موقف الأحداث من الأحداث
ذ. طارق الحمودي
هوية بريس – الأربعاء 04 شتنبر 2013م
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين أما بعد:
فإن أهل العلم المشايخ الجلة.. هم هداة الناس ونجوم الملة.
هم أهل الفضل.. ولا يعرف فضلهم إلا أهله.
هم الموقعون عن رب العالمين.. وورثة سيد الأنبياء والمرسلين.
حبهم دين يدان به.. وحصن يحتمى به.
هم أمنة الأمة.. وحماة السنة.. وأهل الله وخاصته.
هذه أمور لا يختلف فيها منصفان.. ولا يتدافع فيها عاقلان.
وعلماؤنا أحباء إلى قلوبنا.. لكن الحق الظاهر إن خالفهم كان أحب إلينا منهم.. وهذا ما تعلمناه منهم.
يخطئ كثير من الناس حينما يروجون لما لم يحيطوا بأبعاده في كلامهم.. مثل أن ينشروا بين الناس أن الكبار أولى بالحق من الصغار.. ثم يؤسسون عليه مبدأ التسليم.. على طريقة المريد الصوفي من شيخه.. لا على طريقة المريد السني (الذي لا يريد لنفسه إلا ما أراد الله به) كما قال أبو علي الروذباني.
وهذا ترويج لبضاعة مزجاة لا قيمة لها في سوق العلم والواقع.. فهناك خلط بين النهي عن أخذ العلم عن الأحداث، وبين حق الحدث في مخالفة الكبير؛ وبينهما برزخ لا يبغيان؛ فإن الصغير أحيانا يكون أولى بالحق لنفسه من الكبير.. في بعض المسائل..!
صحيح أن جعل الأخذ عن الحدث أصلا متبعا غير محمود.. لكن مخالفته لمن هو أسن منه وأعلم في أمر من الأمور محمودة إذا ظهرت الحجة، وانكشف الحق عن الخطأ؛ وظهر من العالم نوع تقصير في فن من فنون العلم.. وهذا معروف، ولذلك قال الذهبي في السير (5/260): (ما زال في كل وقت يكون العالم إماما في فن مقصرا في فنون).
بل كان الكبار يحتاجون أحيانا إلى الصغار في اتخاذ القرارات.. حتى صار سنة مرضية.. وطريقة شرعية.. فقد روى الرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص:193، دار الفكر) عن همام وطالوت وأبو نعيم في الحلية (3/364) عن علي بن المديني وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/85، الكتب العلمية) عن محمد بن عيسى ويحيى بن حسان عن يوسف بن الماجشون قال: (قال لي ابن شهاب الزهري ولابن عم لي ولآخر معنا: لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم)، فانظر إلى قول ابن شهاب: (الأمر المعضل)..
وإن كان هذا الأثر منقطعا بين الزهري وعمر.. فاستشارة عمر لمن هو أقل سنا منه معروفة مشهورة.. وحسبي قول ابن شهاب: (لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم).. فلا تحتقروا أقدار إخوانكم من طلبة العلم لحداثة أسنانهم.. فكيف إن كانوا على عتبات الكهولة.. وشهد أهل الفضل لهم بالعقل والحكمة! فلا يضر الصغير حداثة سنه وقلة خبرته إن كان أكرمه الله بالعقل وصحة نظر كما قال أبو إسماعيل الحسن بن علي الطغرائي الأصفهاني:
لا تحقرن الرأي وهو موافق — حكم الصواب وإن بدا من ناقص
فالدر وهو أجل شيء يقتنى — ما حط رتبته هوان الغائص
وقال الرامهرمزي في المحدث الفاصل:
(وأنشدنا أصحابنا البغداديون:
إن الحداثة لا تقصّـــــــر بالفتي المرزوق ذهنا
لـكـن تُـذَكِّي قـلـبـه — فـيـفـوق أكـبر منه سنا).
فينبغي توطين النفس على النظر إلى القول لا القائل.. كما قال ابن القيم: (أنظر إلى ما قال لا إلى من قال) المدارج (3/522).
إن من أهم قواعد أهل السنة أن كلا يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول ابن القيم في شيخ الإسلام الهروي: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه).
ومثله قول عبد الجبار في منع الشافعي نسخ الكتاب بالسنة : (هذا الرجل كبير، ولكن الحق أكبر منه..).
ومن طرائف الاستدلال استشهاد بعضهم بالقياس على قصة الحديبية في وجوب الوقوف عند اختيار العالم فلا يتجاوز.. والجواب أنه تمثيل وقياس مع الفارق.. فثم أصل وحي.. وليس عند العلماء إلا فرع منه.. ألم ينتبه إلى قوله عليه الصلاة والسلام لعمر: (أنا رسول الله ولست أعصيه).. فهذا يعني أنه مؤيد بالوحي.. فهل يستطيع أن يقال في عالم؛ هو عالم وليس يعصي الله؟!..
إني ناصح لإخواني ممن يكتبون أحيانا في مثل هذه الأمور أن يكون قد غلب على نياتهم نوع حسد بين الأقران.. أو نوع هوى.. فغالب ما يصيب النيات من الأمراض.. لا يظهر لها في بادي الرأي أعراض.. فالحذر الحذر!..
فليكف بعض إخواننا عن الخبط العشواء.. فإن لم يكفوا فليعفوا.
والحمد لله رب العالمين.