فـنُّ الروايـة
ربيع السملالي
هوية بريس – الخميس 18 دجنبر 2014
يُخطئ كثير من النّاس حين يتوهّمون أنّ قراءةَ الرّواياتِ والانشغالَ بها ضربٌ من ضروبِ العبث، وشكل من أشكال التّرف الفكري، ولون من ألوان تزجية الوقت فيما لا يعود على القارئ الواعي بالنّفع.. بل فنّ الرّواية من الفنون الأدبية الجميلة التي يستطيع من خلالها الكاتب أن يمرّر رسائلَه وتوجيهاته وبثّ أفكاره التي يؤمن بها، لذلك نجد كثيرًا من الكتّاب الحَدَاثِيين والعَلْمانيين والليبيراليين قد اتّخذوا الرّوايةَ مطيّة لبثّ سمومهم القاتلة عبر كلامهم المنمّق، وأسلوبهم البديع، وبلاغتهم المميّزة، وسردهم المُشوّق..
في حين نجد الكتّاب المسلمين لا يهتمّون بهذا الفنّ الرّائع، ولا يعيرونه أدنى اهتمام، علمًا أنّه فنّ رائق ومناسب للدّعوة إلى الله، وإلى العدل والمساواة ودفع الظّلم أكثر من غيره من الطّرق الأخرى المتداولة، والتي أصبحت ثقيلة على كثير من النّفوس في هذا العصر..
وعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الدّكتور نجيب الكيلاني (يرحمه الله) كيف استطاع أن يجعل من بعض رواياته منبرا للدّعوة إلى أخلاق الإسلام ومبادئه وآدابه، والتّعريف ببعض رجالاته من الصّحابة وغيرهم لأدركنا أهمية هذا الفنّ الرّوائي الذي أنا محدثكم عن بعض إيجابياته في هذه الورقات..
قال صاحب كتاب (“قراءة القراءة”، ص:95): إنَّ الأدبَ لا ينفَصِلُ عن تأثير باقي العلوم فيه خاصّة الدّينية، والكلامية، والفلسفية، وهذا شيء موجود في كتبِ المُتقدّمين من الأدباء الذين يختلِطُ في كتبهم شتّى الفنون، وفي هذا العصر دخلت المذاهبُ الفكرية، والأيديولوجيات بشتّى أنواعها إلى ساحة الأدب، والتي يبثّ الكاتبُ فيها أفكاره وآراءَه في الكون والحياة؛ ولذا فإنَّ القارئ للأدب بعامّة ينبغي أن يقفَ طويلاً على الأفكار والمعاني، ولا يتغافلُ عنها، استلذاذًا بجرس الألفاظ ومعاني الكلمات.
قلتُ: والرّواية من أبرز الوسائل التي أصبحت متاحة للكتّاب والمفكّرين لكثرة إقبال الشّباب والشّابات عليها إقبالاً منقطع النّظير.
(فالشّرعُ والعقل لا يستهجنان أن يعمدَ الإنسان إلى حكاية حادثة خيالية لغَرَض إشراب نفوس المُطالعين حكمة عالية وعِظة بالغة). كما يقول فريد وجدي.
إنَّ الرّواية والقصّة عند الغربيين كان لها أكبر الأثر في توجيه الشّعوب هنالك، وأقبلوا عليها راضين مطمئنين، يقرؤونها بشغف وحب، بل كانت من أكبر الأسباب للثورات التي قامت عندهم، وغيّرت مجرى حياتهم التي كان يسودها الظّلام والظّلم والاستبداد والطّغيان.
يقول د. محمد حسين هيكل في كتابه (“ثورة الأدب”، ص:73): تكاد القِصّة اليوم في الغرب تستأثرُ بالأدب المنثور كلّه، وهي ولا ريب تتقدّمُ كلَّ ما سِواها من صور هذا الأدب…بل إنَّ كثيرينَ ليعترفونَ بأنَّ القصّة الرّوسيةَ في العصر الأخير منذ تولاّها دستويفسكي، ترجنيف، وتلستوي كانت ذاتَ أثر بالغ في توجيه الحياة الأوروبية كلّها!
ويقول منيف: (فإنَّ الرّوايةَ أداةَ معرفة، ولكنّها المعرفةُ الجميلة إذا صحّ هذا التّعبير.. إنّها تُخاطبُ العقلَ والوجدانَ معًا. تتوجّه إلى الإنسان، وبتواضع لكي تعلّمه وتُحرّضه. إنّها تفعلُ ذلك بالمناخ الذي تخلُقه، بالحياة التي تعرضها، بالنّماذج التي تقدّمها، لكي تقولَ باللّمح والإشارة ما لا تستطيعه الأدواتُ الأخرى). [“الكاتب والمنفى”، ص42].
فنجيب محفوظ على عِلاّته من خلال روايته (السّراب) استطاع أن يعالجَ موضوعاتٍ اجتماعيةً بالغةَ الأهمية في المجتمع المصري خصوصا والمجتمع العربي عموما، بلغة أنيقة، وأسلوب أخّاذ مع التّحفظ عن بعض ألفاظه المنافية لعقيدتنا، فهو عالج قضيّة الحياء المبالغ فيه ونتائجه السلبية على صاحبه، كما عالج قضيّة تدليل الأمّهات للأولاد الذي يكون شرّا مستطيراً عليهم في مستقبل الأيّام، إذ رسم بوضوح تلك الأمّ التي تسيء إلى ولدها من حيثُ تريد له الإحسان، وأغدقت عليه من الحنان ما لا يخطر على بال، لذلك نجد الرّاوي يطلق عبارته الفلسفية العميقة: (ومن الحنان ما يُهلك).
ثم إذا انطلقنا نقرأ بعمق وتدبّر نجد هنالك رسالة طيّبة منه سواء تعمّدها أو لم يتعمّدها، تقول إنَّ الخمرةَ التي ابتُليَ بها أبُ البطل وأدمنها في غير رفق ولا هوادة قد جعلت حياة أمّه جحيما لا يُطاق وسببا في طلاقها وإهانتها، بل جعلت هذا الخمّير السّكير يفكّر في اغتيال والده مستعجلا الثّروة التي سيخلّفها أبوه بعد وفاته.. إذًا فالخمرة هي أمّ الخبائث كما أخبرنا بذلك من لا ينطق عن الهوى صلّى الله عليه وسلّم، ولكن عن طريق هذه الرّواية قد تجعل القارئ يقتنع أكثر من اقتناعه بالخطاب المباشر.
لذلك يقول أمبرتو إيكو: (مهمة الرّواية هي التّعليم عن طريق التّسلية).. وهناك عدّة قضايا أخرى عالجها محفوظ بطريقة ذكية لو ذهبت أتتبّعها لطال بنا المقام، فبُغيتي من هذا الأنموذج توضيح الفكرة التي أرمي إليها لا غير. وهذا النّوع من الرّوايات الاجتماعية هو الذي تهفو إليه نفوس القرّاء، ويجدون له صدى في نفوسهم لأنّه يعالج قضايا مجتمعهم، وينطلقُ من بِيئتهم، وكأنّه يحدّثهم أو يتحدّث عنهم، وكثيرا ما نجد القارئ يَسكب العبرات تعاطفا مع البطل لأنّ له من الهموم ما تشبه همومه أو أكثر..
وهنا تحضرني مقولة جيّدة للدّكتور زكي مبارك يقول فيها: إنَّ الحياةَ هي كتابُ الأديب، فالأدَبُ يجبُ أن يكونَ من وحي الحياة، وإنّه من الضّروري أن نعيشَ الحياةَ حتّى نكتبَ آيات الوجود، لا أن نتركَ الحقيقة ونبحث عنها في الخيال، ونهرب من العالم ونلجأ إلى القلم.. [“رسالة الأديب”، ص:7].
فلمَ لا نركّز اهتمامَنا على هذا الفنّ وندرسه دراسةً عميقةً حتّى نستطيعَ أن تكون لنا اليد الطولى في الدّفاع عن الإسلام وقضاياه والدّعوة إليه والرّد على أعدائه عبر هذه الوسيلة (التي شاعت صناعتها في هذه الأوقات، وتسنّمت المرتبةَ العليا في فنون الأدب.. إنَّ كثيرًا من القرّاء يستروح إليها، ويمضي كثيرا من وقته فيها، من غير فائدة يستجلبُها، أو لطيفة يستملحها، وأولى بأولاء الاهتمام بالأفكار والمعاني ومواقع الأحداث..) [“قراءة القراءة”، ص:95].
يقول عبد الرحمن منيف: فالرّواية تسبرُ وتكشفُ وتعكسُ المراحلَ الأكثر أهميّة في حياة الشّعوب، إذ تقرأ أفكارَ النّاس وأحلامهم وطموحاتهم، خاصّة حين يعجزُ هؤلاء عن ترجمة هذه الأفكار والأحلام إلى أقوال واضحة أو إلى أفعال ملموسة. وربّما ليس من المبالغة القولَ إنَّ الرّوايةَ تنمو وتزدهرُ حينَ تعمّ المأساةُ ويزيدُ الظّلمُ ويقوى التّناقض. في تلك اللّحظات التّاريخية الهامّة تصبحُ الرّواية لسان النّاس والمرآة التي يرونَ فيها أنفسَهم، وقد يدهشون أنّ حالتهم وصلتْ إلى هذه الدّرجة من السّوء، ولابدّ أن يتساءَلوا: هل نحن مُذَلُّون ومهانون بهذا القدر، وهل وصلتْ الأمورُ إلى هذه الدّرجة؟ وقد يذهبون أبعدَ من ذلكَ، إذ يسألون أنفسهم: هل يجبُ أن نحتملَ كلّ هذا أم يجبُ أن نثور؟ [“الكاتبُ والمنفى”، ص:41].
ثمّ لا ننسى الدّور الهادف والأثر الجميل الذي تتركه قراءة الرّوايات في نفوس القرّاء، سواء من حيث الجوانب التّاريخية التي قد يتطرّق إليها الكاتب، أو التّعرف على تقاليد وعادات الشّعوب التي يصفها الرّاوي ابن ذاك الوطن الذي نجهله، والتي كان بعض الأقدمين لا يبثّونها إلاّ من خلال تدوينهم لتفاصيل رحلاتهم في البلدان المختلفة. أمّا من ناحية السّبك الجميل والأسلوب الخلاّب واللّغة الفصيحة الذي يكون الكاتب الموفّق يمتاز به، فتجد من يدمن قراءتها من أكثر النّاس تعبيرًا، ومن أحسنهم أسلوبا، ومن أكثرهم لغةً بتفاصيل الحياة التي لا يقيم لها وزنًا بعض كبار الكتّاب في تواليفهم الأخرى، وأعرف الكثيرَ من الشّباب الذين تعلّموا الكتابة وأصبحَ زادهم اللغوي والفكري جيّدا عن طريق كثرة قراءتهم للرّوايات.
فالرّواية ليست إلاّ تاريخًا إن أبدعه خيالُ كاتب أو أديب فهو إنّما أبدعه من واقع الحياة، وكثير من القَصَصيين يلجؤون إلى التّاريخ يستلهمونه مادّة قصصهم كلّها. على حدّ تعبير الدّكتور محمد حسين هيكل.
وستكون الرّواية بحول الله تاريخ الذين لا تاريخ لهم، تاريخ الفُقراء والمسحوقين، والذين يحلمون بعالم أفضل. ستكون الرّواية حافلة بأسماء الذين لا أسماء كبيرة أو لامعة لهم، وستقول كيفَ عاشوا وكيفَ ماتوا وهم يحلمون. وستتكلّم الرّواية أيضا وبجرأة عن الطّغاة والذين باعوا أوطانَهم وشعُوبَهم، وتفضح الجلاّدين والقَتَلة والسّماسرة والمخرّبة نفوسُهم، ولابد أن تقرأ الأجيالُ القادمةُ التّاريخ الذي نعيشه الآن وغدًا ليسَ من كتب التّاريخ المصقولة وإنّما من روايات هذا الجيل والأجيال القادمة. كما يقول منيف.
وليسَ معنى هذا أن ننغمسَ في عالم الرّوايات والقَصص الانغماسَ المطلق دون حذر، ودراية، وقبل الوقوف على أرضية صلبة من عقيدتنا، بل يجب أن نقرأ بحذر، ونتدبّر بفهم، ونطرح ما لا فائدة منه طرح النّواة.. وكلّ يُؤخذ من كلامه ويترك إلا نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.. وفي هذا يقول الشيخ فهد الحمود في كتابه النّفيس [“قراءة القراءة”، ص:45]: إنَّ القراءةَ إذا كانت مبنيةً على أساس صحيح لا ينصدع، وقاعدة صلبة لا تنخرم، وكانَ التّكوينُ العقديُّ والفِكريُّ للقارئ سليمًا، فإنَّ هذا لا ريب يحميه في مستقبل أيّامه من الموجات والتّيارات المُتعدّدة، بل يكون هذا دافعًا له إلى القراءة الواعية النّاضجة، قالَ البُحتريُّ:
إذا ما الجُرح رمَّ على فسادٍ***تبيّنَ فيه تفريطُ الطّبيبِ!اهـ
أمّا الرّوايات المترجمة فأغلبها سيّء وشائه ولابدّ من استشارة الخبراء قبل اقتناء أيّ رواية غربية مترجمة لكي لا يضيع الوقت والمال فيما لا يعود على القارئ بالنّفع، وقد أحسنَ الكاتب الكبير محمد فريد وجدي حين قال في موسوعته (“دائرة معارف القرن العشرين”، ج:4/ص:511): ممّا يُؤسفُ له أنَّ أكثر هذه التّرجمات معيب لغةً وأسلوبًا يؤدي المطالع إلى إضاعة اللّغة والضّلال عن منهاجها العربي الصّميم. وفوق ذلك فإنَّ أولئك المترجمين لم يعمدوا إلاّ إلى الرّوايات ذات الصِّبغ الغرامية المُهيّجة للشّهوات فأضرّوا الشّبان ضررًا بليغًا بإهاجتهم إلى التّعشّق من جهة ثمّ إلى احتذاء شاكلة الغربيين في أمر العلاقات النّسوية من جهة أخرى، فجاءت هذه الرّوايات المترجمة ضربة قاضية على الأخلاق والفضائل.
وفي الأخير لعلَّ من المفيد أن أهتبل الفرصة لأنصح إخواني القرّاء وأخواتي القارئات لاسيما المبتدئين منهم بروايات الدّكتور نجيب الكيلاني، فإنّ فيها من المتعة والفائدة الشّيء الكثير، إلى جانب لغته السّليمة، وأسلوبه الرّائع، وسرده الشّيق.. (عمر يظهر في القُدس)، فـ(قاتل حمزة)، ثمّ (ليل وقضبان)، ثلاثتها كافية للتعرّف على عظمة الرّجل، ومن تمّ البحث عن عشرات الرّوايات المميّزة له.
والله الموفق.