الـحِـدَاد على امرأة الـحَدَّاد
د. أحمد الريسوني
هوية بريس – الإثنين 08 دجنبر 2014
في سنة 1930 أصدر الكاتب والمناضل التونسي الطاهر الحداد كتابه الشهير (امرأتنا في الشريعة والمجتمع)، وهو كتاب صغير الحجم، خصصه مؤلفه لنقد أوضاع المرأة ونقد التقاليد والقيود الاجتماعية المفروضة عليها في زمانه وقبل زمانه.
وفي الكتاب دعوة ملحاحة لتحرير المرأة وتعليمها، ووضعها على خطى المرأة الأوروبية. وفي الكتاب إشادة بالغة تصل إلى حد التغزل بنموذج الفتاة الفرنسية الذي كان يغزو ويجذب بعض الأوساط التونسية منذ أن أتت “الحماية الفرنسية” إلى تونس بفتيانها وفتياتها.
بل إن إشادته المتكررة امتدت كذلك حتى إلى حكومة الحماية الفرنسية “وجهودها الإصلاحية” للمجتمع التونسي عامة، وللمرأة التونسية على وجه الخصوص.. ولا نجد فيه حرفا واحدا ضد هذه الحماية الغاصبة ومثالبها..
الكتاب كان صادما ومستفزا، ليس فقط بجرأته ومبالغاته في التوصيف والنقد، بل كذلك برداءة بعض أفكاره وبذاءة بعض ألفاظه؛ كقوله (في ص117): “ما أشبه ما تضع المرأةُ من النقاب على وجهها منعا للفجور، بما يوضع من الكمَّامة على فم الكلاب كي لا تعض المارين. وما أقبح ما نوحي به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها، وعدمَ الثقة إلا في الحواجز المادية التي نقيمها عليها”.
ومع ذلك فالكتاب في مجمله وفي مرماه إنما هو دعوة إصلاحية وصيحة نهضوية، لا يمكن إنكارها ولا إنكار أسبابها ومنطلقاتها… وقد أُمرنا أن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
ولكن نظرا لخشونة لهجة الكاتب وشططه في النقد والتشهير، فقد ووجه بما هو شبيه بذلك ومن جنسه، ووصل الأمر إلى حد التضليل والتكفير لمؤلفه الطاهر الحداد رحمه الله.
ولعل أشد الردود وأقساها عليه هو كتاب (الحِداد على امرأة الحدّاد)، لمحمد الصالح بن مراد، الذي صدر سنة 1931، أي مباشرة عقب صدور (امرأتنا).
كان مراد الشيخ ابن مراد من هذا العنوان -(الـحِداد على امرأة الـحَدّاد)- هو أن نموذج المرأة التي يريدها ويؤيدها الطاهر الحداد، يستوجب الحزن والألم والدخول في حالة حداد منها.
وأما غرضي أنا من اختيار هذا العنوان نفسه عنوانا لمقالتي، فهو القول بأننا نحتاج حقيقةً إلى الـحِداد على امرأة الـحَدّاد، لكن ليس بسبب ظهورها أو ظهور الدعوة إليها والرغبة في تكوينها، وإنما حزنا على تشوهها و“تحولها” إلى كائن آخر ونمط آخر، غير ما كان يحلم به الطاهر الحداد ويدعو إليه.
لقد كان الطاهر الحداد يدعو أساسا إلى تكريم المرأة وتعليمها وإنصافها، وتمكينها من حقوقها، ومن الإسهام بمؤهلاتها في نهضة المجتمع وترقيته… وكان يرى أن ما هي فيه من جهل وحجر لا علاقة للإسلام به، يقول: “وما تزال امرأتنا إلى اليوم تجهل ما قُرر لها أو طُوي في نصوص الإسلام من كنوز الحرية والحق. بل إن المرأة الأوروبية حتى الآن محرومة في قوانين بلادها مما امتازت به المرأة في الإسلام”، (ص69).
ويقول: “وقد رأيتُ بعين اليقين أن الإسلام بريئ من تهمة تعطيل الإصلاح، بل هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب” (ص4).
هذا عن الجانب التشريعي والقانوني، وأما الجانب الاجتماعي من الكتاب فيكفينا قوله في عنوانه: “القسم الاجتماعي: كيف نثقف الفتاة لتكون زوجة وأُمًّا” (ص74).
وحين دعا إلى التثقيف التربوي والأدبي للفتيات، حذر بقوة من “الروايات الغرامية التي تتعمق في تأليه الحب وإشعال العاطفة إلى حد الجنون”، وأن ذلك يؤدي إلى كثير من جنايات القتل والانتحار، فضلا عما فيه من تعطيل للمواهب والقدرات. (ص135).
هذه هي الصورة التي كان الطاهر الحداد يتمناها لامرأتنا ويدعو إليها؛ امرأة متعلمة مثقفة مُكَـرَّمة، قائمة أولا بعمادة الأسرة والتنشئة والتربية، مسهمةٌ في غير ذلك من الوظائف والمناشط الخاصة والعامة… وهذه هي الصورة التي عمل لها كثير من رواد النهضة والإصلاح، من أمثال محمد الحجوي الثعالبي وعلال الفاسي. وقد تحقق من ذلك الشيئ الكثير والحمد لله.
فلماذا الـحِداد على امرأة الـحَدّاد؟
الـحِداد إنما هو بسبب الخوف على أفول امرأة الحَدَّاد وابن عاشور وعلال الفاسي والحجوي، بعد بروز أصناف جديدة من النساء والفتيات يتم تصنيعهن وتكييفهن وتوجيههن حسب متطلبات المتعة والفرجة والتجارة والإجارة والإثارة.
• فصنفٌ من هذا الجنس اللطيف إنما يراد ويستعمل لتلطيف الشوارع والحدائق وفرجة الجالسين في المقاهي.
• وصنف يستعمل لتأثيث الأسواق والمطاعم والمتاجر ومكاتب الاستقبال.
• وأما الدعاية التجارية لكل أصناف البضائع والخدمات، فلم تعد تحرك وتجلب إلا على أجساد النساء.
• وثمة صنف محظوظ، هن عبارة عن مرطبات للرؤساء والمدراء وكبار الزوار…
• وهناك صنف مدلل، ولكنه مبتذل، وهو صنف “الفنانات”، ويخصص غالبا لتجميل “الفنون” القبيحة الرديئة وستر قبحها ورداءتها، فمتى ما حضرت فيها أجساد النساء بمختلف استعمالاتها، وبجرأة وجاذبية، وبكثافة ووقاحة، فالعمل الفني سيصبح ناجحا رابحا.
• وثمة أصناف هي أشبه ما تكون بالمواشي المعلوفة المحبوسة، التي يتم تسمينها للبيع والإيجار لكل راغب وطالب، سواء فيما يسمى بالدعارة الراقية الغالية، أو في حفلات الجنس الجماعي، أو في الدعارة التقليدية الرخيصة، المتاحة لكل من هب ودب.
حدثنا أحد الأصدقاء قبل أيام أنه كان في سفر طويل، توقف خلاله بمدينة دبي الإماراتية. وأُخذ مع غيره من المسافرين إلى فندق لقضاء الليلة، ثم العودة لاستئناف السفر. وصل إلى غرفته، فتوضأ وصلى، ثم ذهب لينام، وإذا بأحد يطرق باب غرفته. أطلَّ صاحبنا من ثقب الباب، فإذا فتاة مزينة بكل ما تستطيعه هي التي تطرق عليه الباب. تركها حتى انصرفت، ثم نزل إلى “الاستقبال”، يخبرهم ويستفسرهم؟ فأخرج له الموظفُ الاستمارةَ التي سبق له ملؤها باللغة الإنجليزية، قائلا له: عندك هنا خانة “خدمات خاصة”، وأنت لم تكتب عليها “لا”، فلذلك أرسلنا لك هذه المرأة للمبيت عندك…
• وهناك ما لا يمكن وصفه ولا أصلح أصلا للحديث عنه، من قبيل عالم ما يسمى الصناعة البورنوغرافية والتجارة البورنوغرافية. فتلك أخزى مخازي العصر الحديث، وأقذر ما وصل إليه إذلال المرأة وتبخيسها وتنجيسها.
• وثمة طوائف من “النساء الجدد” لم يسقطن إلى هذه المهاوي والقيعان، ولكنهن مشغولات -كلما خرجن أو هممن بالخروج- بعرض أشعارهن وصدورهن وفتحاتهن ومؤخراتهن وعطورهن وحليهن…
هذه مجرد إشارات وقطرات من “بحر نساء الحداثة”، وما زالت الماكينة تشتغل وتنتج، وما زال شياطين الرجال -وليس النساء- يصممون لهن ويخترعون، ويفتحون عليهن من أبواب جهنم…
فكيف لا نُعلن الـحِداد على امرأة الـحَدّاد، وعلى ما بعد امرأة الـحَدَّاد؟!