اعتراف بفلسطين، أم تصفية للقضية الفلسطينية؟!
هوية بريس – شريف عبد العزيز*
الثلاثاء 16 دجنبر 2014
في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947، أصدرت الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين وإعلان دولة يهودية ودولة فلسطينية ومنطقة تحت الوصاية الدولية. كان هذا القرار هو الذي أُسست عليه دولة الاحتلال “الإسرائيلي”، وكان يقضي بأن تكون القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية.
وقد أعطى قرار التقسيم 55% من أرض فلسطين للدولة اليهودية، وشملت حصّة اليهود من أرض فلسطين على وسط الشريط البحري، من أسدود إلى حيفا تقريبًا (ماعدا مدينة يافا) وأغلبية مساحة صحراء النّقب (ماعدا مدينة بئر السبع وشريط على الحدود المصري)، ولم تكن صحراء النّقب في ذاك الوقت صالحة للزراعة ولا للتطوير المدني، واستند مشروع تقسيم الأرض الفلسطينية على أماكن تواجد التكتلات اليهودية بحيث تبقى تلك التكتلات داخل حدود الدولة اليهودية.
العجيب أن مناحم بيجن، الذي كان قد أسس حركة إرجون الإرهابية الإسرائيلية، والذي عمل لاحقًا كرئيس وزراء لإسرائيل وكوزير للحرب فيما بعد، اعترض بشدة على قرار التقسيم وأصدر بيانًا قال فيه إن كل أرض فلسطين هي أرض يهودية، العرب من جانبهم أصدروا مذكرات شديدة اللهجة ضد أمريكا وإنجلترا، وحاولوا تكوين جيش عربي للدفاع عن فلسطين، ومنذ ذلك الوقت، وعلى مدار الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب، استولى الإسرائيليون على كل مساحة فلسطين التاريخية، بما في ذلك المناطق التي كانت تحت الإدارة المصرية أو الأردنية مثل الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحت القضية الفلسطينية هي القضية الأهم والأبرز والأقدم في ملف السياسة الدولية.
وبتوقيع مصر وسوريا والأردن ولبنان اتفاقيات الهدنة سنة 1949 اعترفت بشكل غير مباشر بقرار التقسيم بالرغم من امتلاك “إسرائيل” 78% من أرض فلسطين بدلا من ال55% المذكورة في قرار 1947وتشريدها 61% من المواطنين العرب في الأراضي المحتلة.
فيما كان اسم فلسطين قد غيب من الخرائط الرسمية الدولية، وافتقد شعبها وحدته المجتمعية لتوزعه ما بين الأرض المحتلة والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات العربي والدولي.
وقد شغلت الإدارة الأمريكية طيلة السنوات التالية لهذا الواقع في طرح مشروعات لتوطين اللاجئين في الدول العربية المضيفة لهم وخارجها، ولكنها جميعها تكسرت على صخرة إجماع اللاجئين الفلسطينيين على رفضها والإصرار على حقهم في العودة لديارهم.
كما حاولت الإدارات الأمريكية المتوالية تحقيق التسوية على أساس الأمر الواقع بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، غير أنها فشلت جميعها أمام إصرار شعب فلسطين على تحرير كامل الأراضي العربية المحتلة وعودة اللاجئين إلى ديارهم واستردادهم أملاكهم والتعويض عليهم. بالرغم مما أبدته بعض الأنظمة من استعداد لقبول ذلك تحت الضغوط الأمريكية والأوروبية.
وعندما بدأت إرهاصات العمل الفدائي الفلسطيني غلب في أوروبا، رسمياً وشعبياً تصنيفه إرهاباً ضد دولة عضو في الأمم المتحدة وليست مقاومة مشروعة في القانون الدولي ضد دولة محتلة، وتجمع استيطاني عنصري.
ولم يؤد خطاب عرفات في الأمم المتحدة سنة 1974مؤكداً توجه المنظمة وقيادة فتح لاعتماد تسوية مع “إسرائيل” خياراً استراتيجياً لمتغير يذكر في المواقف الأوروبية من النضال الفلسطيني المشروع حتى تفجرت انتفاضة أطفال الحجارة سنة 1987التي عرّت العنصرية الصهيونية وفضحت زيف الادعاء بأن “إسرائيل” دولة ديمقراطية.
قد يكون اعتراف السويد بدولة فلسطين على حدود 1967 مقبولا بالنظر لتوجهات الحكومة القائمة الآن، وبالنظر لخلفيات السويد كبلد اتخذ الحياد خيارا استراتيجيا له منذ قرن من الزمان، ولكنه قد أصبح بالفعل مريبا وموضع شك مع توالى الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين، وهذا السخاء البرلماني الأوروبي الذي يجتاح بلدان أوروبا تأييدا لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، ويزداد الشك تحديدا مع اعتراف انجلترا وفرنسا الراعيين الرسميين لإقامة الكيان الصهيوني وغرسه في قلب العالم الإسلامي بوعد بلفور الانجليزي واتفاقية سايكس ـ بيكو، فانجلترا وفرنسا بمثابة الأم والأب للكيان الصهيوني.
فما الذي دفعهما لهذا التغيير الدرامي؟
لذلك حق لنا أن نتساءل عن سر التحول الراهن في مواقف الشعوب الأوروبية من العداء المجمع عليه للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وخاصة حقه في تقرير المصير، إلى بداية التفهم لمطالبه المشروعة؟ وهل غدونا أمام بوادر تحرر الوعي الشعبي الأوروبي من إسار الارتهان لفزاعة “معاداة السامية” المدعى به. أم أنه استجدت في الصراع العربي-الصهيوني متغيرات لمصلحة الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة أسهمت في بداية انحسار تأييد الرأي العام الأوروبي التاريخي للمزاعم والأساطير الصهيونية؟ أم أننا أمام فصل جديد من فصول المؤامرة على الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية كما هو المعتاد؟!
لست ككاتب مشتغل بالتحليل السياسي منذ فترة طويلة ممن تستحوذ نظرية المؤامرة على فكره وتتحكم في قلمه، ولكن إذا الكلام متعلق بفلسطين والصهاينة فإن الأصل في المتغيرات والأحداث الصادرة من الطرف الآخر؛ التآمر والخداع وتوظيف كل أدوات اللعبة الدولية، فلا أحد يخالف في أنّ فلسطين كانت ضحية مؤامرات دولية متتالية، وحتى نخرج من شرك الاصطلاح والأخذ والرد والقبول والرفض؛ فلنقل إنّ الغرب المسكون بأفكار ومبادئ وطموحات الحملات الصليبية الأولى، هو الذي أسس الكيان الصهيوني كنقطة متقدمة لتحكّمه في المنطقة، هذا الغرب الامبريالي لا يفتأ يخطط ويجدد خططه لتوجيه الأحداث المتعلقة بالقضية بما يحقق مصالحه حسب تقديره.
وحسابات القوى الدولية وعلى رأسها أمريكا في الشرق الأوسط في تغير مستمر خاصة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
ففي اللحظة التي أعقبت اتفاقيات كامب ديفيد، والاعتراف المصري بدولة الاحتلال “الإسرائيلي”، رفضت الدول العربية في مجملها التوجه المصري الجديد، واعتبروا القاهرة خائنة للقضية الفلسطينية وللأمة العربية بأكملها.
ووصفوا مصر بالبهيمة التي دخلت إسطبل ديفيد، لكن في السنوات التي تلت، تغير الأمر بشكل جذري، انضمت كل الدول العربية لمصر في الإسطبل، وتشارك الجميع في وجود علاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح التطبيع الذي كان رجسا من عمل الشيطان، وتهمة يتبارى الجميع في نفيها والتحذير منها، أصبح أولوية استراتيجية ثابتة في السياسة الخارجية لدول المنطقة جميعا، وتشكلت تحالفات دولية وإقليمية جديدة ضمنت مسارات مرسومة ومحددة سلفا للداخل والخارج، فدولة تلعب دور الصديق وأخرى تلعب دور الصديق، وثالثة تقف على الحياد، ودولة تلعب دور الإشراف والهيمنة الدينية، للترويج للفكر السلبي والانهزامي عن الدين، تماما مثل وعاظ ومفتين السلاطين الطغاة، ودولة تلعب دور الشرطي صاحب العصا الغليظة الذي يحمي مصالح الكيان والأمريكان، ويهدد من تسول له نفسه التعرض لمصالح الأسياد.
وبين هذه الأدوار جميعا ظلت القضية الفلسطينية تتحرك في مسارات محدودة ودوائر مغلقة، وظل الأمريكان والصهاينة وحدهم الفاعلين في القضية ودول المنطقة مفعول بهم، ودول العالم تشاهد وتراقب، لا تحرك ساكنا ولا تبدي رأيا ولا تقدم على خطوة إلا بمشورة سادة المشهد في واشنطن وتل الربيع.
تصفية القضية الفلسطينية وفق الرؤية الأمريكية والصهيونية كان هدفا استراتيجيا تعمل عليه أمريكا والصهاينة منذ أكثر من عشر سنوات، فحل الدولتين الذي يُعطى فيه الفلسطينيون دويلة حبيسة منزوعة السيادة والسلاح والحدود بمثابة الحل السحري للتخلص للأبد من صداع المقاومة الإسلامية في فلسطين والتي أكدت التجارب المتتالية الواحدة تلو الأخرى استحالة القضاء عليها بالطرق العسكرية، ومن ثم كان التحول إلى مسارات جديدة لإنهاء هذه الأزمة التاريخية التي أسقطت خمس حكومات صهيونية متتالية منذ 2006 حتى الآن! والعملية الأخيرة المسماة بالجرف الصامد قد كشفت بجلاء عن ضرورة اعتماد هذا المسار الجديد.
فالصهاينة قد شنوا هذه الحرب لإخراج حماس من قطاع غزة وتسليمه لحركة فتح، ولكن بعد 55 يوم من القتال الدامي واستشهاد أكثر من ألفي فلسطيني وهدم 70% من القطاع، اتضح أن الذي خرج من المعادلة هو حركة فتح وقائدها الفاشل أبو مازن وشلته الفاسدة.
أصبحت فتح منظمة لا صلة لها بالواقع، عاجزة، باهتة في أيام المعركة كما في أيام التسوية، ولن تحكم غزة وستخسر الضفة أيضًا، وستصبح السلطة الفلسطينية سلطة حماس. ومن ثم كان المسار الدولي الجديد الذي يهدف لإعادة الروح في جسد منظمة فتح الواهي شبه الميت، وإعادتها لصدارة المشهد في فلسطين، استصحابا للتاريخ القائل بأن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للفلسطينيين.
إنّ الصهاينة وحلفاءهم الإقليمين والدوليين رأوا بأنّ الوقت مناسب لتصفية القضية؛ فوضع الدول العربية والإسلامية في هذه الفترة يضمن لهم أن لا ردة فعل لا شعبيا ولا رسميا، فالربيع العربي قد تم إجهاضه على أبشع ما يكون، والشعوب تم طمس وعيها الجمعي بصورة مروعة وغير مسبوقة بحيث أصبحت ترى الصديق عدوا، والعدو صديقا، بمنظار إعلام خبيث ممول خارجيا، ولهذا يحاولون استغلال الظرف قبل تغير الأحوال، وهذا ما يفسر ما يحدث في القدس من تهويد للمدينة وتمادٍ في الاستيطان، وتهجير للعرب وهدم لمنازلهم واغتصاب لملكياتهم، واقتحام للأقصى وتدنيس لساحاته، وكلام على بناء الهيكل، ومشاريع قوانين لتقسيم القدس، وتهجير لسكان رفح، وإخلاء للشريط الحدودي، كل هذا ليس اعتباطيا بل هو جس للنبض، ومحاولة لفرض الأمر الواقع.
والذي شجع على تسريع هذا المشروع (مشروع الدولتين وتقسيم القدس) هو الوضع الإقليمي والدولي، والذي إذا أخذنا أحداثه متكاملة وركبنا منها المشهد الكلي، ولم نتعامل معها على أنها أجزاء متفرقة، بل أجزاء لصورة واحدة، وتتبعنها على أنها أحداث مترابطة لا على أنها أخبار متعاقبة تبين لنا كيف أن هذا الاعتراف بدولة فلسطين تصفية للقضية وإنجاح لفشل المفاوضات وأوسلو.
فانقسام الدول العربية أمر ليس بالجديد وخيانة بعض هذه الدول معروف بالضرورة، لكن دعمها للكيان الصهيوني علنا كما حدث في حرب غزة سابقة لا يريد الصهاينة تفويتها، وهذا ما أكده خطاب نتانياهو في الأمم المتحدة لمّا قال مفتخرا: أن كثيرا من الدول العربية اكتشفت أن لها مصالح مشتركة كثيرة معنا!
واضطراب الأمر في أغلب دول المشرق العربي يشغلها بنفسها ويحيدها عن التأثير في أي صراع مع “إسرائيل” وهي أضعف من أن تقوم بأي عمل ضدها. كما أن الحرب على الإرهاب التي يخوضها التحالف الدولي يعطي الصهاينة غطاء عسكريا كبيرا، والأهم من هذا كلّه ما تقوم به سلطة 3 يوليوز في مصر من حرب لا هوادة فيها على الحركة الإسلامية التي هي ألد أعداء الصهاينة، وعداؤها الشديد للمقاومة والشعب في غزة، قد تجاوز كلّ الخطوط بتهجير أهل رفح وهدم بيوتهم واقتلاعهم من أرض أجدادهم خدمة لأمن الصهاينة.
ولا يحتاج المراقب كدّ ذهن كبير ليرى أن الكماشة الصهيونية-المصرية، والموافقة الأمريكية، وتواطؤ بعض الأنظمة العربية، توجّه المسألة الفلسطينية برمّتها نحو الرضوخ والإذعان، فهي تضعف أركان السلطة الفلسطينية، من جهة، وتحاول خنق مليون ونصف المليون من سكان غزة، من جهة ثانية، مقفلة بذلك كل الطرق لأي حل مقبول سوى حل الدولة الحبيسة، وهي معادلة، في ظروف العالم العربي الحالية، لتيئيس الشعب الفلسطيني ودفعه إلى حلول مريرة مرارة العلقم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: مفكرة الإسلام.