الإمبراطورية الرومانية كان لها دين رسمي وكهنة يتمتعون بمساندة الحكومة وتأييدها. ولكن رجال الدين في العصر الوثني لم يحاولوا إطلاقا التدخل في شؤون السلطة الزمنية، بعكس الكنيسة التي أخذت تكتسب شيئا فشيئا صفة سلطة جديدة منافسة للسلطة العلمانية، مما أوجد نفورا بين السلطتين: الزمنية والروحية. وهنا نلاحظ أن تدخل الكنيسة في شؤون السلطة الزمنية، أخذ يستفحل بازدياد ضعف الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها، حتى انتهى الأمر بأن حلت الكنيسة محل الإمبراطورية عندما غربت شمس هذه الأخيرة في غرب أوربا. ومما ساعد الكنيسة على تحقيق ذلك، أنها حذت حذو الإمبراطورية الرومانية في تنظيماتها، حتى أصبح الأساقفة يضطلعون بعبء التنظيم الإداري في أقاليم الإمبراطورية، فضلا عن نهوضهم بمهام التنظيم الكنسي. (تاريخ أوربا في العصور الوسطى. د. سعيد عبد الفتاح عاشور. ص:45).
فيكون هذا النص الذي بين أيدينا، والذي ليس لنا فيه أي مدخل، مناسبة لتأكيد كون الأوربيين لم يحتكموا قط إلى أية شريعة من الشرائع السماوية! فإن تحدث أنصار العلمانية ودعاتها في العالمين: العربي والإسلامي عن إعجابهم بها إلى حدّ التقديس، فإنما هم يتحدثون عن الفصل بين مسمى السلطة الروحية والسلطة الزمنية! والحال أن الأولى بكل وضوح، وبعيدا عن أي التباس، لا تعني أحكام الشرع المنزلة! وإنما تعني “الكهنوت” الذي تقابله عندنا حتى الآن: ضلاليات الطرقيين والقبوريين. وبما أن هذه الضلالات لا تصلح أساسا لتنظيم دول متقدمة منفتحة على العالم. فإن “الكهنوت” المسيحي كما نعلم، مجرد عرقلة لكل فكر علمي تقدمي إبداعي. ولكل فكر حر لا ترضى عنه المؤسسة الباباوية بكل أتباعها من رهبان ومن قساوسة، ومن أساقفة، وممن يليهم من خدمة الكنائس وسجناء الأديرة الذين يمارسون فيها ما فضحه “جان جاك روسو” في “اعترافاته”. لأنه كاد يكون ضحية له!
فليفتح من يجادلوننا -كخصوم صرحاء للعلمانية- الأناجيل الأربعة المعروفة، فإنه متى فتحها لن يجد فيها أحكاما شرعية عملية، تصلح لتنظيم الناس في مجتمعات أو في دول! وحتى يتأكد صاحب المقال وقراء المقال مما ندعيه، فليصغ إلى الشهرستاني (479-548هجرية) صاحب كتاب “الملل والنحل” وهو يتحدث عن النصارى كأهل الكتاب فيقول: “والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام، لا يتضمن أحكاما، ولا يستنبط حلالا ولا حراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ ومزاجر” بحيث إن النصارى الذين اعتنقوا الدين الذي جاء به سيدنا عيسى، كانوا في الأغلب الأعم من رعايا الإمبراطورية الرومانية. وهذه الإمبراطورية لها قوانينها التي جرى العمل بها لقرون قبل ولادة السيد المسيح.؟ وهي نفس القوانين المعمول بها والديانة المسيحية قد حلت محل الديانة الوثنية على المستوى الرسمي والشعبي في الغرب كله. وهذا ما يفسر جانبا من جوانب إصلاحات شارلمان في ميادين التشريع والقضاء والإدارة. من ذلك أنه “استحدث كثيرا من التشريعات لإقرار النظام الإداري وتنظيم العدالة والمحاكم عن طريق تقوية العنصر الشعبي في دور القضاء. كذلك أمر شارلمان عام 801م بتدوين التراث التشريعي القومي لمختلف العناصر التي تألفت منها إمبراطوريته”.
مما يدل دلالة قاطعة على أن النصوص التشريعية النقلية غير موجودة إطلاقا في القانون الروماني! ولا صح أنها حلت محله في فترة زمنية من فترات تاريخ أوربا العصور الوسطى! وإنما الموجود هو الكهنوت الذي جرى ابتداعه بمناسبة شرح كبار الرهبان للإنجيل! وهو شرح لا يختلف عن “التلمود” عند اليهود، وعن “الفكر الظلامي الطرقي والقبوري” لدى المسلمين. إنه فكر يطل من ورائه الكهنة كلصوص وكمجرمين، لهم قدرة فائقة على الخداع والتحكم حتى في رقاب كبار الحكام كملوك وأباطرة وأمراء! يعني أن كهنوت رجال الدين المفسرين للإنجيل حسب أهوائهم الشخصية، هو الذي جرى فصله كسلطة روحية عن السلطة الزمنية. ومن نماذج الكهنوت باختصار شديد ما يلي:
إن البابا وحده “هو الذي يتمتع بسلطة عالمية! وهو وحده يمتلك سلطة تعيين الأساقفة أو عزلهم متى أراد! وجميع الأمراء العلمانيين، يجب أن يقبلوا قدم البابا وحده! وللبابا وحده الحق في عزل الأباطرة! ولا يجوز عقد أي مجمع ديني عام إلا بأمره! كما أنه ليس لأي فرد أن يلغي قرارا بابويا، في حين أنه من حق البابا أن يلغي قرارات بقية الناس! إنه لا يسأل عما يفعل، ولا يحاكم على تصرفاته! كما أن له أن يجيز لرعايا أي حاكم علماني التحلل من العهود وأيمان الولاء التي أقسموها لحاكمهم”!
وهكذا نجد كيف أن “جريجوري السابع آمن إيمانا قويا بأن البابا له السلطة العليا في حكم المجتمع المسيحي، وأنه يعزل الملوك والأباطرة بوصفه نائبا عن القديس بطرس. فإذا امتنع حاكم علماني عن تنفيذ تعاليم الكنيسة، فإن لها أن تحاربه بالأسلحة الروحية والمادية. وبعبارة أخرى، فإن جريجوري السابع رأى أن الطريق الوحيد لإصلاح العالم وتخليصه من الفوضى والشرور، هو إخضاعه للكنيسة! وإخضاع الكنيسة للباباوية. لذلك وجه جريجوري السابع مجمع روما الديني سنة 1075م (467هجرية) نحو اتخاد قرار حاسم بشأن التقليد العلماني هذا نصه: “إن أي فرد من الآن فصاعدا يتقلد مهام وظيفته الدينية من أحد الحكام العلمانيين، يعتبر مطرودا من هذه الوظيفة، ومحروما من الكنيسة، ومن رعاية القديس بطرس! وإذا جرؤ امبراطور أو ملك أو دوق أو كونت، أو أي شخص علماني على تقليد أحد رجال الدين مهام وظيفته الدينية فإنه يحرم فورا من الكنيسة”!
مما يتضح معه أن رجال الدين في الغرب العلماني الذي لم يعتمد الأحكام الشرعية قط، رافقهم التطلع إلى إخضاع العالم المسيحي برمته لتصوراتهم ولقراراتهم التي لم يتم التنصيص عليها في الأناجيل الأربعة!!! إنها كلها بمثابة المبتدعات عندنا نحن المسلمين! هذه التي يقف في طريق انتشارها والترويج لها علماء متسنون، لا يمكن لنا حصر أسمائهم في عجالة من القول. فضلا عن كون الشكل الذي عرفته المسيحية في الغرب قبل عصر النهضة، لم يعرفه العالم الإسلامي قط! يكفي أن الحكام أنفسهم طالما كانوا علماء، أو مشاركين للعلماء في معالجة قضايا لها صلة مباشرة بتسيير الشؤون العامة، من خلال الإفتاء وفقه النوازل، أي أنهم لم يشكلوا مؤسسة كبرى يندرج تحت سلطتها أتباع يحملون ألقابا مختلفة، كما حصل في المؤسسة الكنسية! فبات معروفا بأن هناك بونا شاسعا بين رجال الدين في الغرب، وبين العلماء في العالم الإسلامي منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن. فإن لم يكونوا بالكلية مجرورين تابعين مؤيدين للحكام في السراء والضراء بفعل القهر، فإن فيهم معارضين كبارا تعرضوا للضرب والقتل والنفي والمضايقات. فصح أن العلماء هم الذين كانوا ولا زالوا ضحية الحكام! بينما الحكام لم يكونوا ضحية العلماء!
فأن نتحدث عن فصل الدين عن الدولة في الغرب الأوربي بعد قرون من الجهل مظلمة، فأكذوبة فندناها ونفندها بأدلة قاطعة! كيف أن مسمى الدين الذي زعم الأوربيون فصله عن الدولة، لا يمت إلى ما ورد في الأناجيل الأربعة المحرفة بأية صلة! وهذه الحقيقة الدامغة، لم نقف نحن وراء إحداثها لمجرد أننا نعادي العلمانية والعلمانيين. وإنما صرح بها وفضحها واستنكرها أهل مكة العارفين بشعابها قبلنا! فالأناجيل في واد، وكهنوت الرهبان والقساوسة في واد آخر! والحكم في هذه الواقعة هو الإنجيل ذاته! ففرق بين أن نقرأ القرآن والأحاديث النبوية، فنقف فيهما على الأحكام الشرعية العملية، وبين أن نقرأ الإنجيل ولا نجد فيه غير الوصايا، والمواعظ، والأخلاقيات، والتوجيهات، وسيرة موجزة مركزة لسيدنا عيسى عليه السلام! فضلا عن كون القوانين الوضعية العلمانية هي التي سادت في الغرب كما تقدم قبل ظهور السيد المسيح نبيا ورسولا. بل حتى بعد انتشار الديانة المسيحية في أوربا بكاملها.
وهنا نتحدى أي مؤرخ في العالمين: العربي والإسلامي، أن يدلنا على مجموعة قانونية غربية هي عبارة عن أحكام شرعية مصدرها أحد الأناجيل الأربعة!!! غايتها تنظيم العلاقات العامة والخاصة في المجتمع المسيحي على وجه التحديد! فإن قدمنا نحن كتاب الله وقدمنا سنة نبيه في مؤلفات حديثية متنوعة. ثم قدمنا إلى جانبها ومعها مجموعة ضخة من المؤلفات الفقهية كـ”موطأ” مالك و”المدونة الكبرى” لسحنون القيرواني، وكتاب “الأم” للشافعي. فما الذي يقدمه الغرب إلينا للتدليل على أن الاحتكام إلى الشرع المسيحي جرى به العمل لقرون تلو قرون؟ كل ما يستطيع الغرب المسيحي تقديمه هو مؤلفات تتحدث عن القانون الروماني وتؤرخ له! يعني بصريح العبارة أن العمل بالقانون الوضعي هو الذي جرى والمسيحية المحرفة ضاربة بجذورها في القارة العجوز!
إننا إذن بفصيح الكلام العربي أمام مجرمين جعلوا من كهنوتهم الظلامي، لا من فحوى الأناجيل التي تم لهم تشويهها، مصيدة لاستغلال ملايين المواطنين من الأوربيين ومن غير الأوربيين من الولايات الرومانية الشاسعة الأطراف! والمجرمون في الحقيقة لا بد من معاقبتهم لتوغلهم اللامشروط في الظلم والطغيان والتجبر الذي يتنافى والقيم الإنسانية التي مجدتها الأديان السماوية بكاملها!
يقول “فولتير” واصفا الكهنوتيين حراس الكنائس كمتجبرين طغاة: “فالمسيح استنكر التفاوت في الدرجات بين الكهنة. ولكن الكنيسة تقوم على التسلسل الكهنوتي: البابا والمطارنة ورؤساء الأديرة يأمرون على هواهم وينهون! وصغار الكهنة (يقابلهم عندنا أتباع مشايخ الطرق الضلالية)، لا يملكون سوى حق الارتجاف والطاعة! والمسيح استنكر الغنى وأشاذ بالفقر. ولكن البابا والمطارنة ورؤساء الأديرة يرفلون في بحبوحة من العيش! باستثناء صغار الكهنة الذين يحيون حياة بائسة ويموتون جوعا! والمسيح جعل من الخشوع والندامة أم الفضائل (= التقوى والتوبة)، ولكن البذخ والأبهة يتراءيان في عربات كبار الإكليروس ولباسهم ومواقفهم. والمسيح امتدح صفاء القلب وأطرى سلامة الفكر، ولكن كهنته يقطعون على أنفسهم عهدا بالعفة لا يستطيعون التمسك به (كشيوخ الطرق الصوفية عندنا!). ويتماحكون في تفننات لاهوتية مخيبة وغير مجدية.
ولقد ابتدعوا في حل مشاكل الذمة الذي يسمح بارتكاب كل الجرائم ضمن بعض الشروط، بل يوصي بها في بعض الحالات! والمسيح أعلن أن السعادة لمحبي السلام، وبارك روح المحبة والغفران. ولكن الكنيسة اخترعت التعصب وخلقت معه الحروب: حرب ضد المنشقين. حرب ضد الهراطقة. حرب ضد البروتستانت. حرب ضد الجانسينيين. حرب ضد كل من تسول له نفسه بأن يكون محمديا أو يهوديا أو مفكرا حرا! ويقدر فولتير عدد الأشخاص الذين ذهبوا ضحية الكنيسة بعشرة ملايين نسمة على الأقل! فيقول: “فأين هي الروح الإنجيلية في هذا كله؟ يا لهم من ممثلين فريدين ليسوع المسيح! هؤلاء الممثلين الذين يخالفون بكل حركة من حركاتهم ما جاء في تعاليمه ووصاياه”!!!
ولم يفت ربّ العزة في نظمه الكريم التنصيص على هول ما لحق الإنجيل من تشويه، حده الأقصى على مستوى العقيدة، القول بالثالوث الأقدس! وحده الأقصى على مستوى التطبيق، تحويل الفضائل التي عرف بها السيد المسيح، وأوصى بها إلى رذائل قمتها دوس كرامات الناس بالأقدام! وجعلهم مجرد عبيد خاضعين لمبتدعات القيمين على الأديرة والكنائس! إلى حد أن الحكام أنفسهم ملزمون بتقبيل أرجل البابا وأرجل كل قديس يليه في الدرجة! مما يذكرنا بحكام العرب الحاليين الذين حلوا بكيفية أو بأخرى محل الكهنوتيين في العصور الوسطى (لا إله إلا بشار)!!! نقصد توغلهم في الطغيان والجبروت والظلم والاستبداد (ليرفع مقام عبد الفتاح السيسي!!!). مما دفع بشعوبهم إلى الانتفاضة ضدهم عبر القيام بما بات معروفا بالربيع العربي! وإلا فأي إسلام يا ترى يعتنقون؟ وبحمايته يتبجحون؟
فنكون هكذا قد وصلنا إلى النتائج الآتية:
1- الغرب الأوربي في أحضان الدول المتعاقبة على حكم شعوبه، لم يحتكم قط إلى شرع من الشرائع السماوية في أي عصر من العصور، حتى يقال: إنه قام بثورة أسفرت عن فصل الدين عن الدولة!!!
2- إن “المسيحية” التي حلت محل الوثنية كدين رسمي في الإمبراطورية الرومانية، لم يتم تطبيقها على الأقل كأخلاق وكنصائح وكتوجيهات، تتقدمها المحبة والأخوة والتعاضد والتكافل والتكامل، خاصة وأن الأناجيل الأربعة المعروفة لا تحمل الأحكام الشرعية كالكتاب والسنة عندنا نحن المسلمين!!!
3- وبما أن الأناجيل لا تحمل أحكاما شرعية. فإن القوانين الرومانية الوضعية هي التي يجري بها العمل. مما يعني أن الغرب كله علماني قبل ولادة المسيح، وبعد تبنيه المزعوم للديانة التي جاء بها مأخوذة من الإنجيل، الذي تولى القيمون على الدين تحريفه إلى الحد الذي ابتدعوا عنده ضوابط تجعل البابا سيدا على الحكام وعلى غير الحكام من الشعوب الأوربية!!!
4- فكان من الطبيعي أن يتحرك المفكرون المقيدة حرياتهم لتحرير الشعوب من الطغيان الكنسي الباباوي!
5- والطغيان الكنسي الباباوي تنفيذ للكهنوت (= الفكر الظلامي الديني) على الأرض، لا تنفيذ لما جاء به الإنجيل الذي هو نفسه عرضة للتحريف والتشويه والافتراءات الزائفة!
يقول فولتير: “فقد أخذ كل من الكنيسة والآباء المقدسين على عاتقهم أن يجعلوا الديانة المسيحية أقل تماسكا! ألا إنهم هم الذين يدعوننا إلى الإيمان بالثالوث الأقدس”!
6- والمسيحية التي يتحدث عنها فولتير، غائبة عن التطبيق كأخلاق وكنصائح وكتوجيهات كما قلنا. فضلا عن كونها مأخوذة من الإنجيل الذي لا يحمل أحكاما شرعية عملية كما سبق الذكر (وإلا فليقرأ المرتابون أو المتشككون أية نسخة من الأناجيل الأربعة يقع اختيارهم عليها).
7- فلزم التأكيد في النهاية، على أن الغربيين لم يفصلوا الدين عن الدولة، وإنما انتفضوا وثاروا ضد الكهنوت ورجاله، ليتحرروا من فكر ظلامي ليس هو الدين الذي جاء به سيدنا عيسى عليه السلام.
8- فصح عندنا قطعا بأن فصل الدين عن الدولة لم يعرف قط في العالم الغربي، وإنما عرف وطبق في العالم الإسلامي الذي انخدع حكامه، وانبهروا بالتقدم العلمي والصناعي الذي هو من نتائج العلمانية البعيدة عن الاحتكام إلى الدين!
9- في الوقت الذي غرق فيه الغرب في الفكر الظلامي الكهنوتي المبتدع، كان الشرق في ذروة الإبداع الذي غطى كافة الميادين الثقافية والحضارية على مدى ثلاثة عشر قرنا، أو لنقل فقط على مدى اثني عشر قرنا! فصح أن ما أبدعه كان هو الأساس الذي لا يجحد لانطلاقة الغرب في فتوحاته السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية. فعندما يذكر دانتي صاحب “الكوميديا الإلهية”، فإنه يحيلنا فورا على أبي العلاء المعري في “رسالة الغفران”. وعلى ابن شهيد الأندلسي في “رسالة التوابع والزوابع”. وعندما يذكر ديكارت ومنهجه في التحليل والتركيب، فإنه يحيلنا على الغزالي في مؤلفه “المنقذ من الضلال” بخصوص الشك المنهجي. وعندما يذكر دافيد هيوم ونظريته في “العلية”. فإنه يحيلنا على الغزالي نفسه في “تهافت الفلاسفة”. إلى آخر أقطاب الفكر الإسلامي الذين كانوا أساتذة الغرب في شتى ألوان المعرفة الأدبية والدينية والفلسفية والعلمية!!!
10- إن جَهِلَ العلمانيون عندنا ما يعنيه فصل الدين عن الدولة لدى الغربيين، فإننا نؤكد لهم لمرات ولمرات، بأن ما حصل في الغرب هو فصل السلطة الزمنية عن السلطة الروحية. هذه الأخيرة التي لم تكن سوى الكهنوت مجسدا في العالم الغربي لقرون طوال! أما فصل الدين حقيقة عن الدولة، فوقع في العالم الإسلامي وحده دون غيره! هذا العالم الذي يقوده اليوم مخدوعون منبهرون بما تلقنوه أو تلقوه من ثقافة غربية توحي لهم، أو أوحت لهم بأن أي تقدم لا يمكن تحقيقه في ظل الدين الإسلامي بعينه. فكان أن نصبوا له العداء إلى جانب عداء الغرب المفضوح له في الوقت الراهن بالذات أكثر من ذي قبل! حتى ولو أنهم يتظاهرون بحمايته والغيرة عليه! لكن الثورة الإيرانية الإسلامية -وإن لم يكن قادتها سنيون- فإنها وقفت في وجه الغرب الخادع الذي يحارب الإسلام بشراسة، خوفا من عودته إلى الواجهة العلمية والسياسية، بحيث إنه يهيئ نفس الأجواء التي هيأتها ثورة إيران التي أصبحت اليوم تنافس الغرب في مختلف الميادين العلمية: النظرية منها والتطبيقية. وذلك كله بالرغم من ظلاميات الغربيين الفاحشة التي تجسد في الواقع السياسي وجه العنصرية القبيح والظلم والطغيان ضد شعوب الأرض كافة، وخاصة منها الشعوب الإسلامية!!!
الموقع الإلكتروني: www.islamtinking.blog.com
العنوان الإلكتروني: [email protected]