وقفات هادئة مع الدكتور عبد الرحيم العطري
محمد بوقنطار
هوية بريس – الخميس 01 يناير 2015
لا يزال التعالم يصنع في عقول المتعالمين أنواعا من الجراءة؛ وألوانا من الصفاقة؛ وأصنافا من التصلف، فيمضون في اعتساف ركام فكر حائد يمارسون به إقعادهم وترفهم، وربما بل أكيد ارتزاقهم على بقايا أطراف موائد من ينوبون عنهم ويرفعون من عقيرة الدفاع عن طرحهم بكل الوسائل المطلوبة قبل المتاحة، ولا شك أن نبتة التعالم إذا سقيت بماء العجب وتربت في كنف الذين مارسوا تعالمهم وسط سوق بضاعته الرائجة هي منتوج يقود دورته الصناعية ذلك الذي سماه ووصفه الصادق المصدوق بـ«الإمّعة».
وربما كان من الغباء أو التغابي الساكن في كوامن حسن القصد وسوي الاعتقاد في هذا الإمّعة تصور بله احتمال اصطفافه إلى جانب الحق في بيئة تاريخية ومكانية يعيش فيها الحق وأهله إيقاعات مرتفعة لمظاهر الغربة والقدرة الخانقة.
والأستاذ الدكتور كما عرفته وبلوت خبر خرجاته تنوعت حصيلة منتوجه، فقد كان حاضرا ببذلته وربطة عنقه في مناقشة ظاهرة الشخير بل وجدته بالصوت والصورة يثني على الحمار في مسابقة للحمير، وتترادف متتالية العطف وتتعدد محطات الوقفات فكأنه من جملة من قال فيهم الله جل جلاله: «والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون».
بل كأني به في كثير من المحطات قد دفعته الأهداف قبل البواعث إلى التسفل في نقيصة الغواية فكان من الغاوين، إذ لست أدري أي رابط ولا أي علاقة قربت أم بعدت يمكن أن تجمع بين التخصص في سفسطة ما يسمى بعلم الاجتماع والمنخرطين في سلكه من رخويات وفقريات الاختصاصيين والاجتماعيين والنفسيين؛ وبين الترويج للقبورية والتصنيف في سياق الدعاية غير المجانية للمشاهد والموالد والأضرحة؛ وسلسلة الأولياء من الأقطاب والأبدال والأوتاد وخدام الغوث المتصرف جنبا إلى جنب مع من لم يتخذ صاحبة ولا ولدا؛ ولم يكن له كفؤا أحد؛ تعالى الله عما يقوله الظالمون علوا كبيرا.
فهل بعد الاستقصاء عن عبثية الرابط بين علم الاجتماع عند التسليم وبين علم التوحيد وما يناقضه من كبيرة الشرك وعبادة البشر والوقوف على كبيرة الاصطفاف إلى جانب الباطل والاستشهار لتجلياته والمنافحة عنه وتسويغ حيدته وإقعاده بسنان القلم ولسان الغبن المسلّم، سيقف الأستاذ مع تعالمه ليمارس أسلوب الالتفات إلى ما راكمه عند هذا الدرك فيرعوي، أم أن التعالم سيمضي به في طريق صعوده إلى الأسفل إن جاز التعبير؟؟؟
وللأسف الشديد أن نسجل استمرارية سير التعالم في طريقه المعهود ومضيّه بصاحبنا إلى وجهة مزيد من الاجتراء والصفاقة والتصلّف، فقد كان العهد بآخر خرجاته المترادفة أن استفتح إحدى حلقاته التي يذيعها على أثير راديو «م.ف.م» والتي كان عنوان موضوعها «الخطافة أو العتاقة».
ولا نستكبر على الدكتور من جهة الإنصاف خوضه في مثل هكذا مواضيع، ولكننا نستكبر عليه وعلى شواكله أن يوطئ بين يدي هذا الموضوع باستدراك تصحيحي تصويبي ـزعم- مفاده أن اعتقاد كثير من أعيان الأمة وعلمائها أن أبا هريرة كان صحابيا جليلا هو محض خطأ واعتقاد مجانب للصواب، وإنما الصواب الذي أتى به الأستاذ والذي يجتر به صولة صائل كان قد قال: «وإني وإن كنت الأخير زمانه***لآت بما لم تستطعه الأوائل»، وهو أن أبا هريرة كان تابعيا تسلل بمكر طوية وسوء نية -وحاشاه- إلى محراب الفضل المطلق؛ فضل مصاحبة النبي عليه الصلاة والسلام. ممارسا بذلك تدليسا وبهتانا تاريخيا على الله ورسوله والأمة من بعده وحاشاه رضي الله عنه وأرضاه.
وقد لا نكون في حاجة ضيق وإلحاح من تكرار السؤال على شاكلة سابقه والذي بحثنا من خلاله عن علاقة علم الاجتماع بعلم التوحيد عاطفين هذا التكرار بالبحث في ملحظ المشترك بين هذا العلم والعلم الذي خص به الله هذه الأمة وميّزها به عن سائر الأمم ونعني به علم الرجال رواية ودراية أو علم الجرح والتعديل.
والجواب على التو أنه: لا علاقة، فكيف بعد هذا الاستبراء أن يخوض الأستاذ المفوه في ما لا يملك مفاتيحه ولا يحسن العوم في لجته التي لا ينفع بالنجاة من الغرق بين أمواج شبهها فصاحة اللسان؛ ولا حركة بنان؛ ولا سفسطة غلمان؛ ولا خلوة إعلامية مع سخائم قنوان؟
ولأن الشبه في هذا الصدد وبهذا الخصوص لم ينقطع وصلها ولم يهدأ ركزها وهي على كثرتها تحكي قضية أن الطعن من الخلف لا يلزم منه إلا الوقوف على حقيقة أن المطعون هو في المقدمة.
ولأن أبا هريرة علم وجبل أشم أشهر من أن يشكك في صحبته بله في كنيته التي كانت ولا تزال وستزال في غير تأل من الكنى اللامعة في سماء الحضارة الإسلامية، أو يطعن في موروثه المبارك الذي كان به ولا يزال وسيزال بإذن الله يذكر كلما ذكر الرواة من الصحابة، ويذكر كلما ذكر الفقهاء من الأمة، ويذكر متى ما ذكر العباد والزهاد، ويذكر إذا ذكر القراء، ولاشك أن من كان هذا شأنه فلا يخشى عليه من تطاول بنيات الطريق الذين لن تصل شهرتهم استشرافا إلى شهرته بله إلى شهرة هرته التي كانت ترافقه وهو يرعى غنم قومه مقابل قراريط.
ولعلنا بهذا نزيد في راحة الكاهل المرتاح ونربأ بالنفس عن الاستفصال الذي كفانا مؤنته من سبقنا إلى الدفاع عن هذا العلم والجبل الأشم من الذين كانوا بالمرصاد يقفون حراسا لثغور الإسلام وحماة لديار الشريعة والأحكام، ولكن -وما أجمل الاستدراك بعد الإجمال- ذلك الاستدراك الذي يبحث في البواعث الكامنة وراء رفع عقيرة اتهام هذا الصحابي الجليل في صحبته وكثرة روايته وخصيصة مرافقته وربط عدد سنواتها مع ما أثير حول حجم تركة مروياته.
وربما احتجنا أن نعطف في دائرة التهمة إلى هذا الصحابي بشخصية علمية تاريخية اشتركت معه في نفس الفن واللون فن الرواية، إنه الإمام صاحب الصحيح محمد ابن اسماعيل البخاري، ولا شك أنه عطف نبغي من ورائه الوقوف على ما وراء أكمة هذه التهمة واطرادها فيهما دون غيرهما من الرواة والمحدثين، وهو عطف لم نردف به الأول إلى الثاني رجما بالغيب وإلقاء للكلام على عواهنه ولكنه خبر واستقراء حصيلة الخصوم في هذا الخصوص.
فإنك إن قلّبت أوراق هذه الحصيلة وخبيئة سطور التهمة ومهما تباعدت الشقة واختلفت أمصار المسقط فإن الطعن واحد والمؤاخذة تواطأت على الغالب في كون هذان الرجلان جمعا الغث والسمين وأكثرا الوضع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ولا شك فرية أثارها الخصوم القدامى ووقعت بأيدي المستشرقين ودارت بها الدورة ليأخذها عن القدامى والمستشرقين المجددينات المعاصرون، ولعل الغرض من الطعن في النقلة هو الطعن في المنقول ولا يتأتى هذا ولا يؤتي الجمرة المرجوة منه إلا بتجريح العدول والطعن في أمانة وصدق النقلة.
وبالرجوع إلى حجم المنقول عن هذين العظيمين عظيم الفضل المطلق وعظيم الفضل المخصوص باعتبار أن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم 5374 حديثا بالمكرر والإمام البخاري جمع من الأحاديث الصحاح 9082 حديثا بالمكرر، وهما رقمان يشرحان الباعث والسر وراء التحامل الذي اطردت قواعده من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وما بينهما حتى تشابهت قلوب المتحاملين الذين يهمّنا في ذيل هذا المحبور وضعهم على ضوء ما صح من الأخبار في إطار الوصف الحقيقي لموصوف خبيئتهم نسأل الله العفو والمعافاة.
فقد أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة إسلام أم أبي هريرة رضي الله عنهما قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم :«ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عبيدك هذا -يعني أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين. فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني» صحيح مسلم بشرح النووي كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم.
ولعلنا لا نحتاج أن نذكر وننبه إلى أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا ترد، فإن هذا من باب المعلوم من الدين بالضرورة، ولكننا قد نحتاج إلى أن نذكر وننبه على أنه لا منطقة أعراف في مقام حب الصحابة وتوقيرهم والتسليم لأمر النبي في شأننا مع شأنهم فما أحبهم إلا مؤمن وما أبغضهم إلا منافق.