تحرز اللبيب في اختيار وسائل الدفاع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الجمعة 09 يناير 2015
أخبر نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن من علامات الساعة كثرةَ الفتن، وانتشارَ القتل، فقال -صلى الله عليه وسلم-: “يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ“. قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: “الْقَتْلُ” متفق عليه.
وها نحن -في كل لحظة- نسمع بحرب هنا، وانفجار هناك، وهجوم هنالك، يسقط القتلى تِباعا، وتزهق الأرواح عِيانا، فتُرمَّل النساء، ويُيَتَّم الأطفال، وينتشر الفقر والعَوَز، ويعظم التشرد والتشظي، فتُذكى نار الجريمة، ويَستعِرُّ لهيب السَّخيمة، وتوقد النفوس النَّقيمة، فلا تستقر المجتمعات على وئام، ولا يدوم لها استقرار أو سلام.
ولقد استيقظ العالم قبل يومين على وقع مقتلة كبيرة في فرنسا، نسبت -مع الأسف الشديد- إلى مسلمين، انتقاما لهم من كُتاب ورَسَّامي مجلة معروفة برسوماتها المسيئة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-.
ولنا أن نتساءل: هل هذه وسيلة مشروعة للدفاع عن عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ هل الانتقام بالقتل سبيل إلى إطفاء إساءة المسيئين، وردع تطاول المغرضين؟ أم هو بمثابة صب الزيت في النار، وتأجيجِ العداوةِ ضد المسلمين عموما، ومسلمي فرنسا خصوصا.
فهل فطن هؤلاء إلى أن هؤلاء الأعداء بقدر ما يسبون رسول الله، ويسيئون إليه بهذه الرسومات، بقدر ما يزداد عدد الداخلين في الإسلام، الباحثين عن حقيقة هذا الرسول المتهم؟
وهل فطن هؤلاء إلى أن إقامة الحدود والقصاص هي من خصائص أولياء الأمور، وليست موكولة إلى الأفراد؟
وهل فطن هؤلاء إلى أن ضمن المقتولين مسلمَيْنِ لا يحل دمهما مهما بلغت إساءتهما، ما داما مُوَحِّدَيْنِ ربما لم تقم عليهما الحجة، أو ربما قامت الحجة عليهما ولكن ل-مَّا يستتابا؟
وهل فطن هؤلاء إلى تداعيات الحادث، التي بدأت تتجسد في إحراق المساجد وإغلاقها، والهجومات المتوالية على المسلمين في الأزقة والشوارع، استُعمل في بعضها الرصاص الحي؟
وهل فطن هؤلاء إلى أن وتيرة الكراهية ضد المسلمين زادت حدتها في فرنسا بعد هذا الحادث؟ فرنسا التي يعتنق فيها الإسلامَ 3600 فرنسي كل سنة، وذلك برفع الشعارات المناوئة للإسلام، المعادية للمسلمين، الضاربة في عمق استقرار إخواننا هناك، ممن كتب الله لهم طلب المعيشة هناك، أو طلب العلم، ممن يُقدر عددهم بأكثر من ستة ملايين نسمة، يؤدون صلاتهم ويتعلمون دينهم ولغتهم في أكثر من 2300 مسجد، مما جعل كل حكومة فرنسية لا تخلو من وجود وزير مسلم واحد على الأقل؟ مع تزايد حدة الكراهية والعنصرية في البلاد الأخرى، مثل هولاندا التي أصبح فيها مليون مسلم يخشون على أنفسهم الذهاب إلى مساجدهم، بعد أن سُجل في العام الماضي قرابة 20 حادثَ اعتداء ضد المساجد، وصارت شركات التأمين هناك تفرض على المسلمين أقساطا باهظة جدا على مثل هذه المخاطر، مقارنة بالكنائس والمعابد اليهودية، وصارت الرسومات المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- تظهر في بعض القنوات الرسمية، بعدما كانت قاصرة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي.
واليوم -في السويد- قرر عديد من المسلمين صلاة الجمعة في بيوتهم، خوفا من الحرائق والاعتداءات.
وهل فطن هؤلاء إلى أن المسلمين في ألمانيا أكثر من المسلمين في لبنان، وأن المسلمين في الصين أكثر من المسلمين في سوريا، وأن المسلمين في روسيا أكثر من المسلمين في ليبيا والأردن مجتمعتَيْن.. مما إذا استجمعته بلغ أزيد من 52 مليونًا من المسلمين في قارة أوروبا وحدها، يشكلون 5.5% من عدد سكان هذه القارة، وقد يصل هذا الرقم إلى الضعف خلال 20 عاما فقط، مما جعل الإسلام الدين الثاني والمعترف به رسميًا من السلطات الرسمية في الدول الأوروبية؟ ألن يمس كلَّ هؤلاء المسلمين نصيبٌ من لظى حادثة باريس؟
وهذه أمريكا، تشير الدراسات إلى أن 25 ألف شخص فيها يعتنقون الإسلام سنويا، وأن عدد المساجد فيها أصبح 1500 مسجداً، في نيويورك وحدها 120 مسجدا. وفي منطقة واحدة في “ديترويت” يوجد 100 ألف مسلم، يعيشون حياة الإسلام المتسامح، حتى صرح رئيس مخابرات المنطقة، بأنه يتمنى أن تُصبح كل الولايات في أمريكا مثل منطقة “ديترويت”، لأن نسبة الجريمة فيها صفر.
هؤلاء سفراء المسلمين الحقيقيون، الذين يفرضون على الآخر احترامهم، واحترام دينهم، وعبادتهم، ومعتقداتهم، بسبب حسن معاملتهم، ونقل الصورة الحقيقية عن دينهم، فلا جريمة، ولا مخدرات، ولا كذب، ولا غش، ولا اعتداء، ثم إن الله تعالى بعدها كفيل بأن ينصر دينه، وينصر نبيه.
فهل دفاعنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه الأحوال محوج إلى حسن التعريف به، وبيان جميل خصاله، وعظيم أخلاقه، وسديد حِكمه، ونبيل مواقفه، وجهيد عمله على تأليف قلوب المخالفين وإن كانوا كفارا أو مشركين؟ أم محوج إلى القتل، والتفجير، والعنف؟
أليس العنف في مثل هذه المواقف يولد عنفا مضادا إلى ما لا نهاية، مؤلبا لليمينين المتطرفين لتأجيج روح التشفي والانتقام، ورد الصاع صاعين؟ يقول تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ“. قال في البحر: “وحُكْم هذه الآية باق في هذه الأمة، فإذا كان الكافر في مَنْعة، وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول أو الله، فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر، ولا صنمِه، ولا صليبِه، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك”.
ولقد أوصى الله تعالى أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالحق. وقال بعض الحكماء: “النصح ثقيل، فلا ترسله جبلاً، ولا تجعله جدلاً. والحقائق مُرّة، فاستعيروا لها خفة البيان”.
يقول أحد المفسرين المعاصرين: “إن الحق -سبحانه- يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لأنك تريد أن تُحنِّن قلوبهم لتستميلهم إلى الإيمان، ولن يكون ذلك إلا بالأسلوب الطيب.. والدعوةُ في ذاتها جميلة، لذلك لا بد أن يكون عرضها جميلاً”.
وأنت البدرُ يسمـو في عـلاه *** ولكن ما استضاؤوا من سَناكا
هـمُ جهلـوك فاشتطوا عِـداءً *** فهل خَبَروك فاكتشفوا فضاكـا
إن من وسائل الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمثلَ أخلاقه، والتحلي بآدابه، والتجمل بحكمه وتوجيهاته، ونشر ذلك عبر المحاضرات، والندوات، والمؤتمرات، والصحف، والمجلات، والقنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية، فذلك السلاح الفعال، الذي يفرض على الآخر احترام المسلمين، فقد عامنا ديننا الإحسان إلى من أساء، والعفو عمن ظلم. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك” صحيح الجامع.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: “أَنَّ جَارًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَارِسِيًّا كَانَ طَيِّبَ الْمَرَقِ، فَصَنَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ جَاءَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:”وَهَذِهِ؟”، يقصد عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ”. فَعَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:”وَهَذِهِ؟”. قَالَ: لاَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:”لاَ”. ثُمَّ عَادَ يَدْعُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:”وَهَذِهِ؟”. قَالَ: “نَعَمْ” فِي الثَّالِثَةِ. فَقَامَا يَتَدَافَعَانِ حَتَّى أَتَيَا مَنْزِلَهُ“.
فما الذي دفع هذا الجار المجوسي إلى أن يصنع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرقا طيبا، ويدعوَه إلى بيته لإكرامه، إلا أن يكون قد اطمأن إلى حسن جواره، وأَمْنِه مما يسوؤه؟
وإن من وسائل الدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التسلح بالعلم، الذي استقوت به الأمم اليوم، وفرضت به سيطرتها على الشعوب المنهكة بالجهل، والضعف، والاقتتال الداخلي، والخصومات الجانبية. فلا يعقل أن يشتغل الواحد منهم ثمان ساعات في اليوم كاملة، ويشتغلَ الواحد من منا سبع عشرة دقيقة في اليوم، وأن يكون شعب الدانمارك خمسة ملايين يطعمون خمسة وخمسين مليوناً من البشر، كيف نطلب احترامهم لنا ونحن نأكل ما يزرعون، ونلبس ما ينسجون، ونستعمل من الآلات ما يصنعون، بل ويحلو لبعضنا أن لا تستقيم حياته إلا بتقليدهم في كل شيء، حتى في عاداتهم، ولباسهم، ولغتهم، وأعيادهم، في مخالفة صارخة لعاداتنا، ومعتقداتنا، ومبادئنا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي” البخاري؟
فـلـم يَـعُـدْ يُرهـب الأعـداءَ صولتُنا***وما أقاموا لـنا وزناً ولا شانا
لوِ احتـرمـناكَ ما هُـنَّا أو اجـترؤوا***على مقامكَ أو كان الذي كانا
لكنْ عصيناك في بعض الأمور فلم***نُفلح بشيء ولا حُلت قضايانا
الجمعة17 ربيع الأول 1436هـ/ 09 ينايـر 2015م.