كرامة الإنسان بين تاريخ الروح وجغرافية الجسد
عبد القادر دغوتي
هوية بريس – الإثنين 26 يناير 2015
الإنسان مخلوق كرمه الله تعالى وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا. فقد خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته واستخلفه في أرضه وسخر له ما في السماء والأرض.
فلابد للإنسان أن يستشعر هذا التكريم وهذا التفضيل، وأن يحافظ على هذا المقام العلي الذي رفعه الله إليه، ويحذر من الانحطاط والانحدار، ويعلم أن له أعداء يتربصون به ويحقدون عليه ويحسدونه على ما أولاه ربه الكريم سبحانه من تفضيل تكريم.
وأشد هؤلاء الأعداء حقدا وحسدا هو إبليس اللعين؛ الذي نذر أن يُسخر كل إمكاناته ويبذل كل ما في وسعه، ليسلب الإنسان تاج الكرامة الذي توَجهُ به خالقه جل وعلا «قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم،َ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ» (الأعراف:16ـ17).
ويعود هذا الحسد الإبليسي إلى ذلك اليوم الذي أمر فيه الله تعالى الملائكة الكرام بالسجود لآدم، وكان إبليس في زمرتهم يشمله الأمر؛ فتكبر واستنكف أن يكون من الساجدين، إذ رأى أنه خير من آدم وأفضل.
ووجه الأفضلية التي زعمها هو أنه مخلوق من نار، بينما خُلق آدم من طين، وأن النار أفضل وأسمى من الطين، ولا يصح أن يسجد الفاضل للمفضول، حسب قياسه واستنتاجه الفاسدين. قال جل وعلا: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» (الأعراف:11ـ13).
إن إبليس اللعين الذي احتقر جسد آدم المصنوع من طين، لم ينتبه إلى أن في ذلك الجسد نفخة من روح رب العالمين، وأنه ما أُمر بالسجود لآدم إلا بعد أن سرت الروح في جسده، قال تعالى: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (ص:71ـ72).
إن تلك الروح التي تسري في جسد الإنسان الطيني الأرضي، هي نفخة عُلوية ربانية، وبها يكون للجسد شأنا واعتبارا، فإذا فارقته وانفصلت عنه، فلن يبقى له قيمة، بل يصير عبئا ثقيلا مزعجا مؤذيا لمن حوله، فيتعين الإسراع في دفنه ومواراته التراب الذي هو أصله ومادته، فيوضع فيه ويمتزج به.
فهل إذن من قيمة لجغرافية الجسد إلا بتاريخ استقباله الروح؟!
ما أتفه وما أسفه وأحقر تلك المقولات الجسدية الطينية التي يُنظَرُ لها العلمانيون وأصحاب الرؤى المادية الإباحية. أولئك الذين يختزلون قيمة الإنسان وكرامة الإنسان وحقوق الإنسان في جغرافية الجسد، وفي المقابل يزدرون ويستخفون بكل القيم الروحية التي تضبط الجسد وتستر سوءته وعورته، وتؤهله لأداء دوره وواجبه فوق الأرض؛ واجب الاستخلاف وإعمار الأرض بالخير والصلاح.
تلك القيم التي بها يكون الإنسان إنسانا و بها يكون أهلا للتكريم وللتفضيل الذي خصه الله به عن كثير من الخلق. قال ربنا الكريم سبحانه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (الإسراء:70).
مساواة متطرفة!!
يدندن العلمانيون كثيرا حول الحرية الجنسية ويجعلون منها قضية يثيرون حولها جعجعة عبر أبواقهم الإعلامية وعبر جمعياتهم ومنظماتهم «الحقوقية»، كما هو شأن علمانيي الأحداث والصباح. وهم يرون أن الإنسان المغربي يُضيق عليه في هذه الحرية ويُبخس حقه فيها.
لذلك فإنهم يسعون سعيا لرفع الضيم عن هذه الحرية وفك قيودها حتى تنطلق بلا أي عائق، فيتحقق بذلك المقصد الأسمى؛ مقصد المساواة التامة المطلقة.
ليس مساواة المرأة بالرجل، بل هي مساواة من درجة أعلى؛ إنها مساواة الإنسان بالحيوان البهيم.
فحسب مقولاتهم؛ فإن الحيوان أكثر تمتعا بالحرية الجسدية عموما والجنسية خصوصا من الإنسان. فهو يستمتع بجسده كيف يشاء، بينما يُحرم الإنسان من هذا الحق بفعل قيود الدين والقيم الدينية. تلك القيم التي تمنعه من الانطلاق في عالم الحيوانية البهيمية:
– فالإنسان مقيد بقيد ستر العورة والتزام مجموعة من الضوابط والآداب الشرعية في اللباس. وهذا انتقاص لحريته، بخلاف الحيوان فهو محرر من هذا القيد. فهو أكثر تحررا من الإنسان.
– الإنسان مُقيد بقيود الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، فيما يتعلق بشهوته الجنسية؛ فلا سبيل له إلى إشباعها إلا بعقد زواج شرعي صحيح مكتمل الأركان والشروط، وأن يكون الزواج محصورا بين الذكر والأنثى فقط ولا يصح أن يكون بين الذكر والذكر؛ أو بين الأنثى والأنثى، وهذا الزواج المشروط يترتب عنه تبعات ومسؤوليات… مما يكون معه قضاء الشهوة مُكلفا، إذ الغُنم بالغُرم.
أما الحيوان فهو متحرر من هذا كله، فهو يستمتع بلا قيود ولا عقبات ولا معيقات ولا تبعات. أنلوم الإنسان بعد هذا إذا طالب بالمساواة مع الحيوان؟!
– الإنسان مقيد في طعامه وشرابه بأحكام وآداب دينية، تحرمه من مما تهواه نفسه من متع وملذات، بينما الحيوان يأكل ويتمتع بلا أي قيد؛ أفلا يحق للإنسان أن يطالب بالمساواة، فيأكل ويتمتع كما تأكل وتتمتع الأنعام؟!
هذه هي المساواة المتطرفة التي يناضل من أجلها مناضلو العلمانية والإباحية. المساواة التي تضمن لهم حقوقهم المسلوبة: حق الزنا (الحرية الجنسية)، حق اللواط والشذوذ الجنسي (المثلية)…الخ.
والعجيب أن من هؤلاء المناضلين من وهن عظمُه واشتعل رأسُه شيبا، وتجعَد وجهه وجلده، واقترب موعد رحيله، ومع ذلك لا يزال يخوض مع الخائضين في مثل هذه التفاهات التي يسمونها حقوقا وحريات.
فما أسفه أحلامهم وما أضل أفهامهم وما أقسى قلوبهم!!
توازن واعتدال، لا يقرهما بنو علمان
إن هذا الضجيج وهذا العويل الذي يحدثه بنو علمان، حول حقوق الجسد وحرية الجسد وشهوات الجسد، يجعلنا نتساءل: هل القيم الروحية الإسلامية تُهين الجسد وتحتقره وتكبته وتمنعه مطالبه؛ مما يدفعه إلى الانتفاضة ضدها والسعي إلى التحرر منها؟
إذا تعلق الأمر بدين آخر غير الإسلام؛ فإنَا نجد فلسفات دينية ترى أن خلاص الروح والسمو به إلى أعلى الدرجات، يقتضي إهمال الجسد وكبته وتعذيبه، كما في البرهمية الهندية والمانوية الفارسية والرهبانية النصرانية وغيرها…
وهذا الاتجاه هو على النقيض مما يدعو إليه الجسديون الماديون. وكلا الاتجاهان متطرفان وحائدان عن الصواب.
وإنما الصواب في وسطية الإسلام، وفي توازن واعتدال القيم الإسلامية. فإن الإسلام يخاطب الإنسان باعتباره جسدا وروحا. ويرى أنه لا يتحقق للإنسان الهدوء والاستقرار والطمأنينة والسعادة؛ إلا بالاهتمام بهذين المكونين وإمدادهما معا بالغذاء اللازم الذي يناسب كُلا منهما.
فيُغذى الجسد بغذائه المادي الأرضي، وفق ضوابط مفصلة في شرع خالق هذا الغذاء، حتى يتحقق به الانتفاع بلا مفاسد ولا أضرار.
وفي المقابل يغذي الروح بغذائه الخاص المنزل من السماء، من صلاة وتلاوة قرآن وذكر وصيام وحج وعمل صالح؛ مع مراعاة طاقة الجسد وقدرة الجسد، بحيث لا يُكلف من الأعمال أكثر مما يُطيق.
فعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعنده امرأة، قال: «من هذه؟»، قالت: «هذه فلانة؛ تذكرُ من صلاتها، قال: «مه؛ عليكم بما تطيقون؛ فوالله لا يملَ الله حتى تملوا»، وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه» (صحيح البخاري،43).
وفي حديث الرهط الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا؛ كأنهم تقالَوها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء؛ فلا أتزوج أبدا، فلما أخبر النبيُ صلى الله عليه وسلم بما قالوا؛ أنكر عليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما ـوالله- إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني» (صحيح البخاري5063).
هذا هو منهج الإسلام؛ منهج الوسطية والتوازن والاعتدال. بهذا المنهج تُحفظ حقوق الروح والجسد معا، وبهذا المنهج تُحفظ كرامة الإنسان ويعيش في سعادة واطمئنان، وسُحقا لمنهج بني علمان.