حوار بين مولود ومفقود
مصطفى الحسناوي (من وراء قضبان الأسر)
السبت 07 شتنبر 2013م
كنت تنتظر مجيئي فإذا بي أنتظر مجيئك، تمنيت أن تكون أول من يحملني بين ذراعيك، أن تسمع صرختي الأولى، أن توشوش في أذني مؤذنا؛ تذبح خروف عقيقتي وتختار لي أجمل الأسماء.
اسمك: إصرار وثبات وتحدي ونضال وصمود وجهاد، كل هذه أسماؤك يا فلذة كبدي، ومنها أستمد كل تلك المعاني، لن أسامح من حرمني من لحظات الانتظار الممتعة تلك، وانتظار مجيئك، كنت أعد الأيام والأسابيع قبل أن تمتد أيادي الظلم والطغيان لتقبرني وتحول بيني وبينك، وتجعلك تعد الشهور والسنوات لمقدمي، وتولد يتيم الأب.
أبتاه: أعلم أن لا دخل لك في ذلك، وأنك لم تختر الابتعاد عني بمحض إرادتك بل قد فرضوا علي الوحدة كما افترضوها عليك، فقد أخذت أول درس لي في هذه الحياة، أول درس لي في السياسة؛ في الظلم؛ في الصبر وفي الحرمان؛ لقد رضعت كره وبغض من أسروك، مع أول قطرة حليب، واستنشقته مع أول ذرة أكسجين، لو كانت لهم عقول لعلموا أنهم إنما يزرعون بذور الكراهية ولو كانت لهم قلوب لاستشعروا وأحسوا معنى الرحمة، ولو كان لهم آباء لعرفوا معنى الأبوة والبنوة.
بني: حقا فقدتم مقامي بينكم بجسدي لكنني معكم بقلبي وروحي وكل أحاسيسي، أتخيل كل لحظة من لحظات نموك، أتصور كل حركة من حركاتك، أقوم فزعا من نومي في زنزانتي بعد أن يتناهى لمسمعي صراخ أرقك أو ألمك أو طلبك، أو أي شعور تعبر عنه بصراخ يصمّ أذني، فأقضي ليلتي بيضاء بلا نوم، وأقضي نهاري أسودا أطارد غمّا بهمّ، أجمع شتات أفكاري ككلمات متقاطعة، كأجزاء صورة مبعثرة، فطنين صراخك الذي لم أسمعه من قبل يطرق مسامعي، لقد قرر الأعداء معاقبتك والانتقام منك بسبب أفكار والدك.
والدي: لست مذنبا فمهما ابتكروا واخترعوا من أساليب العقاب فإنهم لا يزيدون الأمر إلا تعقيدا، إنهم يصبون زيت حقدهم وظلمهم على نار إصرارنا وثباتنا، وإن الأسود لا تلد إلا أشبالا، فإني أحس بك معنا في البيت، أشم رائحتك في ثيابك وأغراضك، وأسمع نبضات قلبك مع كل دقة من دقات قلب أمي، مع كل زفرة من زفراتها، وأرى صورتك في عينها وأحس بأفكارك تملأ جوّ البيت، منبعثة من مكتبتك ومقالاتك، ووسط كل هذا فأنا أحس بمتعة الانتظار، انتظار ولادتك وخروجك من بطن الحوت الذي ابتلعك، كما أحس بالافتخار لأني ابن ذلك الأسير الذي هو في أسره كما هو في حريته، في نضال مستمر وصبر وجهاد.
جهاد يا صغيري: شعور غريب ذلك الذي أحسسته اليوم، لم أجربه من قبل، اختلطت علي دموع الفرح بدموع الحزن، والشعور بالقرب وألم البعد، كنت أعيش كل لحظة من لحظات ولادتك، وفي نفس الوقت أحس كل ثانية من ثواني البعد عنك، كأنها سياط تلهب ظهري، وسهام تخترقه؛ صوبتها نحوي أنفس مريضة سادية.. ثم سرعان ما أستمد القوة من إيماني وآمالي، فأتخيل أن حكمهم الجائر ولّى وانقضى؛ وأني قربك أداعبك وألاعبك، فأعيش للحظات في حلمي الجميل، ثم تكدره علي كوابيس الظلم وأقضي الساعات بين حقد حقود، وحلم وردي، في مدّ وجزر تتراقص بين عيني تارة أشباح شياطين، فبركوا قضيتي وهندسوها وكانوا سببا في هذا الفراق، فألعن تلك الأشباح وأتمنى لو أحرقها، فلا تعاود الظهور مجددا في عالمنا، ثم تتراقص تارة أخرى صورك وملامحك الملائكية، فأحضنها وأقبلها وأحادثها، حديث المشتاق الولهان، حديث المفقود للمولود.