قطع اللجاج بتقويم ما في اعتدال أخينا القباج من اعوجاج (ج2)
ذوالفقار بلعويدي
هوية بريس – الأربعاء 18 فبراير 2015
الاعتدال في الاستغناء بالقواعد والأصول عن تقليد الرجال
مما أثاره الأخ القباج في سلسلته (الاعتدال في نقد الرجال) لا سيما في مقاله الرابع منها، حيث اختار أن يكون الأشاعرة النموذج الأنسب الذي يهدف من خلاله تجسيد معاملة أهل السنة للمخالفين لهم. وذلك لاعتبارات عدة ترجحت عنده؛ منها كما هو ظاهر في مثل قوله: “إن أكثر العلماء في السابق واللاحق الذين أخذوا بما قرره الإمام الأشعري؛ علماء أفاضل من أهل السنة المتبعين للسلف الصالح؛ ولم يتعمدوا مخالفة النص أو رده بتأويلات باطلة”1.
والذي يتبادر من هذا القول في الذهن تلقائيا، هو أنه كما أن هناك كثرة أشعرية غير متعمدة لمخالفة النص وتحريفه. فهناك قلة أخرى هي أشعرية كذلك لكنها تعمدت مخالفة النصوص وتحريفها.
وهذا إن كان يستلزم شيئا من الأخ القباج، فهو يستلزم منه قبل أي شيء، إمدادنا بما نميز به بين الأشاعرة المتعمدين -حسب تصنيفه-، والأشاعرة غير المتعمدين. وذلك حتى لا نعمم حكم الاعتدال فيشمل المتعمدين المجروحين، ولا حكم التجريح فيشمل غير المتعمدين.
أما اكتفاؤه بذكر بعض أسماء غير المتعمدين منهم أمثال: الإمام البيهقي والإمام أبو عمرو الداني والإمام النووي والحافظ ابن حجر، دون تعريج لا من قريب ولا من بعيد على نماذج من الأشاعرة المتعمدين الذين يلحقهم حكم الابتداع. هو أمر فيه من التغرير ما الله به عليم. فكلام القباج بهذه الصورة فيه من القصور من حيث البيان، الشيء الذي لا يفي بغرض التمييز بين أشعري متعمد مبتدع، وأشعري (سني) مجتهد مخطئ غير متعمد، وهذا يجر حتما من لا خبرة له بالفِرق الكلامية إلى إحسان الظن بالمتعمد. ولا أخال أحدا يخالف في أن بيان حال المتعمد في مثل هذا المقام، مقدم على بيان حال غير المتعمد. فإنه إذا كانت إساءة الظن بغير المتعمد أمر سيء، فإحسان الظن بالمتعمد أمر أسوأ، لكونه يوقع المرء في المحذور، تماما كحال الإمام أبي ذر الهروي في قصته مع الإمامين الدارقطني وابن الباقلاني رحم الله الجميع. وقد عرض قصتهم الأخ القباج في سلسلته” (الاعتدال في نقد الرجال ح4)، مجسما بها حسن معاملة أهل السنة للأشاعرة، في السلوك العملي للإمام الدارقطني. ومقدما بها -حسب زعمه- بين يدي القارئ نموذجا حيا لما يراه اعتدالا؛ تقول القصة: “قال أبو الوليد الباجي في كتاب (اختصار فرق الفقهاء) من تأليفه، في ذكر العالم الأشعري: ابن الباقلاني: لقد أخبرني الشيخ أبو ذر (راوي صحيح البخاري) وكان يميل إلى مذهبه (أي: مذهب ابن الباقلاني)، فسألته: من أين لك هذا؟
قال: إني كنت ماشيا ببغداد مع الحافظ الدارقطني، فلقينا أبا بكر بن الطيب الباقلاني؛ فالتزمه الشيخ أبو الحسن الدارقطني، وقبل وجهه وعينيه! فلما فارقناه، قلت له: من هذا الذي صنعت به ما لم أعتقد أنك تصنعه؛ وأنت إمام وقتك؟
فقال: هذا إمام المسلمين، والذاب عن الدين، هذا القاضي أبو بكر محمد بن الطيب.
قال أبو ذر: فمن ذلك الوقت تكررت إليه مع أبي، كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لا يشار فيها إلى أحد من أهل السنة إلا من كان على مذهبه وطريقه”.
إلا أن المثير في الأمر والمؤاخذ على الأخ القباج، هو أن تعاليقه على هذه الحادثة جاءت على عكس مدلولها، وذلك كما في تعليقه الأول بقوله: (فهذا الإمام الدارقطني “الحافظ المحدث” (ت385هـ) يعامل الإمام ابن الباقلاني “الأشعري” (ت403هـ)، بهذه المعاملة، ويصفه بهذه الأوصاف. وهو سلوك باقي علماء الحديث الذين أدركوا ابن الباقلاني واطلعوا على علمه ودعوته)2.
ليت شعري ما سر اهتمام القباج بجانب معاملة الدارقطني، وتسليطه الأضواء على مقدمة الحادثة، دون جانب خاتمتها السيئة ونتيجتها الوخيمة وثمرتها الفاسدة. والتي تتجلى بوضوح في التأثر الشديد لأبي ذر الهروي بصنيع الدارقطني من توقيره لابن الباقلاني، الشيء الذي أدى بأبي ذر الهروي من اتباع هذا الأخير في بدعة الأشعرية، وسقوطه في أحضان الأشاعرة؛ والأعمال بالخواتيم. وقد قالت العرب قديما: ” خير الأمور أحمدها مغبّة” أي عاقبة.
فالقصة إن كانت تصلح للاحتجاج، فهي تصلح للتحذير من مدى خطر مدح المخالفين وتوقيرهم وتعظيمهم سواء كانوا متعمدين أو غير متعمدين، كما هو ظاهر من سياقها. فهي جزما تصلح للتحريض على بيان انحرافات الشخص لقطع الطريق عن قبول أغلاطه بغض النظر عن شخصه بعينه، وليس العكس.
ثم إن أقصى ما تصنف به هذه القصة؛ هي أنها حادثة عين، وحادثة عين عند الأصوليين لا يستنبط منها حكم، ولا تبنى عليها قاعدة. لكون أن صاحب الحادثة قد يعدل عن التعامل بالأصل لمصلحة راجحة تناسب حادثته، أو لحاجة ماسة.
ثم لماذا تعامل الأخ القباج مع الإمام الدارقطني في صنيعه هذا مع ابن الباقلاني وكأنه صنيع معصوم.
أليس بالإمكان أن يكون الإمام الدارقطني قد أخطأ تقدير مآل صنيعه؟
أليس بالإمكان أن يكون الإمام الدارقطني قد أخطأ تقدير قدرة ابن الباقلاني على التأثير في أبي ذر الهروي؟
أليس بالإمكان أن يكون الإمام الدارقطني قد أخطأ تقدير ضعف مناعة أبي ذر الهروي في مرحلته تلك عن مقاومة فكر الباقلاني؟
ثم لماذا لا يكون الإمام الدارقطني أصلا أخطأ في ثنائه على ابن الباقلاني ؟
الظاهر أنه يصعب قبول مثل هذا الاحتمال الأخير، والأخ القباج يزعم بل يجزم “أن سلوك الإمام الدارقطني مع ابن الباقلاني هو سلوك باقي علماء الحديث الذين أدركوا ابن الباقلاني واطلعوا على علمه ودعوته “، فإطلاق القول بهذا الجزم يثير في النفس شكوكا وتساؤلات حول مصداقية هذا الادعاء، لاسيما إن كان الاطلاق في مثل هذا الخبر يحتاج من صاحبه استقراء مواقف علماء عصر ابن الباقلاني. وهذا يدفع الباحث إلى التريث في قبوله والتحري قبل التسليم له.
ولولا أن التاريخ حفظ لنا خلاف زعم أخينا القباج وادعائه، حيث سجلت لنا كتب أهل العلم، أن من أهل العلم والفضل من خالف الدارقطني في سلوكه، لسلمنا لادعائه على الأقل لعدم العلم بوجود المخالف. أما وقد وجد المخالف وحصل العلم بوجوده، فزعم الأخ القباج يذهب هباء فى مهب ريح عاصف.
فهذا أبو نصر السجزي مثلا وهو ممن عاصر ابن الباقلاني يقول في كتابه الرد على من أنكر الصوت”: ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم، وهم أبو محمد بن كلاب، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، …، وفي وقتنا أبو بكر الباقلاني ببغداد، وأبو إسحاق الإسفرائيني وأبو بكر بن الفورك بخراسان، فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة…”3.
وهذا الشيخ أبو الحسن الكرجي يقول: “سمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني: سمعت شيخنا الإمام الزاذاقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفرائيني وكان ينهى أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام فظن أني معهم ومنهم… فقال لي: يا بني قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل – يعني الباقلاني- فإياك وإياه فإنه مبتدع؛ يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، وشهدوا علي أني لا أدخل عليه”4.
ليست المشكلة في أن يستحسن الأخ القباج صنيع الدارقطني أو صنيع غيره، فهذا شأنه إن أراد أن يسلك غير مسلك أهل السنة، يخبط في التيه بلا دليل، فالمسلك ليس مسلك الدارقطني وحده، ولا مسلك غيره، وإنما هو مسلك أمة أهل السنة والجماعة، طريقهم مستقيم، وأساسهم سليم، ومنهجهم قويم؛ واضح المعالم، ثابت الأصول، محكم القواعد، موحد المبادئ، مطرد الأهداف، موصول الأجيال؛ جيل بعد جيل على توالي العصور، يقتدي آخره بالهدى الذي اهتدى به أوله، من حاد يمينا أو يسارا لن يضر ولن يؤذي إلا نفسه، ولهذا قلت ليست المشكلة في استحسان الأخ القباج.
لكن المشكلة في جرأة جزمه دون أدنى تردد في دعواه، أن سلوك الإمام الدارقطني وصنيعه، هو سلوك وصنيع باقي علماء الحديث الذين أدركوا ابن الباقلاني، وهي في الواقع كما رأينا دعوى لا تستند إلى دليل، سوى الادعاء المتهافت!.
غير أن الأعجب الأغرب من هذا كله، هو أنه لم يعر في بحثه أدنى اهتمام لما وقع للشيخ أبي ذر الهروي. كما أنه لم يشر ولم ينبه القارئ أدنى إشارة ولا تنبيه لهذا الأمر، وكأن أمر انحراف أبي ذر الهروي عن عقيدة أهل السنة إلى عقيدة الأشاعرة، هو أمر هين لا يستحق الانتباه ولا الالتفات. لم يثر اهتمامه إطلاقا ما أثمره صنيع الدارقطني من أشواك أشعرية في حقل الإمام أبي ذر الهروي. فهو بدلا من أن يلفت نظر القارئ إلى هذا الأمر ولو بإشارة، ذهب ليضاعف من تعليقه بما يؤكد به كبير امتنانه بصنيع الدارقطني وذلك بقوله: (ولو فعل ذلك عالم معاصر؛ لانقضت عليه مخالب الغلاة المتعالمين!)5.
يتبع…..
ـــــــــــــــــــــ
(1) سلسلة الاعتدال في نقد الرجال ح4.
(2) نفس المرجع.
(3) كتاب ” الرد على من أنكر الصوت ” لأبي نصر السجزي (ص222-223).
(4) تأكيد المسلمات السلفية، لعبد العزيز بن ريس آل ريس، (ص:24).
(5) رقم 6 بهامش الحلقة 4 من سلسلة الاعتدال في نقد الرجال.